هذه المقالة هي الجزء الثاني من مراجعة كتاب "الشاهد المشهود.. سيرة ومراجعات فكرية" للكاتب الفلسطيني وليد سيف
أصبح صاحبنا –وليد سيف– معيداً في الجامعة الأردنية بعد صراع لم يمتد طويلاً، يشي الأمر بأن إعادة تصنيفه خارج دوائر اليسار ربما كان ما أعاقه مؤقتاً عن أخذ موقعه الذي أهله له تفوقه، بعدها انتقل إلى لندن مدينة المدن ليدرس اللسانيات في أحد أهم معاهدها، معهد الدراسات الشرقية، وهو المعهد المرموق وليقضي فيه فترة ثرية تمكّن فيها من تجاوز الماجستير إلى الدكتوراه باجتهاده ودأبه.
وهنا يتحدث كيف جاء لندن ليجد غربة عاطفية ونفسية ولغوية تجاوزها ليتفاعل مع جماليات لندن وثرائها الحضاري حتى أصبح يشتاق إلى لندن بعد عودته، لا يذكر هنا في السيرة إلا المحطات الرئيسية، ورغم ذكره لعلاقة ما مع المتاحف والأوبرا والمسرح والسينما فقد افتقدنا التفاصيل المهمة، خاصة أن في نجاحه في كتابة الدراما لا بد وأنه قد استفاد من تجاربه الدراسية والتذوقية وسياحته مع الفن في لندن، ولا بد من أن ينتظر أحدنا هنا توضيحاً كيف استطاع أن يتجاوز في تفاعله مع فنونها الكثير مما يصد المسلم، وقد أخذه هذا الفصل في الأغلب إلى الحديث عن لندن مع تجاربه التي سماها "مع الأخوة الأعداء"، في التفاعل مع ثقافة ثرية مغايرة لا يمكن اعتبارها كلها خيراً ولا شراً، وعن العلاقة المركبة بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية، خاصة أنه يرى أن أحد أوجه الصراع بينهما كان في التبادل والتفاعل، وأن كلتيهما كانت تنظر للأخرى على أنها الحضارة البديلة لا الموازية، وأن تنازعهما في الفضاء الحيوي نفسه قد جعل صعود أحدهما مرهوناً بتراجع الأخرى.
وقد أولى وليد سيف عناية مستفيضة بالحوار الثقافي الصعب بيننا وبينهم وذكر أنماطاً من الحوار المريض والعلاقة الملتبسة والجاذبية القاتلة للغرب التي أنتجت أنماطاً مختلفة من ردود الفعل بين العرب والإنجليز، فهو يرى أن قلة من العرب من يحسن الحوار فيقول حجته بأسلوب عقلاني مقنع دون أن يضحي بالحقوق والمبادئ، ولا يجامل على حساب الحقيقة، وفي نفس الوقت لا يمنعه نقد الغرب من الإقرار بعيوب الذات وقد سبق أن تحدث عن عمه الدكتور محمد إبراهيم كمثال للتوازن في هذه المواقف.
استغرق الحديث عن حوار الحضارتين جل حديث المؤلف عن تجربته البريطانية ، ورغم أن للمؤلف تجربة مهمة، وهي العمل في القسم العربي في الإذاعة البريطانية، وأحسب أن هذا القسم حفل آنذاك بوجود شخصيات عربية وازنة كالأديب حسن الكرمي صاحب البرنامج الشهير "قول على قول"، وكذلك الأديب السوداني الطيب صالح صاحب روايات موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين وغيرها، كما عمل أيضاً مع أحد أهم شعراء فلسطين المحتلة عام ثمانٍ وأربعين الأستاذ طارق عون الله ابن الناصرة.
"أمّلتني هذه التجربة بسردية ثرية" هكذا قال، لكن ذلك لم يتحقق إذ طغى الموضوع الفكري على السرد، وقد تكرر هذا في الفترة التي عمل فيها في إحدى الجامعات الأمريكية خلال سنة التفرغ العلمي، إذ تحدث عن الرأسمالية الأمريكية، ومظاهر التغول للمادة في أمريكا، وتاريخها حيث الاستقلال عن بريطانيا والحرب الأهلية واستعباد الأفارقة وتحرير العبيد، وقد كان من الممكن أن تغتني تأملاته في أمريكا بسرديته عن الحياة في أمريكا وأجوائها الجامعية، على نحو ما فعلته الدكتورة رضوى عاشور في كتابها الرحلة مثلاً، ويقال ذلك عن رحلاته العلمية إلى ألمانيا والنمسا.
في فصل بعنوان "وما أنا إلا من غزية إن غوت" يتحدث المؤلف عن تجذر العصبيات القبلية في الحياة العربية ويقدم بها تفسيراً أراه جديداً وذا حظ من الإقناع للفتنة الأولى أيام عثمان وعلي ومعاوية، ففي عهد عثمان أفسحت بعض تصرفات الخليفة باباً لتمظهر العصبية القبلية ضد قريش بالثورة، وهنا جاء إعلان الولاء لآل البيت هادفاً لاستخراجهم من قريش وبالتالي انصراف الولاء لجماعة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وزاد هذا تمظهراً في إبعاد العباسيين للقبائل العربية (التي ترى في حكم قريش إنقاصاً لمكانتها لا يبرره أن الرسول قرشي)، وكذلك المنافسة القديمة بين قيس ومضر التي استثمرها الحكام للتمكن عن طريق إذكاء الصراعات السياسية بينها في الأندلس، خاصة بعد عبدالرحمن الداخل، وهذا رأي مهم خليق بالدرس والتحليل.
الفصلان الأخيران من سيرة وليد سيف تناول فيهما تجربته في الدراما وتجربته في الشعرِ.
أما عن تجربته في الدراما فبدأت بانتقال مركز الإنتاج الدرامي من مصر إلى دبي، حيث جرى البحث عن مؤلفين جدد، وكان وليد سيف أحد الذين أجادوا في الدراما، خاصة الدراما التاريخية أيما إجادة.
وهنا يشرح لنا وليد سيف الفرق بين الدراما التاريخية من حيث أنها تتحدث عن الشخصية المركبة لأبطالها مقارنة بسير الشخصيات التي يتناولها التاريخ عادةً بشكل أفقي. فالتاريخ ينحاز إلى بطله وإنجازاته بينما الدراما تتحدث عن عواطفه وصراعاته النفسية والتاريخية وتحلل شخصيته نفسياً وإنسانياً، وهو يقدم هنا تحليلاً أدبياً درامياً جميلاً لشخصيتي صقر قريش والمنصور بن أبي عامر كما تناولهما في أعماله الفنية.
ويوضح لنا الأمر أكثر بتقديمه نموذجاً من تفاعل الناس العاطفي والإنساني، مثلاً تتفاعل ابنته ليلى مع طموح المنصور بن أبي عامر ثم تضطرب عاطفتها نحوه لأفعاله السياسية إلى حد عدم الرغبة في التصديق والأمل في تعديل السيرة ليتناسب مع الشكل الجميل الذي تعاطفت معه خلال الفترة الأولى من حياته، وهنا ترى صراع الطموح في نفس المنصور مع الحب والعاطفة، وترى حاجته للاستحواذ على القوة لدرجة القضاء غير الرحيم على كل منافسيه حتى من كانوا من حزبه.
نجاحه في استعادة قوة الدولة وهيبتها وتراجع هذه الهيبة بانتهاء حقبة المنصور، فالقوي الذي ينفرد بالحكم ويحقق للدولة قوتها سرعان ما تنكشف دولته بنهايته؛ لأنه لم يترك على مستوى مؤهلاته من يسد فراغه، ثم يتحدث حديثاً ممتعاً عن وجوده في شخصياته الدرامية وشبه شخصيات عائلته مع شخصيات التغريبة.
كما يتحدث في أحد فصول الكتاب الأخيرة عن إخراج الأعمال الدرامية، حيث يفتقر بعض المخرجين للقدرة على إخراج مشاهد الجموع إما ضعفاً ذاتياً وإما لضغوط التمويل، وهذا الفصل كان من أمتع الفصول خاصة في جانبه الأدبي، وإن كنت أتمنى لو تحدث لنا عن بعض ما يعانيه العمل الفني من سوء الاستقبال عند الجمهور الإسلامي، وطريقة التعامل مع الشخصيات النسائية والحدود المسموح بها في اللباس والمشاهد ليكون التمثيل صادقاً وغير مستهجن على المستوى الديني في آن.
إضافة إلى أنه لم يتطرق إلى علاقته مع المخرجين والممثلين الذين يراهم البعض نجوماً بينما يراهم آخرون نسلاً إبليسياً، ولعل الكاتب قد تجاوز ذلك بالحديث التقني عن الدراما، وإن كان هذا لا يغني عن تناول النقاط التي أشرنا إليها وغيرها مما كان وما زال سبباً في عدم ظهور دراما تناسب المزاج المحافظ وضوابطه الشرعية الحقيقي منها والموهوم.
أما فصله الأخير فقد حكى فيه عن تجربته الشعرية، حيث بدأ حياته الأدبيه شاعراً وتقبله الوسط الأدبي قبولاً حسناً أتاح له أن يصدر ثلاثة دواوين، وقبل أن ينتقل تماماً من الشعر إلى الرواية أصدر قصيدتين طويلتين تجاوز بهما ما سبق من إنتاجه، ولعله أراد أن يقول إنه متمكن من فنون القول قادر على العودة إلى الشعر إن شاء.
ويقدم هنا وليد سيف تساؤلاً يخرجه بشكل منطقي وهو: هل انتهى دور الشعر كديوان للعرب وكأبرز مهاراتهم اللغوية؟ أم أن المسألة هي أن جمهور الشعر هو الذي غادر تاركاً الشعر والشعراء لوحدتهم وأبراجهم العاجية. ويقدم هنا تفسيراً للانتقال من الشعر العمودي إلى التفعيلة وقصيدة النثر، فيقول إن الموجات الشعرية الحديثة لم تعبأ بالقاموس اللغوي القديم، فمهدت لجيل من الشعراء لا يمتلك الثراء اللغوي من ناحية مخزونه المعجمي وبالتالي لم يعد ممكناً له أن ينافس المتنبي وأمثاله.
إن شقاء الشاعر في رأيه يقع في سعيه الدائب إلى المغايرة من وجوه عدة: مغايرة المعيار اللغوي العام الذي يميز الشعر عن النثر، ومغايرة ما صار معياراً للشعر. ومغايرة كل النماذج والإنجازات الشعرية المرموقة في الماضي والحاضر.
وهو يرى أن تاريخ الشعر الطويل قد أوصل هذا التحدي إلى آفاق بعيدة جعلت الشعراء يجدون أنهم أوغلوا بعيداً في صحراء التيه وصار بينهم وبين جمهورهم مسافات، ولكن ألا ينطبق هذا على كل أشكال الأدب وإن لم يبد أن فنون السرد قد تأثرت به لأن الرواية والقصة جديدتان في تاريخنا الأدبي؟!
وعلى أي الأحوال فإن الكاتب يرى أن فنون السرد أقدر وصولاً إلى الجمهور من الشعر الذي يبقى أقرب إلى النخبوية، فجاء من ثم التحول نحو الرواية.
إن سيرة الأستاذ وليد سيف وجهده الإبداعي خليقان بالكثير من الدراسات والمتابعات و"الشاهد والمشهود" كتاب ثري يضاف إلى إنجازاته، وأحرى به أن يجتذب كل قطاعات القراء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.