هدنة تكتيكية أمام تحديات مشتركة.. ما وراء التقارب المصري-التركي الحالي؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/09 الساعة 10:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/09 الساعة 11:00 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري ونظيره التركي

كما أكدنا في العديد من المقالات السابقة أن المصالح المشتركة بين كل مصر وتركيا في ملف شرق المتوسط موجودة بالفعل وليست بالقليلة، بل يكفي الإشارة إلى المكاسب التي يمكن أن تجنيها مصر من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، والتي توفر لمصر مساحات هائلة في مياه البحر المتوسط، ما يعني ارتفاع حصة مصر من ثروات الغاز الطبيعي والنفط الموجودة في شرق المتوسط. وهو الأمر الذي سيعود على مصر بمنافع ضخمة تتمثل في استثمارات مع شركات عالمية. 

وفي نفس الوقت تقطع الطريق على خط الغاز "East Med" الذي تسعى إسرائيل لإنشائه وتصدير الغاز من خلاله لأوروبا، وهو ما سيؤثر سلباً على تموضع مصر كمنصة إقليمية لتصدير الغاز، حيث هناك نية جادة لدى إسرائيل وقبرص واليونان في إنشاء خط غاز (East Med) واهتمام من الاتحاد الأوروبي لإنجاز الخط الذي سينقل الغاز من إسرائيل وقبرص عبر خط يمتد في المياه العميقة في البحر المتوسط ويصل إلى اليونان ثم إلى أوروبا؛ ليصبح بديلاً عن الغاز الروسي الذي يسيطر على السوق الأوروبية. 

وإذا تحول ذلك الخط الغازي إلى أمر واقع فإن مصر ستخسر دورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، ومن هنا نستطيع أن نفهم أنه ليس من مصلحة مصر أبداً إنشاء وإنجاز هذا الخط، ويتوجب على مصر عدم تسهيل عملية إنشاء ذلك الخط والذي سيتسبب بوضوح في القضاء على أحد أحلامها المستقبلية. 

خريطة للحدود البحرية في شرق المتوسط

أما في حالة إذا كان إنشاء الخط أمراً واقعاً لا مفر منه، فسيكون أقل الخسائر لمصر أن يمر في حدودها البحرية، ما سيوفر لها مكاسب اقتصادية من رسوم مرور الغاز في المياه المصرية، فضلاً عن المصلحة الاستراتيجية المتحققة من مرور الغاز القادم من إسرائيل إلى أوروبا عبر المياه المصرية، وبالتالي المصلحة المصرية باختصار فيما يتعلق بالخط هي عدم إنجازه، أو على أقل تقدير مرور جزء منه بالمياه المصرية.

"إن مراعاة مصر لـ"الجرف القاري التركي" خلال قيامها بأعمال التنقيب عن الطاقة في شرق البحر المتوسط "يعتبر تطوراً مهماً للغاية". 

خلوصي أكار، وزير الدفاع التركي 
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار/ رويترز

يتعجب العديد من المتابعين للشأن السياسي في الشرق الأوسط بشكل عام وللعلاقات المصرية-التركية بشكل خاص من التصريحات الإيجابية من الطرف التركي تجاه نظيره المصري في الآونة الأخيرة. 

لكن العجب يزول عند اعتبار وفحص المزايدة العالمية التي طرحتها مصر في نهاية شهر فبراير/شباط الماضي للتنقيب على البترول والغاز في 24 منطقة موزعة ما بين البحر المتوسط والصحراء الغربية وخليج السويس؛ حيث تقع المناطق التي طرحتها مصر في مياه البحر المتوسط غير المتنازع عليها، بعيداً عن مناطق الخلاف بين تركيا واليونان (المنطقة المحصورة بين خطي طول 30 و28 وهي المساحة الموجودة حول الخط الأصفر في الخريطة المرفقة)، وهي منطقة لم ترسم فيها مصر بعد حدودها البحرية سواء مع تركيا أو اليونان.

وفي نفس الوقت، فإن بعض المناطق التي طرحتها مصر في المزاد (المنطقة W18  في الخريطة المرفقة) تتوافق مع الرؤية التركية لحدودها البحرية الجنوبية أو ما يطلق عليه "الجرف القاري التركي"، مما جعل تركيا ترى المزايدة المصرية بشكل إيجابي يفتح الطريق أمام تهدئة العلاقات بين الجانبين، وانعكس ذلك على التصريحات التركية الرسمية سواء الصادرة من  وزير الدفاع التركي أو المتحدث باسم الرئاسة التركية الذي صرح بأنه "يمكن فتح صفحة جديدة في علاقتنا مع مصر ودول الخليج من أجل المساعدة في تحقيق السلام والاستقرار الإقليميين"، وغازل مصر واصفاً إياها بـ"قلب العالم العربي"، مشيراً إلى استمرار المباحثات بين البلدين في عدة قضايا، واستعداد أنقرة لترميم علاقتها مع القاهرة.

وبالبحث والتحليل يمكن مقاربة الاستراتيجية التي طبقتها مصر في طرحها للمزايدة الأخيرة من زاويتين. الأولى زاوية اقتصادية، تقوم على أن المصلحة المصرية تقتضي طرح مناطق بعيدة عن مناطق النزاع في شرق المتوسط حتى تستطيع جذب الشركات العالمية للاستكشاف والتنقيب فيها. ولأن حجم الاستثمارات في المياه العميقة في البحر المتوسط سيصل إلى مبالغ ضخمة، فمن البديهي أن تحرص الشركات العالمية على عدم الاقتراب من مناطق التوتر والنزاعات (على سبيل المثال، دخل عملاق النفط الأمريكي شيفرون Chevron بقوة في عدة مشاريع في شرق المتوسط في نطاقين مصريين ومنطقة في إسرائيل، وكلهم مناطق بعيدة عن مناطق التوتر والنزاع).

أما من الناحية السياسية، يمكن فهم طرح المزايدة بهذا الشكل على أنه نتيجة لتنسيق وترتيب مسبق مع الجانب التركي. وربما جاء ذلك الطرح بشكل أحادي من الجانب المصري حرصاً على التركيز على الفائدة الاقتصادية من جهة وسعياً لتهدئة العلاقات مع تركيا، وذلك التصور الأقرب للحقيقة.

شرق المتوسط والإدارة الأمريكية

ومن الأهمية بمكان فهم مؤشرات التهدئة والتقارب بين مصر وتركيا في إطار أوسع من التنسيق في محيط شرق المتوسط، حيث إن التحديات التي فرضتها السياسة الجديدة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن انعكست على توجهات كل دول المنطقة باتباع سياسات تختلف عن سياستها التقليدية، أو سياساتها إبان حقبة دونالد ترامب. وتشترك الحالة المصرية والتركية في نفس التحدي السياسي على مستوى العلاقات الدولية، ولو بأقدار مختلفة، فكلتاهما تعاني من علاقات فاترة مع الجانب الأمريكي حالياً. وهو ما دفع كلاً من مصر وتركيا إلى توجيه البوصلة نحو تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وفي نفس الوقت تهدئة الملفات الإقليمية. ويمكن من خلال هذا الإطار الأوسع فهم وتوقع استمرار التهدئة بين مصر وتركيا، ليس فقط في إطار ملف شرق المتوسط ولكن عدة ملفات أخرى.

ولكن، أي محاولة لترسيم الحدود البحرية بين مصر وتركيا إذا حدثت، ستكون ترسيماً جزئياً، لأن ترسيم الحدود بشكل كامل وفق الرؤية التركية سيتقاطع مع ترسيم الحدود المصرية اليونانية (المنطقة المظللة باللون الأصفر في الخريطة المرفقة)، ومن المستبعد أن تتجاهل مصر اتفاقية رسمية عقدتها مع اليونان منذ شهور قليلة.

ويبقى ترسيم الحدود الجزئي بين مصر وتركيا (المنطقة المظللة باللون الأخضر في الخريطة المرفقة) من الصعب توقعه دون أن يكون هناك تنسيق أو تفاهمات مع اليونان، لأن الترسيم الجزئي سيتقاطع مع مناطق الاختلاف بين تركيا واليونان، وقبول مصر ترسيم الحدود مع تركيا دون التنسيق مع اليونان سيعني توتراً في العلاقات بين مصر واليونان والتي ستنعكس على التحالف المصري اليوناني الإسرائيلي في شرق المتوسط أو ما يمسى "منتدى غاز شرق المتوسط"، وهو أمر يصعب تصوره في ظل حرص النظام المصري على تحالفاته الإقليمية التي ساهمت في بقائه في السلطة وعززت شرعيته الدولية منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013.

هدنة تكتيكية 

بالتأكيد، هنالك اختلافات، بعضها عميق وجذري، بين مصر وتركيا في التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية وفي الأولويات الاستراتيجية وفي طريقة التعامل مع الأزمات الإقليمية وفي نظرة كل منهما للآخر، وهي في مجملها اختلافات جوهرية ليس من السهل تخطيها في وقت قصير. لكن يمكن تصور اتجاه كلا الجانبين نحو  تهدئة "شكلية"، أقرب لهدنة تكتيكية في مواجهة المتغيرات الدولية. وربما تسمح الظروف الحالية بتنسيق ثنائي في بعض الملفات، ولكن سيكون من الصعب اعتبار التهدئة والوفاق اختياراً استراتيجياً في ظل الفروق الجوهرية والتباين في الأيديولوجية السياسية بين الجانبين. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

خالد فؤاد
باحث سياسي
باحث متخصص في شؤون الطاقة والعلاقات الدولية
تحميل المزيد