لماذا لم ينل يوسف شعبان الشهرة والثراء اللذين نالهما أقرانه في مرحلة الستينات، لماذا لم ينل مكانة رشدي أباظة رغم وسامته، أو يصبح عالمياً كعمر الشريف رغم مؤهلاته، ولماذا لم يصبح نجم أفلام تجارية، أو بطلاً أوحد في فيلم واحد على الأقل!
الممثل الذي شارك في بطولة أكثر من 250 عملاً فنياً، منذ بدأ مسيرته السينمائية عام 1961 بالتحفة الفنية "في بيتنا رجل" بصحبة عمالقة من طراز عمر الشريف والمخرج بركات، مسيرة شهدت 110 أفلام سينمائية، وقرابة 130 مسلسلاً أبرزها: "العائلة والناس، والشهد والدموع، والوتد، وعيلة الدوغري، ولحظة ضعف، ورأفت الهجان"، كيف لم يصبح نجماً أساسياً في أعمال يقدمها وحده.
ترك يوسف شعبان في كل دور قدمه علامة تخصه، فمن أدائه البارع لشخصية "محسن ممتاز" في مسلسل "رأفت الهجان"، إلى الأثر العميق في قلوب مشاهدي مسلسل "الوتد"، الذي جسّد به شخصية الابن الأكبر للفنانة هدى سلطان، حيث جاءت وفاته في نهاية المسلسل موجعة، للمشاهدين الذين طالما آنسهم ظهوره في أعمال مثل مسلسل "السيرة الهلالية"، و"الوزير العاشق".
راودتني تلك الأسئلة جميعاً وأنا أتابع مشهد الخروج الأخير للفنان المصري الكبير يوسف شعبان من مستشفى العجوزة الواقعة في محافظة الجيزة، تمهيداً لنقله إلى مثواه الأخير في مقابر أسرته بمدينة السادس من أكتوبر.
بداية فاشلة
في قلب الحيّ المصري الشعبي جداً، شبرا، وُلد يوسف شعبان عام 1931، حيث كان والده مصمم إعلانات بالصحف، ما ساهم في وجود كميات كبيرة من الكتب والصحف والمجلات بالبيت، "مكنتش بحب المذاكرة، كان نفسي أدخل فنون جميلة، لكن بابا كان نفسه أدرس في الأزهر الشريف، في المقابل والدتي أصرت أن أكمل تعليمي، فدخت المدرسة التوفيقية الثانوية والتحقت فيها بفرقة تمثيل وقدمت مسرحيات كهواية".
عاد الصدام من جديد بعد التخرج، حيث أراد له والده أن يلتحق بكلية الشرطة أو الجيش، لكنه التحق في النهاية بكلية الحقوق التي التحق فيها بفرقة التمثيل حيث تعرف على شخصيات مثل: كرم مطاوع ونجيب سرور وصلاح السقا وإبراهيم نافع قبل أن ينالوا الشهرة.
لهذا قرر أن يقطع دراسة الحقوق وقدم أوراق اعتماده في المعهد العالي للفنون المسرحية، وبسبب ضغط الدراسة في الكلية والمعهد قرر التركيز في دراسة المعهد، وسحب أوراقه من كلية الحقوق وهو في السنة الثالثة، ليتخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 1962 مع بداية متعمدة وناجحة.
وطنية يوسف واعتزازه بعروبته
كان عروبياً بامتياز، مع ذلك يكره جمال عبد الناصر جداً، مفارقة نادراً ما تجتمع في شخص واحد هو شعبان يوسف الذي وصف عبد الناصر بأنه "غرّق مصر".
لم يجد الكاتب الجزائري يحيى أبو زكريا طريقة ينعى بها الراحل سوى صورة له وهو يقذف الجانب الإسرائيلي بالحجارة قائلاً: "رحم الله الفنان العربي المصري يوسف شعبان الذي يُعد واحداً من أهم الممثلين المصريين، وعندما زار لبنان توجه إلى الجنوب اللبناني ورمى حجارة في وجه الجيش الإسرائيلي مقدماً التحية لفلسطين المحتلة".
عناية يوسف شعبان بالقضية الفلسطينية طويلة وعميقة للدرجة التي دفعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليرسل إكليلاً من الزهور، إلى ضريح يوسف شعبان، خلال مراسم تشييع جثمانه اليوم الاثنين في القاهرة، حيث شارك وفد من سفارة دولة فلسطين بمصر بمراسم التشييع، ونقل المستشار الثقافي للسفارة، ناجي الناجي، خالص تعازي الرئيس محمود عباس والشعب الفلسطيني إلى أسرة الفنان القدير قائلاً عنه: "قيمة فنية وفكرية ووطنية، ملتزمة تجاه قيم الحرية والعدالة وقدّم مواقف مشرفة تضامنية ووطنية إلى جانب القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني"، ربما لهذا حصل الراحل يوسف شعبان على عديد من التكريمات الفلسطينية كان آخرها في عام 2019، حيث منحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس النجمة الكبرى من وسام الثقافة والعلوم والفنون، تقديراً لمسيرة فنية طويلة حافلة بالعطاء والأعمال السينمائية والتلفزيونية الوطنية القيمة، ومناصرته ودعمه للقضية الفلسطينية.
"وأنا بقرأ شخصية محسن ممتاز، حسيت بنظرات يوسف شعبان، نظراته التي كانت مشهورة جداً، حسيت إني قدام وقار وقوة شخصية وذكاء وأصالة مصرية شديدة كانت متوفرة في يوسف إنه يجسد شخصية ضابط مخابرات، رجل مثقف شديد الذكاء يشعر بإنسانية الإنسان"، هكذا فسّر المخرج يحيى العلمي أسباب اختياره يوسف شعبان بالذات كي يقوم بدور ضابط المخابرات محسن ممتاز، الذي أداه الراحل يوسف شعبان ببراعة حتى ظل دوره عالقاً في الأذهان لسنوات طويلة.
تمتع الفنان الراحل أيضاً بعلاقة خاصة مع دولة الكويت، التي وصف نفسه بأنه يكاد يكون كويتياً خالصاً، إلى جانب جنسيته المصرية – نظراً لزواجه من كويتية – وأولادي من الكويت، مؤكداً أن مشاعر عدة مرتبطة بعروبته ربطته بالكويت
وفاة مفاجئة
رغم بلوغه سن التسعين فإن الراحل كان يتمتع بصحة جيدة، وذاكرة جيدة أيضاً، لكن فيروس كورونا لم يمهله، حيث أصابه الفيروس قبل أكثر من أسبوعين، لتثبت المسحة إصابته ويبدأ في تناول بروتوكول العلاج بالمنزل، إلا أن حالته تدهورت سريعاً، لينتقل إلى العناية المركزة، التي مكث بها خمسة أيام ليتوفى في اليوم السادس وسط حالة من الحزن خيمت على الكثيرين الذين أرادوا أن يودعوه، لكن التشديدات الأمنية التي أحاطت بالمستشفى حالت دون ذلك.
وفاة يوسف شعبان قطعت عليه الطريق الذي أراد استكماله خلال لقاء سابق له مع المذيع عمرو الليثي، الذي حرص خلاله على تأكيد استعداده لعمل جزء ثانٍ من المال والبنون، واصفاً الأمر بالحلم، لكنه حلم لم يكلل بالنجاح.
زيجاته وأبناؤه
عام 1963 أعلن يوسف شعبان خلال تصوير مسلسل "الحب الكبير" زواجه من الفنانة ليلى طاهر، لكن الزواج لم يستمر أكثر من أربع سنوات، حيث لم يكن زواجاً هادئاً، وقع خلاله الطلاق ثلاث مرات، ليتزوج بعدها من ابنة الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق، لكن وقع الانفصال أيضاً دون الإعلان عن السبب، ليتزوج من بعدها الفنانة سهام فتحي وهي زيجة لم تستمر طويلاً أيضاً، حيث اختتم يوسف شعبان محاولاته للاستقرار مع زوجته الرابعة والأخيرة إيمان خالد الشريعان، التي أنجبت له كلاً من مراد وزينب، حيث واصل حياته بصحبتهم في الكويت.
أنجب يوسف شعبان من حفيدة العائلة الملكية المصرية، نادية إسماعيل، ابنته سيناء، حيث أراد اسماً قديماً وعريقاً لابنته، اختيار مميز لاسم غير شائع تحدث عنه في لقاء سابق له: "ربنا أراد وتزوجنا، وقررت أسمي بنتي سيناء لأن العائلة المالكة تعرضت لهجوم حاد لأن أصولهم غير مصرية، ألبانية، لذلك قررت تسمية ابنتي اسم أقدم من المهاجمين لهم".
من المستشفى كان أول من وصل لاستلام جثمان الوالد يوسف شعبان ابنته الكبرى سيناء، في ظهور لم يكن الأول لأبناء يوسف شعبان، الذي سبق له وأن ظهر بصحبة ابنته الصغرى زينب.
بلهجة خليجية خالصة تحدثت زينب في ظهورها الأول، مع والدها عبر تلفزيون الكويت من خلال برنامج "ليالي الكويت"، حيث قالت خلال اللقاء: "أحلى شيء بأبوي تواضعه، هو متواضع جداً، يقضي وقته في القراءة للكتب والجرايد، كلامنا معاً يونسنا".
أما الابن مراد فيهوى الإخراج، بحسب والده، وهو يشبهه إلى حد بعيد أيضاً، جاء حفل زفافه عام 2017 من الشابة اللبنانية جودي معتوق ابنة أحد أكبر تجار المجوهرات اللبنانيين، أسطورياً بحق، يقول عنه والده: "مراد غاوي إخراج رغم وسامته لكن مش غاوي تمثيل، وزينب مش غاوية تمثيل، لكن حابة تدرس الإعلام، ناس كتير مورثين المهنة لولادهم، لكن أنا سايب مطلق الحرية لولادي".
حين اقترب من أمنياته.. مات!
"جيلنا اتحكم عليه بالإعدام، الشباب لغونا"، سنوات طويلة قضاها النقيب السابق للممثلين -حيث سبق له أن تقلد منصب نقيب الممثلين لدورتين متتاليتين ابتداءً من عام 1997 إلى 2003- بلا تمثيل، مفارقة محزنة، وغريبة في الوقت نفسه، "جيلنا واحنا شباب كان مؤمن بإن في أساتذة وناس كبار، وكل واحد وليه مساحته، دلوقتي في شباب جديد وجيلنا مش موجودين، والشباب لوحده مش هايعمل حاجة.. لغونا وطلعوا هم لوحدهم".
شكاوى مُرة أعرب عنها يوسف شعبان غير مَرة، حيث كان حنينه جارفاً للتمثيل، حتى نال أخيراً دوراً بالمسلسل الذي يجري تصويره حالياً في لبنان "ملوك الجدعنة" بطولة عمرو سعد وعدد من الشباب، لكنه لم يستطع استكمال التصوير بعد إصابته بفيروس كورونا، الذي عاد على إثره إلى القاهرة، حيث عانى لعدة أيام قبل أن يقابل وجه ربه الكريم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.