كان لجدتي طفل مریض، أصغر ذكور العائلة الكبیرة، عائلة السيد، جدتي بذرت عشرة أولاد وثلاث بنات، وتوفي لها ذكران. كانت ثمرة رحمها وفیرة والظهر عفياً كالأرض الخصبة. المیت من أولادها تبكیه ثم يحمل بطنها غیره، الخير في الدار وفير والأرض حوله كريمة، الديكة تتصايح وطيور الدار لا يعرف لها عدد، الغلة للعابر والبيض يوهب للجيران، المواشي حول المساقي يتدافع اللحم المكتنز في أفخاذها إن رقدت تموت، الأولاد في غيطانهم يمرحون كخيول يافعة والطاحونة لا تهدأ.. كانت جدتي سيدة الأرض وست الدار، ثم ولد لها الذكر الأخير، كان ملیح الوجه علیلاً، لا یكاد یشفى یومین أو يمر عليه عيد إلا ویصیبه داء جدید، حل الكرب في الدار، وصار دمع جدتي عادة، كان أحب الأولاد إليها، صمت حمام الدار وكسى القلوب الوجل، تجلس الزائرات حولها في صمت، نسوة يتلحفن السواد كغربان الحقول، يطلن النظر إلى أقدامهن ولا يلتفتن إليها بالسؤال، طرق الأب باب كل شيخ وعارف يبحث عن النجاة، حتى اهتدت بمشورة الجارات المسنات في قریتها والتي لم تكن تعرف بعد الكهرباء ولا الأطباء، لوصفة متوارثة لم یكتبها قلم.. إرضاعه من عنزة فقدت للتو ولیدها، هكذا قالت النسوة العجائز، حليب عنزة مكلومة بضرع محتقن ينز رغوته في فم الوليد ساخناً!
كان الزمن حزيناً یموت فیه الصغار لأتفه الأسباب ویموت الكبار من الكمد. لكن الشفاء كان هیناً والأسباب لا یهتم الناس لها. أتى الأب صاحب الأطيان والزرع الوفیر لولیده الذي حار في دائه أطباء البندر بالعنزة المكلومة، كانت منتفخة الضرع، فكانت جدتي تحممها وترعاها وتمسد ضرعها المحموم ثم ترقد طفلها تحتها، لترضعه منها مباشرة، أيام وشهور حتى شفي الولد وكبر واشتد عوده. ورفضت جدتي ذبحها وكانت توصي بها وليدها وتسميها له مداعبة هي أمك من الرضاعة.
كبر الولد وتعافى واشتد، ثم حدث أن مس الأب يأس فهجر البيت والأرض، ترك الدار وغادر، مثل رمح غاب في الأفق، يبحث عن شيء لا يعرفه سواه، ثم حدث أن المليح فقد أباه وأصبح یتیماً يكفله الإخوة والأعمام. وكأن الكمد في الدنیا متصل، وربما ارتشفه الصغير من الضرع مخبوءاً في الحليب، لكن سفن الأیام ترسو مهما اشتد الموج. كبر الصبي وأصبح زوجاً لزینب الجمیلة وأصبح أباً، لكنه الأب الغائب الهارب من الكرب مثل أبيه.
تمتد خيوط الشمس الذهبية عبر نافذة المستشفى المغلقة وتستقر أشعتها بحنان على وجه زینب الشاحب، ترقد في فراشها بلا حراك، أضناها الوهن وأرهقها دفع مولودها لساعات الأطباء يتجولون بالرواق، الممرضات یتهامسن بالقرب منها، طفلها راقد مستقر إلى جوارها. ینتصف النهار وزینب لا تفیق، تهذي بكلمات غیر مفهومة، تبكي ثم تعاود النوم، الممرضات یأتینها بالسوائل یبللن شفاهها وشفاه ولیدها، یتبادلن نظرات الأسى ثم یتركنها ویذهبن لعملهن. حل موعد الزیارة ضج المستشفى بالمهنئین. في الأسرّة المجاورة ترقد الضحكات، تتسرب إلیها روائح الحلوى والورود مختلطة بالفرح وكلمات التهاني. یضیق صدرها بضحكات أب مزهو یدفع بقطع نقدیة إلى الممرضات ثم يؤذن لوليده في أذنه اليمنى.
وبينما تمضي ساعات الزیارة بطیئة وجسد زینب یأبى أن یفیق، تطفو روحها فوق جسدها الممدد بلا حراك تتأمله.. تنظر إلى ولیدها بإشفاق، ونبضها باهت كنبض ولیدها، یداها مكبلتان بطرف الغطاء، تتحرر روحها، تطوف كأنفاس زهر حول الفراش، یثیر أهل الجوار فضول روحها الخفیفة، الجسد ساكن والروح تتجول هائمة بین الأسرة تندس بینهم وتضحك معهم، تقترب من فراش المرأة المجاور الصاخب بالفرح، ترتمي الروح فوق الأم المتدللة، تتلقى التهاني والقبلات معها، ترفع الأم صغیرها بحنان إلى صدرها، یبدو حلیبها ببیاض وجه زینب، یؤلمها صدرها فتتراجع لطرف الفراش، الولید بصدر أمه یسكن قابضاً بكفه الصغیر على إصبعها. ترى زینب بوجه الأم الراضي أمها الجمیلة بمندیلها الأبیض وثوبها الریفي الدافئ، تبدو سمرتها الناعمة كما هي حین رأتها آخر مرة.
كانت ذاهبة ككل صباح بین رفیقاتها للمدرسة، عادت زینب بموعد الغذاء لتجد النسوة المتشحات بالسواد یرقدن بمدخل الدار، أين أمي كانت تصرخ وتولول ولا أحد يجيب، سارت خلف النعش الخفيف تودع أمها وتحاول لمس الصندوق، لكن كانت خطواتهم سريعة وأقدامها صغيرة ففر النعش منها.
انكفأت زينب فوق التراب، لا تنسى لليوم تلك الرائحة، رائحة الدمع ممزوج باللوعة والتراب. كبرت زينب واللوعة تنمو بقلبها.. تتقلب زینب وتئن، يؤرقها صوت الممرضات بجوار فراشها. تتسلل هائمة حول الصغیر تتحسس الغطاء وتتحسس ولیدها، تتحسس یدیه وأرجله المشوهة ورأسه المنبعج مثل رأس عنزة وجسده المغطى بالشعر الكثيف، تعيد الغطاء حوله، یمضي اللیل ثقيلاً وجسد زینب یهذي بالحمى.
مع نسمات الصباح الأولى یأتیها زوارها، تشعر زینب بوخزات في ذراعها، كان بطنها یتمزق، تتلوى بالفراش، والزوار یتهامسون ویبكي الصغیر الراقد إلى جوارها مغطى الوجه والیدین، تحمله إحدى النسوة المتشحات بالسواد وتُحكم حوله الغطاء لتخفي وجهه وذراعيه فيزداد بكاؤه.
تستفیق زینب وتفتح عینیها، تنتفض تحمل ولیدها وتفك وثاقه تنزع عنه الغطاء وتدفعه إلى صدرها، یتفجر حلیبها دافئاً بین شفتیه وتنطلق أولى دمعات الأمومة حارة من عینیها، تقبل زینب صغیرها وتؤذن بأذنه الیمنى تاركة الغطاء للزوار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.