بعد طريقة القراءة الزمنية أو التتابعية التي عرضنا لها في مقالنا السابق تأتي الطريقة الثانية لقراءة تراث البشري وهي القراءة الموضوعية؛ أي تبعاً للموضوعات أو المجالات الكبرى التي اهتم بها البشري إبان حياته العلمية والعملية. وهذه المجالات أو الموضوعات ثلاثة حسب رأيي بالطبع: التأريخ، والفكر السياسي، والفكر القانوني.
البشري مؤرخاً
في مجال التأريخ اهتم البشري بالدرجة الأولى بتاريخ مصر الحديث؛ حيث تناول بالرصد والتحليل أغلب مراحل هذه الفترة التاريخية الطويلة منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن الحادي والعشرين. وفي هذا السياق يأتي كتابه عن "دولة محمد علي" كلبنة تأسيسية لعمله التأريخي ككل. وبعد هذا الكتاب يأتي في الترتيب كتابه عن "ثورة 1919″، ثم كتابه "سعد زغلول يفاوض الاستعمار" ويدور حول المفاوضات المصرية – البريطانية في الفترة من سنة 1920 حتى 1924م. أما فترة ما بين الحربين فيغطيها كتابه "شخصيات تاريخية" الذي تناول بالدرس أربع شخصيات مؤثرة في هذه الفترة وهم: سعد زغلول ومصطفى النحاس وأحمد حسين وعبدالرحمن الرافعي. ويأتي بعد هذا كتابه عن الحركة السياسية في مصر في الفترة ما بين 1945 وحتى 1952م، وكيف أدت لانقلاب سنة 1952. وبعد هذه المرحلة تأتي كتبه عن "الناصرية والديمقراطية"، و"الديمقراطية ونظام 23 يوليو"، و"دراسات في الديمقراطية المصرية". هذا بالطبع إلى جانب مقالات متناثرة جمع بعضها في كتابه "شخصيات وقضايا معاصرة" الذي قدم فيه رؤيته لعدد من الشخصيات الحديثة والمعاصرة من تيارات فكرية مختلفة منها: طلعت حرب، وأحمد لطفي السيد، ومحمد فريد أبوحديد، هنري كورييل، ومحمد حسنين هيكل، وعبدالعظيم أنيس، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وعادل حسين، ووليم سليمان قلادة، وعصمت سيف الدولة. وبعد هذا يأتي كتابه عن "مصر بين العصيان والتفكك" الذي تنبأ فيه بثورة يناير التي خصها بكتابيه: "من أوراق 25 يناير"، و"ثورة 25 يناير والصراع على السلطة".
ولهذا المجال تنتمي بالطبع كتبه حول الأقباط المسيحيين مثل "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" والتي تناولها منذ القرن التاسع عشر حتى انقلاب 23 يوليو/تموز، وأكملها بكتابه "الدولة والكنيسة". وقد تناول الموقف الفكري للكنيسة في كتابه "بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية" وذلك بعد تناوله لمبدأ المواطنة.
هذا كله يحتاج لدراسة متأنية ربما حان وقتها الآن خاصة أنه لا يتوافر عن هذا المجال لدى البشري إلا عدة مقالات متفرقة.
البشري مفكراً سياسياً
أما المجال الثاني في نتاج البشري فيخص مجال الفكر السياسي (الإسلامي)، وبصفة خاصة جانب الإصلاح السياسي المتصل بالدولة وعلاقتها بالجماعة الوطنية المتنوعة، وبالأوضاع القانونية فيما بينهما، ودور المؤسسات الرسمية في كل هذا. وهنا تجد كتابه "مشكلتان وقراءة فيهما"؛ عن مشكلتين ظهرتا عام 1990 ومثلتا نموذجاً واضحاً للتصدع الثقافي والسياسي، وهما: مشكلة نظام الحكم والبناء السياسي الداخلي للأمة، ومشكلة النفوذ الأجنبي المقتحم المتمثل في كارثة الخليج. ثم سلسلة كتبه: "في المسألة الإسلامية المعاصرة"، التي ضمت كتباً منها: "الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر"، و"نحو تيار أساسي للأمة"، و"منهج النظر في تشكل الجماعة السياسية وحركتها التاريخية". وفي هذا السياق يأتي أيضاً كتابه "من وعي الوجود والانتماء إلى محنة التجدد والاستقلال" وبه دراسته المهمة عن "الثورة المصرية والنخبة السياسية" التي نشرها بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني سنة 2011. وفي هذا السياق أيضاً يأتي آخر كتبه، حسب علمي، وهو "التجدد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة".
وانطلاقاً من تفكيره السياسي طور البشري مجموعة من المفاهيم الأساسية سأتناولها في الفقرة الأخيرة من هذا المقال تحت عنوان "مفاهيم طارق البشري".
البشري كمفكر قانوني
أما المجال الثالث والأخير في هذا العرض فيتمثل في نتاجه القانوني المتخصص في الشأن القضائي؛ سواء عن منظومتي التشريع والقضاء أو عن دراساته للقوانين والتشريعات. ودائماً ما أقرأ أو أسمع لكبار القانونيين أنه أنجز خلال ولايته القضائية ثروة قانونية عظيمة تتمثل في أبحاثه وفتاواه في الموضوعات القانونية التي عرضت له في إطار عمله رئيسا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع. ولكن للأسف أغلب هذه الكتابات مجهول لنا ولا يعرفها إلا المتخصصون والممارسون للعمل القضائي. ونتمنى أن تطبع يوماً وأن نتمكن من الاطلاع عليها بسبب أهميتها لموضوع اهتم به وهو "التأويل القضائي في مصر المعاصرة". أما المتوافر حتى الآن من هذا النتاج القانوني فكتاباه: "الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي"، و"السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية".
ويمكن أن أضيف هنا كتابه عن الجهاز الإداري للدولة المصرية. وهذا الكتاب كان بالفعل ينقص المنظومة الفكرية لطارق البشري، بل ينقصنا أيضاً، وينبغي دراسته بدقة وتمعن. وقد شبه البشري هذا الجهاز الإداري بالقلعة المحصنة، من يدخلها ولا يستطيع السيطرة عليها سيصبح سجيناً فيها، ولا وسط في هذا حسب رأيه. وكان هذا بالمناسبة أحد أهم الأسباب لإقصاء الرئيس محمد مرسي؛ فالإخوان حسب البشري لم يدركوا أن جهاز إدارة الدولة غريب فى تركيبته عنهم، وأن السيطرة عليه وقيادته من عناصره أمر بالغ الصعوبة جداً ويقترب من حد العجز إذا كانت العناصر القيادية غريبة عنه. وهذا ما كان بالفعل مع الرئيس مرسي، وكما نعلم فقد كان كبار موظفي الجهاز الإداري للدولة يتفاخرون علناً بأنهم كانوا لا ينفذون أوامر الرئيس مرسي، وأنهم لم يكن يبلغونه بالمعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات!
ويتصل بهذا المجال أيضاً كتابات البشري المهمة حول منظومة القضاء المصري، ومنها "القضاء المصري بين الاستقلالية والاحتواء"، و"القضاء المصري وعلاقته بالحكومات المختلفة". وفي هذه الجزئية تحديداً كان البشري، كما يقال صاحب مصلحة! فهو يبجل تلك المنظومة وينظر إليها نظرة مثالية، ويدافع عنها وعن سلطاتها ضد الجميع حتى المؤسسة العسكرية. ومن هذه الجزئية تستطيع أن تفهم أيضاً مواقفه المعارضة للإخوان أثناء فترة حكمهم. وهذا في رأيي أمر إنساني وطبيعي؛ فهذه المنظومة وفرت له الأمان الوظيفي، ولأحد أبنائه أيضاً، وأعطته مكانة وإمكانية تأثير هائلتين.
مفاهيم طارق البشري
وفي كلتا القراءتين، سواء الزمنية التتابعية أو الموضوعية المجالية، يحتاج المرء للإلمام بعدة مفاهيم أساسية في فكر طارق البشري، أولها في رأيي "مفهوم المعاصرة" وهو عنوان أحد كتب البشري. ويتصل بهذا مفهوم آخر هو "الموروث والوافد" والصدع الحادث بينهما. وظني أننا يمكن أن نفهم كيف طور البشري هذين المفهومين عندما نقارنهما بمفهومي "الأصالة والمعاصرة" عند زكي نجيب محمود وعند أصحاب مشاريع إعادة التدوين منذ أحمد أمين وحتى محمد عابد الجابري. أما المفهوم الثالث فهو "مفهوم الحوار الوطني" الذي يقوم على العدل والمساواة بين مكونات الأمة ويمثل وسيلة أساسية لتحقيق المفهوم الرابع، وربما هو أقدم المفاهيم لدى البشري، وهو "مفهوم الاستقلال الوطني"، سياسياً واقتصادياً. وهذا المفهوم هو أصل لمفهومه الخامس المتطور أو الأوسع عن "الاستقلال الحضاري". وهنا ستجد كتابات كثيرة للبشري تحت "مفهوم الحوار" مثل كتاباته عن المسلمين والأقباط وعن الإسلام والعروبة وعن الجماعة الدينية والجماعة الوطنية وعن "الحوار الإسلامي العلماني" وضرورة رأب الصدع بين التيارين عن طريق الحوار.
مثل هذا الحوار سيؤدي للمفهوم السابع عند البشري وهو "مفهوم التيار الرئيسي للأمة" الذي يجمع تيارات أو قوى الأمة ويحافظ على وحدتها رغم تنوعها. والحقيقة أنني لم أفهم هذا المفهوم جيداً إلا بالنظر لدولة مثل إسرائيل، فرغم التنوع داخلها إلا أن بها تياراً رئيسياً له هدف رئيسي ورؤية واضحة لتحقيقه بأي شكل. فإذا حللنا مشكلة الموروث والوافد وتمكنا من الاستقلال الوطني وأصبح لدينا تيار رئيسي ذو رؤية واضحة يبقى المفهوم الأخير وهو "المشروع الوطني أو الحضاري" الذي ينجز الهدف الرئيسي للأمة وهو الوصول لمرحلة "التجدد الحضاري"، وكان هذا بالمناسبة هو عنوان كتاب طارق البشري الأخير: "التجدد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة".
سوف أكتفي بهذا الآن وأترك التوسع في تناول هذه المفاهيم وغيرها لدراسات أخرى، ولكنني أنتهز الفرصة هنا لكي أحذر القارئ من أنه إذا عزم على التوفر على قراءة تراث البشري، كما سأفعل أنا من جديد (إن شاء الله)؛ فلابد أن يعرف أن هذه الكتب والدراسات كتبت دوماً بصرامة منهجية ولغة قانونية دقيقة شديدة التكثيف تتحرى الدقة في اختيار الألفاظ وتقتصد جداً في استخدامها. وقد تأثر البشري في هذا كما قال مرة بأسلوب أستاذه في كلية الحقوق الشيخ المجدد عبدالوهاب خلاف، رحمه الله. ولهذا كله فقراءة البشري تتطلب من قارئها جهد التمهل والتدقيق حتى يستوعبها ويضعها في سياقها الفكري المناسب داخل المنظومة الفكرية لطارق البشري. وبالتوفيق للجميع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.