حسب الأساطير الإغريقية كان الملك "ميداس" يلمس الأشياء فيحولها إلى ذهب، ومازالت الأسطورة مستمرة إلى يومنا هذا ولكن على الطريقة الأمريكية، فالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي صار يلعب دور الملك ميداس ما زال يواصل تقديم هداياه التحفيزية الساخنة جداً للأسواق التي تتمسك ببريقها المبهر جداً حتى إشعار تعاف مرتقب.
وعلى مدار عام جرى من 25 مارس/آذار 2020 إلى 6 مارس الجاري تلقت الأسواق الأمريكية ثلاث حزمات مالية تحفيزية وافق عليها مجلس الشيوخ الأمريكي على أولها بقيمة 2 تريليون دولار أمريكي بعد يومين فقط من انهيار مؤشر "داو جونز" إلى مستوى 18086 نقطة على إثر مفاجأة كورونا القاسية. تلتها حزمة ثانية بنحو 0.9 تريليون دولار أواخر العام الماضي مع غروب شمس ترامب وسطوع مؤشرات الأسواق العالمية إلى مستويات قياسية بفضل المعروض النقدي الهائل من البنوك المركزية.
لم تكتف الأسواق السعيدة جداً بكورونا وواصلت تسعيرها لحزمة جو بايدن التي أقرها متعجلاً مجلس الشيوخ فى 6 مارس/آذار الجارى بقيمة 1.9 تريليون دولار لهزيمة تداعيات الوباء وإعلان انتصارات جديدة لقمم المؤشرات الأمريكية والأوروبية، ولكن إلى متى تستمر المساعدات؟
الإجابة كامنة في بطن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بشكل كبير، فهو من يملك إغراق العالم العطشان بتريليونات الدولارات، وهو من يعرف جيداً كيف يدير الأزمة لصالحه وكيف يصدر آثارها ويلقى مسؤوليتها الثقيلة على أكتاف الآخرين.
الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هو "ميداس العصر الحديث"، يلمس إلكترونياً أرصدة بنوك أمريكا لزيادتها من أجل شراء السندات التى تصدرها وزارة الخزانة فيما يعرف بامتياز "تسييل الديون" الذي لا تتمتع به أي دولة غير الولايات المتحدة صاحبة "السيد الدولار" قلب النظام المالي العالمي الحالي، فكل منتج حول العالم مسعر باسمه وتحت عباءته الواسعة جداً وأغلب الاقتصادات تعود وتضع ثقتها الكاملة فى سنداته ذات الجودة العالية.
تدريجياً يكتمل المشهد وتكشف أسباب حزم التحفيزات التاريخية وتتبدد مؤقتاً مخاوف مثارة حولها على لسان "جانيت يلين"، وزيرة الخزانة الأمريكية الواثقة من أدواتها للسيطرة على تضخم محتمل جراء وفرة المعروض النقدي الكبير في وقت قصير. وأيضاً على لسان تقديرات صندوق النقد الدولي مؤخراً التي تتوقع تعافياً قريباً وسريعاً للاقتصاد الأمريكي مقارنة بالاقتصادات المتقدمة في مواجهة إعصار كورونا الطويل.
وبالعودة لمؤشرات أسواق المال فلا تخلو يد الفيدرالي من مبررات متضادة لضبط فورانها.. النظارة السوداء جاهزة في الوقت المناسب لذلك حيث إعادة تدوير تحذيرات كبار المتخصصين من لعب الجميع بالنار، على حد وصف "وارين بافيت" عندما يسجل ملاحظاته المهمة حول تجاوز القيمة السوقية لأسواق الأسهم حالياً "42 تريليون دولار" ضعف الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي "21 تريليون دولار"، وهو ما حدث وقت فقاعة الإنترنت في مارس/آذار 2000.
بالإضافة للجدل حول مبالغة تقييمات شركات وول ستريت الأكبر خلال العقدين الماضيين، وسيطرة شركات التكنولوجيا حصرياً بأكثر من 21% على القيمة السوقية لمؤشر "إس آند بي" مقابل 18% لشركات متنوعة في عام 2000، وهو ما يلقي بظلاله حالياً على تراجعات ملحوظة تشهدها أسهم شركات مثل تسلا -35% وأبل -15% منذ بداية العام 2021.
إلا أن مبررات مواصلة سباق الأسواق لقمم أكثر بريقاً موجودة أيضاً في جعبة الفيدرالي على المدى القصير، من مقارنة ارتفاع معدل الادخار من الدخل السنوي للأمريكيين من 4.5% فقط وقت فقاعة الإنترنت مارس/آذار 2000 إلى أكثر من 13.5% حالياً، وكذلك انخفاض نسبة هامش الدين إلى النقد بين مستثمري وول ستريت من 79% في تلك الفترة إلى 72% خلال فبراير/شباط 2021، وأيضاً مقارنة انخفاض متوسط عوائد الاكتتابات الأولية لخمس سنوات متصلة عند بدء التداول من 75 % عام 2000 إلى 35 % بنهاية 2020.
ختاماً، يعلم الجميع أنه لا شيء مجاني والفواتير قيد التحضير، ويتحسب البعض لمسة عكسية من "ميداس" تعود على إثرها مؤشرات الأسواق العالمية إلى رشدها التقليدي، وعلى الأرجح سيحدث ذلك تدريجياً كلما تعالت نبرة الفيدرالي فى وجه العالم كله بإعلان تعافٍ قوي للاقتصاد الأمريكي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.