"هذا الجيش الذي أراده غلوب خالصاً له ولبلده، منفذاً لمشيئته، مطيعاً لأمره، ضارباً بسيفه، هذا الجيش: جيش الشعب، جيش فلسطين، جيش القوميّة العربيّة المتحرّرة، جيش الأمة العربيّة الواحدة، يحتفل الآن بيوم تعريبه، يوم خلاصه، يوم انتصاره، يوم طرد الطاغية… وزال كلوب، فأصبح هذا الجيش العربي عربيّاً، عربيّاً لحماً ودماً، عربيّاً فكرةً وروحاً، عربيّاً أملاً وطموحاً".
هذه كلمات من خطابٍ ألقاه رئيس الوزراء وزعيم الحزب الوطني الاشتراكي سليمان النابلسي في الذكرى الأولى لتعريب قيادة الجيش الأردني.
قبل أربعة أيام، مرت الذكرى الرابعة والستون لتعريب قيادة الجيش الأردني في ظل حكمٍ ملكي مطلقٍ لا يختلف كثيراً عن الحال في حقبة ما بعد منتصف خمسينات القرن الماضي، فسنة العسل التي غرقت فيها الحركة الوطنية الأردنية وغرق فيها الأردنيون بين عامَي 1956-1957، والتي تخللها قرار التعريب ووصول أول حكومةٍ ديمقراطيةٍ إلى السلطة، كانت هي السنة الشاذة عن عقودٍ من الفساد والاستبداد واحتكار السلطة بين نخبةٍ سياسيةٍ تابعةٍ للكفيل الاستعماري الجديد "أمريكا"، بعد أفول الإمبريالية البريطانية وتراجع دورها الاستعماري.
تعريب الجيش الأردني: إنجاز الحركة الوطنية أم النظام السياسي؟
لا يمكن تناول قرار تعريب قيادة الجيش الذي تم تطبيقه عملياً عبر إنهاء خدمات جون باغوت غلوب أو "أبو حنيك" وطرده من البلاد، لا يمكن تناوله بمعزلٍ عن التغيرات السياسية التي عصفت بالعالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأفول دور القوى الاستعمارية التقليدية (بريطانيا وفرنسا بالذات)، في مقابل صعود الدور الأمريكي في مجابهة للمعسكر الاشتراكي الذي تزعمه الاتحاد السوفييتي. فعلى الرغم من الخطة التي كانت قد وضعتها بريطانيا لاستمرار هيمنتها على الجيش الأردني حتى ثمانينات القرن العشرين وفقاً للمعاهدة البريطانية الأردنية، فإن عوامل موضوعيةً أسهمت في تحويل النظام السياسي في الأردن لوجهة تبعيته صوب اليانكي الأمريكي، والذي كانت باكورته برنامج المساعدة التقنية الذي أقره الرئيس الأمريكي هاري ترومان أو ما كان يعرف ببرنامج "النقطة الرابعة"، والذي فرض تغيراً في العلاقة بين بريطانيا والأردن سينتج عنها لاحقاً أفولٌ للدور البريطاني، خصوصاً بعد وصول الملك الحسين إلى السلطة.
ولكن تلك التغيرات والظروف الموضوعية لا تلغي بأي حالٍ من الأحوال الظرف الذاتي، الذي تمثّل في ظهور تنظيم الضباط الأحرار الأردني بزعامة شاهر أبوشحوت ونمو النزعة القومية لدى الجيش بُعيد الهزيمة في فلسطين عام 1948، خصوصاً بعد تسبب "أبو حنيك" ومن خلفه الإدارة البريطانية في هزيمة الجيش وما نتج عنها في كارثة النكبة، وهو ما قام عبدالله التل قائد معركة القدس بفضحه بعد الهزيمة، فكان تحرك أبوشحوت ورفاقه لبناء تنظيمٍ سياسي داخل الجيش يدين بالولاء للأفكار القومية والوطنية بعيداً عن التبعية للإنجليز.
وتواصل الضباط الأحرار بالملك طلال بغيةَ إقناعه بضرورة وحتمية غلوب باشا والضباط الإنجليز من الجيش، وتلقوا بالفعل ردوداً ايجابيةً من الملك طلال الذي كان يحقد على غلوب ويضمر له الشر، ولكن تلك المساعي باءت بالفشل بعد تعرض الملك طلال لعارضٍ نفسي أدى لإبعاده عن الحكم، وتنصيب ابنه الشاب الحسين ملكاً على البلاد. هنا يبرز دور الضابط علي أبونوار في القيام بدور الوسيط بين تنظيم الضباط الأحرار والملك الحسين، بغية إقناع الأخير بطرد غلوب باشا وتعريب قيادة الجيش، ورغم تأخر الملك في الاقتناع بوجهة النظر هذه وسعيه خلف حلف بغداد الإمبريالي الذي أسقطت الحركة الوطنية قرار المشاركة فيه، مثلما أسقطت حكومة هزاع المجالي في خمسة أيام، إلّا أنّ الحسين اقتنع أخيراً بضرورة طرد غلوب، بعد تقديم الأخير قائمةً بأسماء عددٍ من الضباط الوطنيين لغاية تسريحهم من الخدمة، ما عجّل بقرار الملك طرد "أبوحنيك" وتعريب الجيش قبل تعيين علي أبونوار بالذات قائداً له وبمساعدة من قادة الألوية أبوشحوت وضافي الجمعاني ومحمود المعايطة وغيرهم من القياديين في تنظيم الضباط الأحرار، ليسير في خطوات تحديثٍ وإعادة هيكلةٍ للجيش وفق قيادةٍ وطنيةٍ ذات بعدٍ قومي.
الانقلاب على الديمقراطية
في سياقٍ مشابهٍ تمكّن الحزب الوطني الاشتراكي من الفوز في الانتخابات النيابية التي جرت بعد أشهر قليلة بعد قرار التعريب، ليتولى زعيم الحزب سليمان النابلسي رئاسة الحكومة مشكلاً تحالفاً وطنياً لم يناهضه سوى القوى الرجعية التي تمثّلت بمخلفات حقبة الملك عبدالله وبقايا التبعية للنفوذ البريطاني، وهو ما واجهه النابلسي وحكومته الديموقراطية الوطنية بإلغاء المعاهدة البريطانية الأردنية، والسعي لربط الأردن بعمقها العربي عبر التقارب مع الأنظمة القومية والوطنية المجاورة كما هو الحال في السعي للتقارب مع نظام جمال عبدالناصر في مصر، ومن ثم تحصيل مساعداتٍ ماليةٍ من الدول العربية لتحل بدلاً عن المساعدة البريطانية.
لم يكن الملك الحسين راضياً عن تنامي شعبية الوطنيين الاشتراكيين، مثلما لم يكن راضياً عن تقاربهم مع الأنظمة القومية، خشية أن يحاول هؤلاء منازعته الحكم وإسقاط النظام بعدها، خصوصاً وهو يحاول تنمية علاقاته مع أمريكا القوة الصاعدة في العالم آنذاك. كما يسعى للاعتماد عليها في حماية تاجه، بينما يقف النابلسي ورفاقه في وجه علاقاتٍ من هذا القبيل ويفضّلون علاقاتٍ أكثر قرباً من المعسكر الاشتراكي وقوى التحرر في العالم الثالث.
وفّرت مناورة هاشم التي أصر نذير رشيد عضو تنظيم الضباط الأحرار على القيام بها، ذريعةً للنظام السياسي لاتهام حكومة النابلسي والضباط الأحرار بمحاولة القيام بانقلابٍ على نظام الملك الحسين، ممّا أوجد أجواء مشحونةً للغاية في البلاد تمخّض عنها إقالة الحكومة وحدوث مواجهاتٍ داخل ألوية الجيش، وعلى الرغم من إصرار نذير رشيد حتى اليوم على كون ما قام به مناورةً روتينيةً فإنّ النظام استغل الحادثة لتنفيذ انقلابٍ قاده القصر ضد الديمقراطية، ومحاكمة القادة المفترضين للانقلاب أي أعضاء تنظيم الضباط الأحرار والزج بهم في السجن، والإطاحة بعلي أبونوار من قيادة الجيش، مع فرض الإقامة الجبرية على النابلسي، وإعلان الأحكام العرفية وحل الأحزاب السياسية ومنع العديد من النقابات المهنية والعمالية وعلى رأسها نقابة المعلمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.