مثلما كانت القارة الإفريقية ساحة للصراع بين القوى الأوروبية الكبرى في النصف الأول من القرن العشرين، ولاحقاً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في النصف الثاني منه. يبدو أن هذه القارة الموبوءة بقيادات لا هم لها سوى مصلحتها الخاصة واستمرار بقائها في الحكم ستكون ساحة جديدة للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى بعض اللاعبين الصغار مثل تركيا ودول الخليج. ويتناول الباحثون في مجال العلاقات الدولية منذ فترة مصطلح الصراع الجديد على إفريقيا (new scramble for Africa)، وهو مصطلح قديم يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. حين تنافست الدول الأوروبية على استعمار إفريقيا، للإشارة إلى المنافسة الصينية – الأمريكية على النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي في إفريقيا.
ففي أول خطاب للرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن بشأن السياسة الخارجية، أوضح بايدن أن إدارته تعتبر الصين أهم تحدٍّ للأمن القومي. ومع ذلك فقد أشار بايدن في الخطاب نفسه إلى أنه على الرغم من زيادة التوترات الجيوسياسية والمنافسة بين البلدين، إلا أنهما سيتعاونان عندما يكون ذلك في المصلحة الوطنية للولايات المتحدة. على حد تعبير بايدن: "نحن على استعداد للعمل مع بكين عندما يكون من مصلحة أمريكا القيام بذلك". ويمكن قراءة قانون الاستثمار في إفريقيا الذي أقرّته إدارة الرئيس بايدن في إطار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لمنافسة الصين في عدد من المناطق التي اكتسبت فيها نفوذاً متزايداً خلال العقد الماضي.
وإذا ما قمنا بتقسيم مجالات التعاون والمنافسة بين القوتين العُظميين إلى قطاعات ومناطق جغرافية، يمكننا اعتبار القارة الإفريقية إحدى الساحات الرئيسية التي تتم فيها مناقشة المنافسة الجيوسياسية بين واشنطن وبكين، وإن كان ذلك بطريقة تفتقر إلى التفاصيل الدقيقة والتعقيد الذي تتميز به ملفات أخرى. والخطاب الذي يصف العلاقات التي تربط بكين وواشنطن بالدول الإفريقية في كثير من الأحيان يفترض أن البلدين في حالة "صراع جديد من أجل إفريقيا"، لدرجة أن أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري انتقدوا مرشحة إدارة بايدن لمنصب المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة، السفيرة ليندا غرينفيلد، خلال جلسة استماع تعيينها لردّها على فكرة أن الولايات المتحدة والصين في "حرب باردة جديدة".
وعلى الرغم من التصريحات الصادرة عن إدارة بايدن والتي تشير إلى أنها ستستمر في مواجهة الصين على المسرح العالمي، أشارت كل من بكين وواشنطن إلى أنهما على استعداد للعمل معاً عندما يكون ذلك في مصلحتهما المشتركة. وعند الحديث عن المصلحة المشتركة المتمثلة في تعزيز الأمن البحري نجد أن البلدين عملا في السابق معاً في مكافحة القرصنة في خليج عدن منذ انتشار عمليات القرصنة عام 2008 والأعوام التي تلته، حيث عززت الولايات المتحدة من فاعلية قواتها الموجودة في جيبوتي، بينما أنشأت الصين قاعدة عسكرية في هذا البلد الذي يتمتع بموقع استراتيجي على البحر الأحمر ويستضيف قواعد عسكرية لعدة دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا والصين واليابان.
وفي غرب القارة الإفريقية تعاونت الصين والولايات المتحدة في مكافحة القرصنة في خليج غينيا عن طريق التعاون الثنائي مع دول غرب إفريقيا، أو التعاون الإقليمي متعدد الأطراف مثل الجهود التي بُذلت بالتعاون مع هيئات إقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (CEMAC) لبسط الأمن البحري بما يفيد جميع الأطراف المعنية.
جانب آخر يمكن أن يكون التنافس (أو التعاون) الأمريكي – الصيني فيه تنافس حميد لصالح القارة الإفريقية، مثلما هو جيد للقوتين العظميين في سياق تعزيز القوة الناعمة، هو التعاون في مجال الرعاية الصحية ومكافحة الأوبئة. فقد كان للدعم الطبي الصيني والأمريكي دور كبير في مكافحة أمراض مثل الملاريا والإيدز وإيبولا من قبل في إفريقيا، ويُنتظر أن يقوم البلدان بمجهود مماثل في مكافحة وباء كورونا المستجد في إفريقيا عن طريق توزيع اللقاحات المنتجة في البلدين، أو عن طريق الدعم الفني واللوجستي للمستشفيات ومراكز العزل في الدول الإفريقية الأكثر تأثراً بالوباء. وقد أعلنت واشنطن مؤخراً الانخراط في إفريقيا عبر محورين، أحدهما تمت تسميته "الدبلوماسية الصحية". بينما ركّز المحور الثاني على تحسين صورة الولايات المتحدة في إفريقيا عبر عدد من المبادرات.
التعاون الصحي بين الصين والولايات المتحدة ليس أمراً جديداً، فقد تعاون البلدان من قبل عندما بدأ فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) في الانتشار في الصين في التسعينيات، حيث استعانت الصين بالخبرة الأمريكية في مكافحة الوباء، لينفّذ البرنامج العالمي لمكافحة الإيدز التابع للمركز الأمريكي لمكافحة الأمراض خططًا للوقاية من الفيروس ومكافحته في 15 مقاطعة صينية في عام 2003. وفي مجال مكافحة وباء إيبولا ساعدت الولايات المتحدة الدول الإفريقية المتأثرة بالوباء بأكثر من مليار دولار من المساعدات شملت الآلاف من القوات الأمريكية والعاملين في القطاع الطبي الذين يديرون 17 مركزاً علاجياً بسعة 100 سرير لكل مركز. كما قامت الصين بجهود مماثلة، وإن كان على نطاق أضيق بكثير، حيث أرسلت فرقة طبية تابعة لجيش التحرير الشعبي لبناء مستشفى بسعة 100 سرير، وتم نشر مئات من العاملين في المجال الطبي. وبلغ إجمالي قيمة المساعدات الصينية 125 مليون دولار.
المجال الثالث الذي يمكن أن يتعاون البلدان فيه في إفريقيا هو مجال البنية التحتية والصناعة بأنواعها المختلفة من صناعة البتروكيماويات والنفط إلى الصناعات الغذائية والدوائية. فبينما اشتهرت الولايات المتحدة بتقديم الدعم الفني والتدريب والمعاهد العليا ومراكز البحوث الصناعية، والذي يُطلق عليه الدعم الناعم (soft)، اشتهرت الصين بتقديم الدعم في البنية التحتية من طرق ومستشفيات وسكك حديدية وشبكات كهرباء، وهو دعم يمكن أن يوصف بالدعم الصلب (hard) في مقابل الدعم الأمريكي.
وحينما نتحدث كمراقبين ومواطني أفارقة عن تكامل الدورين الصيني والأمريكي في تقديم الدعم التنموي للقارة الإفريقية، فإننا نأمل في أن تستفيد قيادات وحكومات الدول الإفريقية من هذا التنافس في تطوير القارة التي تحتاج لبنية تحتية تكون الأولوية فيها لتوفير الكهرباء وشبكات الطرق والسكك الحديدية وآبار المياه والمؤسسات الصحية، لتتطور لاحقاً إلى توفير التدريب الفني والمعاهد الصناعية وتدريب الأطُر الوطنية في مجالات الإدارة العامة والحوكمة ومكافحة الفساد. وهي كلها مجالات تعاني إفريقيا من تخلّف شديد وتحتاج لدعم فني ومالي خارجي.
الملاحظ خلال العقدين الماضيين في الغرب أنه كان هناك توجّس من التوسع الصيني في إفريقيا، كما طالت الصين وشركاتها اتهامات بالسعي لنهب موارد القارة الإفريقية الزراعية والمعدنية، وإيقاع دولها في مصيدة الديون، وتشغيل العمال الصينيين وجلب المعدات والمواد من الصين مقابل البطالة للمواطنين والمجتمعات المحلية. ولدرء هذه الاتهامات سعت الصين للتواصل مع الجهات المختصة في عدد من الدول الإفريقية لتحسين صورتها ولمعرفة مواطن الخلل.
ويعتبر أداء بعض الشركات مثل (هواوي) نموذجاً لتطور أداء الشركات الصينية في إفريقيا من حيث تشغيل العمالة المحلية أو من حيث توفير التدريب والتأهيل. ويمكن أن تكون الكهرباء والسكك الحديدية أفضل مجالات الاستثمار والتعاون مع إفريقيا بالنسبة للشركات الصينية المملوكة للدولة، خاصة في ظل الدعم الذي تجده هذه الشركات من الحكومة الصينية في إطار "مبادرة الحزام والطريق".
أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن توفير التمويل والدعم الفني والتدريب للمستشفيات ومراكز الأبحاث والجامعات والمسؤولين الحكوميين في المستويات الوسيطة يمكن أن يكون أفضل الطرق للدخول إلى قلوب الأفارقة وعقولهم. فالولايات المتحدة في عقول الأجيال الحالية في إفريقيا والشرق الأوسط هي عبارة عن أساطيل وقوة عسكرية مثل إفريكوم وغيرها. وتحتاج الولايات المتحدة إلى استثمار القوة الناعمة بدلاً من القوة الخشنة. والتعاون مع الحكومات والمجتمعات المحلية بدلاً من عقلية العقوبات والوصفات الجاهزة، التي لا تراعي الفوارق الهائلة بين المجتمعات الغربية ونظيرتها الإفريقية من حيث التعليم والبنية التحتية والتطور التاريخي للمجتمعات القبلية في إفريقيا وتقبلها للديمقراطية الغربية، مقارنة بالمجتمعات الغربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.