لقد أحدث الكتاب الذي أصدره الفيلسوف والشاعر الألماني "غوته" الكثير من الفوضى والآلام.
كان غوته شأنه شأن روسو ونيتشه من الكتاب الذين يعتزون بأنفسهم إلى حد الغرور، وكان الثلاثة ممن لا يكبتون مشاعرهم وأحاسيسهم ويطلقون العنان للقلم كي يعبر عما يخالجهم، ولهذا نقرأ لنيتشه "أحب الذين يكتبون بالدم"، والدم هنا هو المشاعر الفياضة التي لا تكبحها قوى خارجية فتنفجر على شكل إبداعات يكتب لها الخلود.
فوحدهم الذين يكتبون بالدم يخلدون، ولعل أشهر ما خلد في هذا الجانب شعر دانتي "الكوميديا الإلهية" والتي كتبها بعد طرده من فلورنسا مدينته المحبوبة والتي خرج منها وهو يبكي ويلعنها ويلعن أهلها، لعناً مشوباً بالحب وكرهاً يعلوه الهيام فيطفو على السطح أبيات شعر خالدة- ولو أنه ذكر الإسلام ونبيه بالسوء.
غوته يقع في الحب
بينما كان غوته يتدرب على المحاماة وقع في حب فتاة تدعى "شارلوت" ووقعت هي في غرامه، ولكن لم يكتب للعاشقَين اللقاء، كون شارلوت مخطوبة لشاب آخر وهو من سيصبح في ما بعد صديقاً لغوته، وهكذا جمعت بين الثلاثة الصداقة المبطنة لحب يعلم به الله، وبقي الحال هكذا إلى أن قرر شاعرنا مغادرة مدينة "فتسلار" الألمانية وترك شارلوت لخطيبها "كستنر".
سنة 1773 نشر شاعرنا "آلام فرتر" وهي رواية جمع فيها هموم وأحلام الشباب الألماني وقص فيها ما وقع بينه وبين شارلوت من حب ولكن دون استحضار شخصيات أخرى. ولكن في الرواية أضاف غوته شيئاً تسبب لما أشرنا إليه في البداية (الفوضى والآلام) فقد انتحر البطل في النهاية بعد أن فشل حبه.
وما إن انتشر الكتاب حتى شهدت ألمانيا وأوروبا حالات انتحار كثيرة فأُلقي اللوم على غوته وقيل إن الكتاب يحمل الشباب على الانتحار. ولهذا قال غوته "كن نفسك".
لعلك تتساءل ما علاقة هذه القصة بالعنوان؟ لا تقلق، سأريك دار الحقيقة فتمهل عليّ.
هل نحرق الكتب؟
وأنا متجه إلى المنزل أستقل سيارة أجرة ذات اللون الأصفر ففي مدينة تطوان كل شيء يشير إلى السعادة الساكنة، الجبال وحتى سيارة أجرة فاقع لونها تسر الناظرين، وفي تطوان تلتقي كل شيء جميل وكأن الجمال خلق لتطوان وهي خُلقت له، المهم، حدث أن تناقشت مع سائق التاكسي والذي سيتبين أنه ملتزم إلى درجة كبيرة، فما إن ذكرت له أحد الأفلام الأجنبية حتى قطب حاجبيه وتغير لونه ولما ذكر أحد الفلاسفة الألمان كاد يقتلع المقود وهو يحذرني ويشدد علي ألا أقرأ له ثانية فهو ملحد ويدعو إلى الإلحاد وأظنه والله أعلم أنه قال في نفسه دون أن يبدي له إن هذا الراكب من الزنادقة.
ولكن ما إن شرحت له جيداً واستشهدت ببعض الآيات التي تحثنا على التعلم وطلب الحكمة حيث ما كانت "الحكمة ضالة المؤمن"، حتى انفرج كربه وبدا على وجهه السرور ودعا لي من قلبه أن يوفقني الله فيما أريده وأن يشملني برعايته. لقد كان بالفعل رجلاً طيباً اقتنع بالحجج العقلية وتقبل الأفكار من شخص يصغره سناً، ولم أشأ أن أخبره أني أستاذ لكي لا أمارس عليه أي ضغط وكي يتقبل الرأي دون أن يتوه في دروب "مغالطة المصادر".
"الكتب تختلف مواضيعها وتواريخ نشرها كما يختلف بكل تأكيد أصحابها ومعتقداتهم وخلفياتهم السياسية.. إلخ".
ومن الأمور التي اعتدت أن أفعلها ألا أبحث عن سيرة صاحب الكتاب (الكتب الجديدة بالنسبة لي لا المعروفين) ولا أسأل عن عشيرته أو دولته حتى أفرغ من الكتاب، وذلك كي يتسنى لي معرفة وتحديد ميولات الكاتب وقياس أفكاره، انطلاقاً من معارفي الشخصية وخبرتي حتى لم أعُد بحاجة إلى معرفة أصل الكاتب أو خلفياته، فالأمر بالنسبة لي غير مهم، والكاتب في حد ذاته غير مهم، فالمهم ما كتبه وحسب.
قبل مدة وجدتني أستمع لأحد المفكرين الشيعة وأقرأ له بحماس شديد، وقبلها بكثير قرأت لقس مصري عن حكمة الزواج المقدس في المسيحية، وعرجت على كتابات للهنود… وهكذا، كنت أتنقل من فكر إلى فكر ووجدتني أمحو كل الأحكام السابقة حول هاته الكتابات وحول الثقافات وبت أقرأ وأستمتع بما أقرأ دون أن يؤثر ذلك على إيماني بل العكس، فما أعتقده- والله يعلم- أن إيماني بحقيقة هذا الدين اشتد وزادت صلابته، ولكن.
لنعد لغوته، فبسبب روايته التي ذكرناها انتحر كما قلنا الكثيرون، فهل نرميها أم نحرقها كما أحرقت كتب القوم؟
لا طبعاً، كون ما أثر في بعض ليس بالضرورة أن يؤثر في الجميع، وإلا فلمَ أسلمت طائفة من قريش وكفرت أخرى؟
بالإضافة إلى أن إحراق الكتب لم ينجح في اندثارها بل العكس زاد من شعبيتها كما حدث مع كتب فولتير مثلاً.
إن ناقل الكفر ليس بكافر وقارئ الكفر ليس بكافر، والمحب للمعرفة والنهم في القراءة لا يلام على ما يقرأ، فلا يجب أن نقول إن كتب ماركس حكر على الماركسيين.
لأن ماركس قال "إنه أفيون الشعوب" يقصد الدين، فرغم أنه قال هذا وغيره لكنه في جانب آخر يقدم من المعرفة التي نحتاجها الشيء الكثير وتزخر كتبه بما لذ وطاب من الحِكم.
أنحن مطالبون بترك كل هذا لأنه يرفض الدين؟
ثم ستنتقل إلى آخرين فنجد أن ميشيل فوكو مات بسبب ممارساته الجنسية الشاذة، أفنحرق كتبه؟
وهذا الرازي يقول ما يقول عن الإسلام (تاب في النهاية) أنحن مطالبون برمي ما كتبه؟
في الحقيقة لا أعرف بأي منطق يفكر هؤلاء الذين يلومون الناس على قراءتهم لفلان وعلان ولا أعلم أي عقل هذا الذي يجعل الشخص يتقوقع على ما تشتهيه نفسه وتميل إليه من أفكار وتصورات، فلا هو دأب الأولين ولا الآخرين.
وإني لأعتقد أن أي شخص يقرأ ما يروق فكره فقط ويزدري ما دونه لا خير يرجى منه ولا من علمه وهو كالشارب من البركة الضحلة تارك النهر العذب الرقراق العذب ماؤه..
هل يجب أن ألحد؟
قبل مدة صادفت فيديو لأحد الدكاترة العراقيين يتحدث فيه عن استحالة وجود مثقف متدين وذاك لأن الثقافة والمعرفة والعلم أمور مضادة للدين، وهذا رأي رغم غرابته لا ينفرد به هذا الدكتور العراقي، ولعله أخذه من أحدهم وخاصة في الغرب، فمنذ قرون ظل العلم يزدري الدين، فكل متدين غير مثقف بالضرورة، وهذا يفسر مثلاً الهجوم العنيف الذي تلقاه الكاتب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي بعد نشر لرواية "الإخوة كارامازوف" سنة 1880. وهي الرواية التي تنتهي بانتصار روح الأخ المؤمن الساذج، ولعل القارئ يعرف أن الرواية هي حقيقتها سيرة ذاتية والشخصيات الثلاثة ليس سوى مراحل حياة الكاتب.
وأنا أناقش أحدهم في إحدى المجموعات الفيسبوكية بادرني بقوله: "لو قرأت لفلان وفلان لغيرت رأيك". قلت له: "ولكني قرأت لفلان وفلان ولم ألحد" فلم يصدقني. إنه يعتقد بأن مجرد الغوص في الفلسفة وكتب الفلاسفة يعني إلحاد المرء، كما يعتقد أن من هو متدين لا يقرأ وحتى إن قرأ لا يفهم، وما هو ملحد فذاك الفذ الذي لا يضاهيه في العلم أحد. فكيف إذاً تقرأ ولم تلحد بعد؟ سؤال مضحك ومبكٍ في نفس الوقت.
سيقول المرء ولكن هناك من يصبح ملحداً بعد قراءته لكتاب وكتابين لماركس أو نيتشه ومنهم من لا يقرأ أصلاً ولا يعرف عن ماركس إلا "الدين أفيون الشعوب" وهذه كافية له كي يلحد ويتحمس في الدفاع عن أفكاره الجديدة فيرى ما دونه دواب ونعاجاً لا عقل لها ومن على شاكلته وإن كان أحمق معتوهاً، وربما العكس صحيح فترى الشخص يكفر الصغير والكبير ويلعن هذا، وذاك لأنه قرأ كتاباً أو كتابين ولا فهم أحدهما ولكنه قرر أنه على حق وأن ما دونه على باطل فبات الكل مجنوناً وهو أعقل العقلاء… وهكذا.
الناس ليسوا سواء، واختلاف أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم سر من الأسرار الإلهية واختلاف قلوب الناس وطريقة معاملتهم مما هو عجب العجاب، فترى الرجل طيباً ليناً، ولكن ما إن يتبين أنك على خلاف تام مع أفكاره حتى تتحول في نظره من صديق إلى عدو ولا لشيء إلا على أمور بسيطة للغاية، أمور تتعلق بنظرتك للحياة أو رأيك في قضية معينة، أشياء لا يمكن للمرء أن يسيء لمن لا يعرفهم بسببها. فما بالك لمن يعرف؟!
أي مسلم نريد؟
روي عن الحبيب، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام". رواه أبو داوود.
أليس على المسلم أن يطلب دواءه إذا مسته الضراء، فكيف لا تطلبه الأمة إذا ما مرضت وأعياها السقم؟!
تمر كل أمم شأنها شأن المخلوقات بمراحل عمرية، فمن الطفولة مروراً بالشباب والفتوة، وانتهاءً بالهرم. فإما أن تقاوم الهرم وهذا نادر وإما أن تموت وهو الأصل.
لا شك أن أمتنا هرمت وشاخت مذ قرون، فمن أمة تقود العالم إلى أمة يشمت فيها العالم، ومن أمة تعلِّم العالم إلى أمة يتعلم فيها العالم، وليس أمام المسلمين سوى التحسر على ماض تليد والخوف على مستقبل ينتظره.
يتساءل المسلم أي الدواء ينفع مرض أمته، ويبحث هنا وهناك، ويقترح ألف ألف دواء، ومع ذلك لا يرى علامات للشفاء، بل العكس.
لماذا لا يفلح المسلم في مراده؟ لأسباب متعددة على رأسها في اعتقاد الكثيرين وعلى رأسهم الدكتور والمفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، هو أننا نقوم بمعالجة أعراض المرض لا المرض الحقيقي؛ ففي نظر مفكرنا أن المسلمين لقرون حاولوا علاج الأمة إلا أنهم فشلوا وذاك راجع لأنهم عالجوا ارتفاع حرارتها الذي هو مجرد عرض، وهم يعتقدون أنهم وضعوا أيديهم على الجرح.
من بين الأمور التي يجب على المسلم أن يبحث عنها ويتساءل عنها "سر ازدهار الحضارة الإسلامية في الماضي"، وهكذا بإمكانه أن يقف بنفسه على كون قراءة الكتب كانت السر في النقلة النوعية التي عرفها العرب والمسلمون.
فمع توسع رقعة بلاد الإسلام ودخول أقوام جدد في دين دخلت معهم ثقافات وأفكار وأديان جديدة إلى المجتمع الناشئ، وهكذا وجد المسلمون أنفسهم في مواجهة هذه الأفكار التي سرعان ما حاول أصحابها مهاجمة الإسلام والنيل منه، الأمر الذي سيحاول المسلمون التصدي له ولكن كيف يفعلون وهؤلاء القوم يتحدثون لغة لا يفهمها المسلمون، وأقصد هنا استخدام الفلسفة والمنطق في النقاش، الأمر الذي أدخل المسلمين في حالة شك وتوهان مع إعصار الأفكار الجديدة؛ ورغم ذلك فإننا نجد ثلة من المسلمين الذين اتجهوا صوب الفلسفة يقرؤون كتبها، وهدفهم الرد على شبهات وأفكار من يهاجمون الإسلام.
لقد ساهمت كتب الفلسفة والتي هي في تناقض صارخ مع الإسلام وخاصة الفلسفة الهندية، في تقوية الإسلام، وساهم مهاجمو الإسلام دون أن يدركوا في نهضته، وبالتالي فكتب الفلسفة ساعدت المسلمين في الدفاع عن عقيدتهم ولم تؤثر إلا في ضعاف العقول، ولو أن البعض يرى أن حجة الإسلام الإمام "الغزالي" لم يسلم من السقوط في فخها وهو الذي سخر وقتاً طويلاً ليتعمق في كتبها ويرد على أصحابها ولعل أشهر كتاباته في هذا الجانب "تهافت الفلاسفة".
ساهمت إذاً الفلسفة والكتب التي تنتقد الإسلام في نهضة المسلمين، فكان لها التأثير الكبير على العلماء المسلمين ولعبت دوراً في الحفاظ على قوة العقيدة خاصة مع المعتزلة "راجع: عبدالرحمن بدوي، من تاريخ الإلحاد في الإسلام".
الذي أريده في مقالي هذا هو كون قراءة كتب ماركس ونيتشه وفرويد، وباكونين أو هولباخ، وغيرهم من الملحدين، لا يعني بالمرة إلحادك، بل العكس قراءة مثل هذه كتب تجعل المسلم أكثر تحصناً؛ بشرط واحد فقط، ألا وهو ما يقدمه "إخوان الصفا وخلان الوفا": أن تتعمق في العقيدة الإسلامية وتتبحر في الفقه الإسلامي قبل أن تلج الفلسفة.
في النهاية، المثقف حسب الدكتور علي الوردي "هو من يقرأ ما يناسبه وما لا يناسبه"، والإنسان حسب حنة آرنت "من يميز بين الخير والشر". والقراءة التي لا تعلِّم صاحبها التمييز بين الغث والسمين لا خير فيها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.