كل الحكومات تكذب، لا مفاجأة في ذلك. لكن كذب الحكومات لا يعني بالضرورة أنها تحاول إخفاء الحقيقة عن المواطنين، في أحيان كثيرة يكون كذب الحكومات لأنها لا تعلم الحقيقة أصلاً. وأزمة كورونا أفضل مثال على ذلك.
تابعت الـ"نيويورك تايمز" من بداية الأزمة مقارنة الأعداد التي تصدر من الحكومات المختلفة عن الوفيات من الكورونا مع مقارنتها بأعداد الوفيات بصفة عامة، سواء كان سبب الوفاة هو الكورونا أو غيره. قبل الأزمة هناك معدلات معروفة لنسب الوفيات المتوقعة خلال هذا العام بالمقارنة بالأعوام السابقة. هذه المعدلات مبنية على الخبرات والملاحظات العملية السابقة التي يستطيع من خلالها العلماء والباحثون توقع عدد الوفيات في الشهور القادمة ونسبة التغيير عن الشهور أو الأعوام الماضية. الـ"نيويورك تايمز" في تقريرها الذي يتم تحديثه بصفة دورية وجدت أنه حتى شهر فبراير/شباط 2021 فإن هناك زيادة نصف مليون وفاة عالمياً عن الأعداد المتوقعة للوفيات هذا العام بعد إضافة أعداد الوفيات جراء أزمة كورونا. أي أنه بعد إضافة وفيات كورونا التي حدثت خلال العام الماضي بالإضافة إلى عدد الوفيات الذي كان متوقعاً خلال نفس الفترة وجدنا أن هناك نصف مليون وفاة زيادة!
في البداية، يجب أن نلاحظ أن هذه الوفيات الجديدة هي بفرض أن الأرقام الحكومية التي أعلنتها هذه الحكومات حقيقية (وتلك ملاحظة سنعود لها لاحقاً). لكن حتى مع فرض صحة الأرقام الحكومية، فإن هناك زيادة غير متوقعة في أعداد الوفيات. لا يمكن الجزم بما إذا كانت جميع هذه الوفيات بسبب كورونا. البعض منها قد يكون توفي بسبب كورونا. آخرون بسبب ضعف الرعاية الصحية التي حصلوا عليها بسبب انشغال مقدمي الصحة العامة بالأزمة أو بسبب الضغط الذي حدث على المستشفيات والأطباء، ما جعل لديهم قدرة أقل على التركيز مع حالات علاجية مختلفة. يخضع أصحاب الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكر وغيرهما إلى متابعة طبية مستمرة من أجل متابعة تطور الحالة الطبية لهم، والتأكد من التزامهم بالعلاج، واكتشاف أي مضاعفات بصورة مبكرة. هذه الخدمات تأثرت بشكل كبير بسبب كورونا في بلدان مختلفة. وبعض هؤلاء المرضى عانى من ضعف الرعاية الصحية المقدمة لهم أو غيابها في أحيان كثيرة. لذلك سيكون من المتوقع أن تزداد نسب الوفيات وسط هذه المجموعة للأسف على الرغم من أنهم لم يصابوا بفيروس كورونا. في نفس السياق، فإن الأطفال حديثي الولادة أو الأمهات الحوامل أو الأمهات المرضعات، كل هؤلاء يمكن أن تتأثر الرعاية الصحية لهم بسبب انتشار وباء كورونا. وقد تنتهي الأمور لا قدر الله بالوفاة، لكنها لن تسجل في السجلات الحكومية على أنها وفاة بسبب وباء كورونا.
مصر ليست من ضمن الدول التي تناولها تقرير النيويورك تايمز، لكن البي بي سي عربي قامت بعمل تقرير شبيه عن مصر، توصلت من خلاله إلى أن هناك 60 ألف حالة وفاة إضافية في مصر خلال شهور الذروة أعلى من المعدل المتوقع بناء على السنوات الخمس الأخيرة وبعد إضافة الوفيات جراء كورونا بفرض صحة الأرقام الحكومية.
إذا أضفنا إلى ذلك أن الحكومات قد تتبني سياسات غير دقيقة في إحصاء عدد الوفيات بسبب كورونا، أو أنها قد لا تقوم بتسجيل سبب الوفاة كورونا إلا في الحالات التي قامت بإجراء مسحات طبية فقط، أو أنها قد تطلب من المسؤولين تسجيل سبب الوفاة على أنه "أمراض صدرية" وعدم ذكر كلمة كورونا في التقرير، فإن كل هذه الأدلة تدعم أن الأرقام الحكومية التي تصدر من الحكومات المختلفة عن وفيات كورونا لا تعبر بشكل حقيقي لا عن الوفيات من كورونا ولا عن الوفيات التي ارتفعت بسبب التأثير المباشر وغير المباشر لوباء كورونا.
مع هذا فإن طريقة تعامل الحكومات مع إعلان الأرقام الخاصة بإصابات كورونا ليست متشابهة. هناك حكومات لديها قدرة على معرفة أرقام أقرب إلى الحقيقة لعدد وفيات كورونا لكنها لا تظهر هذه الأرقام، في حين أن هناك حكومات ليس لديها هذه القدرة أو أنها غير راغبة في الوصول إلى هذه المعلومات، لذلك فإنها تعمل على إخراج بيانات غير صحيحة. في كلتا الحالتين تخرج الحكومة بيانات غير دقيقة عن وفيات كورونا، لكنها في الحالة الأولى تحاول إخفاء الحقيقية وعدم إبرازها. أما في الحالة الثانية، فإنها لا تعرف ماهي الحقيقية أصلاً!
هل هذا الفارق مهم؟
بالتأكيد هناك فرق بين بلد لديه المعلومات الكافية التي تساعده على بناء سياسات صحيحة، لكنه يخفي هذه المعلومات عن المواطنين أو يمنع وصولها إلى قطاعات منها. وبين بلد آخر ليس لديه هذه المعلومات من الأساس فهو لا يعرف حقيقة الأمور ولا الطريقة المثلى للتعامل معها، وفي نفس الوقت فإنه يكذب على المواطنين. على سبيل المثال، يوجد إجماع الآن على التشكيك في الأرقام التي تصدرها الصين، وهي نظام سلطوي مغلق لا مكان فيه للحريات. لكن مع هذا كان لدى الصين القدرة على جمع المعلومات الكافية عن الوباء والاستفادة من هذه المعلومات في عمل سياسات لمواجهة هذه الأزمة.
ليس من وظيفة الباحث تبرير الكذب، أو تبرير عدم تحري الدقة في قول الحقيقة، وبالأخص إذا تم ذلك من طرف الحكومة. لكن من المهم التفريق بين حكومة تعرف حقيقة وباء كورونا وسعت لامتلاك القدرة للوصول إليها لكنها تحاول إخفاء الحقيقة أو جزء منها لاعتبارات سياسية أو حزبية ضيقة. وبين حكومة أخرى، لم يكن من ضمن أولوياتها وجود القدرة على الوصول لهذه الحقيقة ولا العمل على الاستفادة من الموارد المتاحة من أجل معرفة أفضل. النوع الأول من الحكومات قام بجزء من دوره لكنه أخطأ في الباقي. وبين حكومة أخرى لم تحاول أصلاً بذل الجهد للوصول إلى المعلومات المتاحة، ولا عملت على بناء تصورات حقيقية لواقع الأزمة في بلدانها، فانتهى بها المطاف إلى الكذب المستمر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.