"في فخٍّ غريب وقعنا، في عالم الأرقام ضِعنا، كيف الخروجُ؟ من أين الطريقُ؟".
لَطالما ردَّدنا هذه الكلماتِ وأدمنّا لحنَها البارع في فترات خلت من عمرنا، لاسيما بعد الانتشار الواسع حينها للمسلسل الكرتوني "أبطال الديجيتال"، دون أن يدور في خلدنا أنها ستصبح لاحقاً خير معبّر عن مرحلة مهمة كانت تنتظر الكثيرين منا. من هنا استمدّ الشاب التونسي سامي الشافعي فكرة فيلمه القصير المهم للغاية بعنوان "سجن الأرقام".
ولمن لا يعرف هذا الفتى، فهو صانع محتوى ذائع الصيت محلياً وعربياً، ومن خلال العالم الذي انطلق منه وتعرّف عليه الجمهور به قرر أن يخوض تجربة فريدة من نوعها في الوطن العربي، كأول يوتيوبر يُبصر عمله النور من خلال قاعات السينما، حيث لم يتوانَ في طرح معاناة رواد السوشيال ميديا وصناع المحتوى مع هاجس الأرقام، وكيف يكابدون الأمرّين للخروج من سجنها، دون أن ينجحوا في كسر ذلك الحاجز الرهيب أو السيف المسلط عليهم، على شكل خوارزميات تجثم على الأنفاس، وتحيل حياتهم إلى جحيم لا يُطاق رغم المفارقة المريبة، إلا أن هؤلاء يطلّون ليل نهار أمام متابعيهم بصورة معاكسة تماماً، فيدّعون السعادة والعيش في النعيم؛ لكن الواقع مغاير، فهم مجبرون على مطاردة الأرقام وشبح اختفائها ونزولها في رمشة عين إذا استسلموا ولم يجدوا الأفكار أو الجديد المطالبين بالبحث عنه في ظرف زمني قياسي، كي لا تتحول تلك الحشود والملايين إلى سراب.
ببراعة، نجح سامي الشافعي في نسج خيوط عالم يعرفه ملياً، وهو من أبرز أسمائه؛ لكنه تحلّى بالشجاعة اللازمة لكشف وكسر تلك الصورة المزيفة العالقة في أذهان الناس، حول مَن يصنفون اليوم "بنجوم السوشيال ميديا".
بمزيج رائع بين كلمات شارة "أبطال الديجيتال" ومشاهد مكتوبة بعناية فائقة نجح الشاب التونسي العاشق للفن السابع في أن يخطو خطوة كبيرة من أجل تحقيق حلمه في عالم السينما، كمخرج ذي نظرة مختلفة مبشّرة بمستقبل واعد، لكن السؤال المطروح: هل يجرؤ الآخرون على مسايرة جرأة ومصداقية سامي في إماطة اللثام عن الضغط النفسي الهائل والمشاكل الجمة التي يعيشها هؤلاء الشباب، ممن وقعوا "أسرى" هذا العالم "البراق" في الخارج، والقاسي في أعماقه؟ وهل يمكن للآخرين أن يسيروا في هذا النهج كي يفضحوا كواليسه على سبيل المثال؟
شخصياً لم أكن من متابعي هذا الشاب التونسي ولا "زملائه" الآخرين في هذا المجال بالتحديد، لكن "سجن الأرقام" والفكر الراقي الذي حمله جعلني منتشياً وسعيداً بوجود نماذج واعية مثله، وضعت مصالحها الشخصية جانباً كي تصدح بالحقيقة، وتدق ناقوس الخطر حول موضوع حساس للغاية يتجاهله الجميع، مستسلمين لسطوته على حياتنا وكل تحركاتنا.
في انتظار أن تسير أسماء أخرى على نهج سامي الشافعي وتوثّق تجربتها الخاصة بمنتهى الأمانة والصدق، في عالم السوشيال ميديا وسجن الأرقام المرعب ذاك.
فيلم "سجن الأرقام":
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.