نجحت فنانات كثيرات في اكتساح فنّ الراي، أشهرهن الشيخة الريميتي والشابة الزهوانية بالجزائر، ويعرف الراي بأنّه أكثر الأنماط الموسيقية شيوعاً في منطقة الغرب الجزائري، وتعود ظروف نشأته إلى زمن الاستعمار الفرنسي، فيما ينسبه البعض إلى زمن التدخل الإسباني، ولكن من المؤكد أن ولادة هذا النمط الموسيقي كانت حديثة، فيصبح زمن الاستعمار الفرنسي هو الأقرب إلى نشأته، ليتطوّر فيما بعد الاستقلال ويصبح معروفاً إلى درجة العالمية في تسعينات القرن الماضي، على يد الشابّ خالد والشاب مامي بفرنسا.
ويقال إن تسميته بالراي جاءت من صلب القضايا التي يناقشها هذا الفنّ، والتي تعبّر عن هموم الشعب.
لا تخلو الأفراح الجزائرية بمنطقة الغرب الجزائري من حضور فنّ الراي، الذي يرقص عليه النساء والرجال على أسطح البيوت وفي قاعات الأفراح، على إيقاع نغمات الراي تنطلق الأجساد في حلبة الرقص، لاسيّما إن كانت الشيخة الريميتي تغني وتصدح بكلماتها الجريئة عن الحبّ "محايني، محايني"، "أنا وحبيبي في الجبل نلقط في النوّار"، "وغيرها من أغانيها الشهيرة.
ربّما أحبّت الجماهير المغاربية الشيخة الريميتي، لكونها امرأة بسيطة في مظهرها، فهي تشبه جدّاتنا في منطقة المغرب الكبير، كانت دائماً تفتح يديها المخضّبتين بالحنّاء في أغلب صورها، تماماً كما تدعو جداتنا في بيوتنا، أشهر كلماتها "أنا كحلة وفحلة ونجيب العشاء في المحنة"، أي أنّها سوداء ولكنّها تتمتع بالشجاعة والشهامة في المواقف الصعبة.
هي سعدية بوضياف، من مواليد 8 مايو/أيار 1923، بجهة الغرب الجزائري، عملت في صغرها عاملة في أحد المصانع بغليزان، ثم انتقلت للغناء مع فرقة المداحات، ولكنّها لم تلبث فيها طويلاً، فغادرتها لإحدى الفرق الموسيقية الجوّالة، التي أثبتت فيها موهبتها الكبيرة في الغناء، ليذيع صيتها في كلّ أنحاء الغرب الجزائري في فترة الأربعينات من القرن الماضي، وتصبح مطلوبة للغناء في الملاهي، سميت بالريميتي، وذلك بعد طلبها للنادل أن يجدد طلب المشروبات بالفرنسية:
"Remettez-nous à boire"
لم تكن ملامح وجهها مثيرة، بل كانت بسيطة، فهي ليست جميلة على الإطلاق، ولكنّها كانت تتمتع بشيء من السحر والجاذبية، فجذبت الأنظار حولها، سواء من الفرنسيين أو العرب، اختلافها وعدم تكلفها هي أسباب جعلتها محبوبة إلى اليوم رغم مرور سنوات طويلة على وفاتها، وربّما أيضاً شجاعتها في خوض قضايا النساء كانت سبباً من أسباب محبّة الجماهير لها، شجاعة لم تمتلكها بعض المتعلمات، فهي إن صحّ التعبير أول مدافعة عن الحريات الفردية للنساء في الجزائر.
لقبت الصحافة الفرنسية الشيخة الريميتي بأديث بياف الجزائر، وذلك لتشابه سيرة حياتها مع حياة المطربة الفرنسية، فقد قاست الشيخة الريميتي من ويلات اليتم والفقر والأميّة، وتجاوزت كلّ ذلك لتتربع على عرش الراي، وتصبح معشوقة الجماهير طيلة سنوات كما فعلت بياف بالفرنسيين.
عالم النساء المحرّم محور مضامين أغاني الشيخة الريميتي
كانت أغنية "هاك السرّة هاك السرّة" الأغنية التي فتحت أبواب الحظ على مصراعيه في مطلع الخمسينات من القرن الماضي للشيخة الريميتي، رغم أنّها لم تكن الأغنية الأولى لها، ولكنّها فتحت أبواب الشهرة للمرأة البسيطة التي اقتحمت مسامع الجماهير بسرد عوالم النساء الحميمية في مجتمع محافظ.
تميّزت الريميتي بأداء هذا النوع الإيروتيكي من الفنّ، والذي كان حكراً لسنوات طويلة على الرجال، بينما تُردده النساء في عزلة عن عالم الذكور حتّى لا يخدشن الحياء، ولكنّ الريميتي التي عاشت التشرّد وخبرت الحياة من أبواب مغلقة استطاعت فتح هذه الأبواب المغلقة بإحكام بشجاعتها وجرأتها، فنقلت من خلال تجاربها في الحياة وجه الحياة دون رتوش أو مساحيق تجميل، فكانت أغانيها صادمة إلى درجة منع تداولها في الإذاعات الجزائرية الرسمية.
عرفت الريميتي كيف تعبّر عن أعماق المرأة وعالمها الشهواني الحميمي الذي صرحت به في أغانيها، لتضرب عرض الحائط بالصورة النمطية للمرأة الجزائرية، وتزعزع المحرّمات الذكورية، لقد تحدثت في أغانيها عن الحبّ والشهوة والخمر، بل دعت في إحدى أغانيها إلى فقد عذرية الفتيات "شرق قطع وأنا الريميتي نجي نرقع".
لم تنجح الريميتي في دخول الإذاعات المحلية الجزائرية، فغنت بالإذاعة الفرنسية سنة 1954 عدّة أغان جريئة، أشهرها "الأحد والإثنين وبايت عندي ليلتين" و"فراش المحبّة" ولم يشفع للريميتي وقوفها إلى جانب المقاومة الجزائرية -فغنت ضدّ الحركي أي المتعاونين من الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي- في أن تحظى بدعم السلطات الجزائرية بعد الاستقلال.
صوت الريميتي صوت الوجع والنشوة
لم يكن صوت الريميتي صوتاً أنثوياً رقيقا، بل كان صوتها خشناً، ينمّ عن قسوة الحياة التي عاشتها، غنت عدّة أغان نقلت من خلالها مآسي النساء في حقبة الاستعمار الفرنسي، أشهرها قصة الشابة الجزائرية التي اعتدى عليها الجنود الفرنسيون، لتجهض فيما بعد على الشاطئ جنينها، في أغنية "يا جيش البحرية وكلاني الحوت، البحر حقرني"، كان صوتها الأجش والحزين مجمعاً للجاليات العربية في باريس، التي استقرت بها في فترة السبعينات، وذلك بعد تجاهل الجزائر لها.
أصبحت طيلة إقامتها في فرنسا نجمة البروليتاريا الجزائرية والمغاربية، والتي تهافتت عليها في كلّ الحفلات، وأغرقتها بالمحبّة والتقدير اللذين افتقدتهما في الجزائر، فغنت في أشهر القاعات الفرنسية، وحظيت باهتمام الصحافة الفرنسية.
كانت علاقتها بالحياة مليئة بالتناقضات، فبين الفرح والوجع غنت الريميتي فأسعدت الجميع، وفي نفس الوقت رثت نفسها في أغنية "شرقت، غربت"، التي روت فيها فصولاً من حياتها، ورغم أميتها فإن الريميتي استطاعت كتابة أغلب أغانيها، وكانت تردّ بقسوة على كلّ منتقديها، لاسيّما الأغنية التي ردت على الشامتين بها بعد إصابتها في حادث ودخولها في غيبوبة مؤقتة.
توفيت الشيخة الريميتي في 15 مايو/أيار 2006 بفرنسا، بعد أيام من حفلة شهيرة أقامتها بصحبة الشاب خالد والشاب عبدو والشاب خلاص بباريس، رثتها الصحافة الفرنسية، فيما اكتفت صحافة بلادها بذكر الخبر دون تكريم لمسيرتها الفنيّة.
تركت الشيخة الريميتي الحياة وهي في الثمانين من العمر، لم يؤثر السنّ على محبتها للحياة، فأقبلت عليها إلى آخر لحظة، قبل أن يكتب الموت الفصل الأخير لفنانة اكتسحت فنّ الراي الذي عُرف به الرجال، والتي كانت سبباً في اقتحام نساء أخريات هذا المجال، ليحطمن أسوار الممنوعات ويصدحن بالشهوة والحبّ في مجتمع محافظ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.