حبك الآن بغيتي ونعيمي وجلاء لعين قلبي الصادي
إن تكن راضياً عني فإني يا منى القلب قد بدا إسعادي
أبيات صدح بها أبو فراس الحمداني واصفاً حال المحب مع حبيبه، فجل هدفه أن يأنس بمحبوبه، وأن يراه ويملأ عينيه بطيفه، ويسعى أن يلازمه ولا يفارقه، وأقصى مناه أن يكون المحبوب راضياً عنه، فبرضاه يسعد القلب ويرضى.
الحب إكسير حياة وبه يتغير الحال، ويسعى المحب ما استطاع أن ينال رضا محبوبه، ويبذل في ذلك كل ما يطيق وما لا يطيق، ومن غرائب الحب أن المحب لا يرى فيمن يحب معايباً، ويرى فيه الجمال متمثلاً ولو راه الناس على غير ذلك الحال، ويرى في حديثه الصدق، وفي سكوته الفكر، وتتجسد الحقيقة في أفكاره، والحياة في لفتاته، فيشعر بالوحشة في بعده، والغربة عند الأحباب ليست غربة الأوطان بل تلك الساعات التي يقضيها بعيدا عمن يحب، فالحـب ينسيه نفسه فيتماهى ويذوب لحظات اللقاء، ومن أجل ذلك تجد المـحـب مجتهداً ليعرف وسائل التقـرب إلى محبوبه، فإن هو فعل فإنه لا محال مطيع له منفذ أوامره ولو لم يأمر.
قديماً قالوا.. إن الحب يبدأ بالسماع والنظر فيتولد عنه الاستحسان ثم يقوى فيصير مودة ثم تقوى المودة فتصير محبة ثم تقوى المحبة فتوجب الهوى فإذا قوي الهوى صار عشقاً ثم يزداد العشق فيصير المرء متيماً ثم يزداد المرء في التتييم فيصير ولهاً، وهو قمة ما يبلغه المحب.
وإن كانت هذه مراحل الحب بدءاً من الاستحسان انتهاء بالوله. فإن الإنسان يولد محباً وينضج معه الحب كلما نضج، فإن كان الحب لا يحتاج كتباً ولا بحثاً ليُتعلم، فإنه يحتاج مدرسةً لينضج، إنه الشعور الذي جبل الله الناس عليه، فهو محبة في ذاته، ونفخ فينا من روحه لنأخذ من صفاته ومن ارتقى زادت في روحه من روح الله محبة ووئام.
وتبدأ مراحل الحب مع ولادة الإنسان، فيولد مرتبطا بأمه مصدر البقاء والحماية، فهي له الطعام والجُنة. وهي دنياه ولا حب له سواها، ويكبر الرضيع، فيتعرف على الأشياء ويعرف التملك، فتصير له دمية يحبها ويخشى عليها ويدفع عنها؛ ويأبى أن يحوزها غيره أو ينزعها عنه، ويظل في هذه المرحلة لفترة قد تطول وقد تدوم، فمن الناس من يقف عند هذه المرحلة ولا يتخطاها، فالحب عنده يتوقف عند حب التملك فتصير له ملابس خاصته فيحبها وغرفته وأمواله وسيارته وبيته….. وامرأة يمتلكها. وهذا أخطر أنواع الحب، فلم تخلق المرأة يا هذا لتُمتلك، بل خلقت لتشارك الرجل وتقاسمه.
المرأة لم تكن يوماً كما يظن الظان أنها سقط متاع، بل هي شقيقة الرجل وتسبقه، فالمرأة نواة الكون وحاملة مسؤولية البقاء علي هذا الكون ومعمرته وهي مدرسة الحب بلا منازع وراعيته، فالحب يبدأ منها وينتهي عندها. فمن حب الله ورسوله إلى حب الزوجة والولد، مروراً بحب الوطن والعلم والعمل من ذا الذي أجاد في تعليمه غيرها.
فالأم هي أول من علمتنا كيف نحب معلمينا ورؤساءنا ونجلهم ونقدرهم، كما علمتنا أن نَحنُ على أبنائنا وتلاميذنا ومرؤوسينا، فللحب أوجه نتعلمها في أول مدرسة التحقنا بها، مدرسة العطاء، مدرسة الأم.
فالحب عندها هو العطاء بلا حدود، والحب هو البذل بلا مقابل، والحب أن تعطي ولا تأخذ.
هذه المعاني الجليلة التي تتوارى في عالم المادية المتوحشة المهيمن الآن على العالم والذي يفترس مشاعرنا ويخرجنا من طورنا الملائكي الرباني إلى البهيمية الترابية الدونية.
لكن الحياة لم تبخل علينا كل حين بنماذج توقظ فينا الملائكية وتحيها، فذلك الذي ضحى بعينه أو أحد أطرافه أو زاد فضحى بروحه من أجل قيمة مثل العدل أو الحرية، هو ذلك الإنسان ملائكي الخلق؛ الذي درس معاني الحب ووعاها وطبقها كما أراد خالق هذا الكون. لقد خلق الله هذا الكون وخلق معه قيم يضحي الناس من أجلها، كقيم الجمال والعدل والحرية، وعلى قمة هذه القيم تأتي قيمة الحب.
فلو نظرت لجل العبادات والمعاملات التي أنزلها الله، تجد أنها غلفت بالحب، وأساوي هنا بين الحب والرحمة والمودة في المفهوم والمضمون، فالله خلق هذا الكون وبناه على المحبة وفطر على هذه القيمة من خلق، فقبل أن يُخلق أدم، خلق الله الجن والدواب وفطرها على المحبة، فبقي غير المكلفين على فطرتهم، وبدّل المكلفون.
أما المكلف من خلق الله، وأقصد هنا الجن، فقد بدلوا وغيروا وتناحروا فبدلهم الله وخلق أدم، ولما خلقه أنزل في قلبه المحبة والرحمة، وأنزل معه الدين منهاجاً لكي لا يختلف الناس ويتباغضوا فعلمهم محاسن الأخلاق ومكارمها، وأعظم مكرمة أنزلها الله مع الدين هي الحب، وهذا مربط الفرس وزمام الأمور، فلو أحب الناس للناس ما يحبون لأنفسهم؛ لأخذنا على أيدي بعضنا ولسعدنا جميعاً. فذاك النبي صلى الله عليه يقف ويبكي عند مرور جنازة فيقول له الصحابة يا رسول الله هون عليك فإنها(أي الجنازة) ليهودي فيقول الرحمة المهداة (أليست نفساً) إنها الإنسانية والرحمة إنها المحبة لخليفة الله الذي كرم وخلق بيده، ويعلمنا نبيه كيف نجلها ونحبها ونقدرها، فالحب هو النواة التي تدور حولها العبادات والمعاملات وهي مفتاح النعيم في الدنيا والآخرة.
وقد أيقن الأولون مقصود الشارع فكانوا كما كان كل البشر مرهفي الحس أحرص على رضا ربهم وإصلاح حياتهم، فافشوا السلام والحب والوئام بينهم، وكتب بعضهم في الحب كتباً ومؤلفات يغفل عنها الكثير من أحفادهم. فلم يكن الإسلام يوماً إلا رسالة رحمة ومحبة ومودة فهذا الإمام الشافعي يكتب في الحب واصفاً وشارحاً والقارئ له في هذا الباب، سواء في مقاله أو شعره، يظن أنه لم يكتب إلا في سواه، وهذا ابن القيم يكتب مؤلفاً أسماه (روضة المحبين) عمدة في هذا المجال، نُسب إلى الإمام علي رضي الله عنه يكتب شعرا لحبيبته الزهراء يصف فيه غيرته عليها حين دخل عليها فرآها تستاك بسواك من أراك فأنشد قائلاً:
حظيت يا عود الأراكِ بثغرها أما خفت يا عود الأراك أراكَ
لو كنت من أهـل القتال قتلتك ما فـاز منـي يا سِواكُ سِواكَ
والسؤال بعد كل ما تقدم هل نفتقد الحب؟ والإجابة : أننا لا نفتقده بل نجهل أهميته وثقافته. فعلينا أن نعود إلى حياتنا العربية الشرقية الهادئة المملوءة بالسكينة والطمأنينة والمودة والرحمة، ستستقيم حياتنا، فلم تكن المادة يوما قادرة على أن تعطي الروح ما يمكن أن يأخذه الجسد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.