“النهضة” تحشد أنصارها والسفارات تتحرّك وقيس سعيد مُصرّ على التصعيد.. أي أفق للأزمة السياسية في تونس؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/03 الساعة 10:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/03 الساعة 10:05 بتوقيت غرينتش
مظاهرات حركة النهضة في شوارع العاصمة التونسية / الأناضول

في مسيرة شعبية هي الأكبر في تونس منذ سنوات، حشدت حركة النهضة أنصارها في شارع محمد الخامس، أكبر شوارع العاصمة التونسية، وتأتي المسيرة في ظرف دقيق تعيشه البلاد بمرور 6 أسابيع على اضطرام الأزمة الدستورية بين رئيس الحكومة هشام المشيشي، ورئيس الجمهورية قيس سعيد؛ حيث رفض الأخير استقبال وزراء الحكومة الجدد بعد تعديل وزاري شمل 11 حقيبة لأداء القَسَم في قصر قرطاج، متعلّلاً باجتهادات في قراءة فصول من الدستور التونسي مع غياب المحكمة الدستورية التي تفصل في هذا النوع من الخلافات، وهو ما يجعل من رئيس الجمهورية الجهة التحكيمية الوحيدة.

أصل الخلاف بين سعيد والمشيشي

إذا كانت الأزمة السياسية قد عرفت أوجها خلال الـ6 أسابيع الأخيرة، فإن جذورها تعود إلى بداية شهر سبتمبر/أيلول تاريخ نيل حكومة المشيشي التزكية البرلمانية، بعد اتّفاق مع كل من حركة النهضة، وائتلاف الكرامة وقلب تونس (أغلبية برلمانية جزئية)، الأمر الذي أثار حفيظة رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي اختار المشيشي لتشكيل الحكومة يوم 25 يوليو/تموز 2020 على أن تكون حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب تمرّ بقوة الأمر الواقع في البرلمان (سقوط الحكومة يعني حلّ البرلمان).

تمرّد المشيشي على رئيس الجمهورية تواصَل على مدار أشهر بمحاولته تحجيم نفوذ القصر، وإقالة كل الوزراء الذين فرضهم الديوان الرئاسي خلال مشاورات تشكيل الحكومة، فكانت إقالة وزير الثقافة وليد الزيدي ثم إعفاء وزير الداخلية توفيق شرف الدين (يوصف بأنه عين رئيس الجمهورية في الحكومة) ثم كانت ضربة الراعي بلغة الشطرنج، عبر التحوير الوزاري في شهر يناير/كانون الثاني بإعفاء 9 وزراء جميعهم يدينون بالولاء لقصر قرطاج.

تحوير رفضه قيس سعيد مؤكداً في مجلس الأمن القومي (الذي سبق الجلسة البرلمانية للمصادقة على التعديل) في كلمة شديدة اللهجة، أنّه لن يقبل بهذا التحوير المخالف لنص الدستور، باعتبار أن 4 وزراء تتعلّق بهم شبهات تضارب مصالح وفساد، علاوة على عدم دستورية مرور التحوير الوزاري على البرلمان.

وساطات دبلوماسية

عرفت تونس الأسبوع الماضي حركية دبلوماسية كبيرة باستقبال رئيس الجمهورية لسفراء الاتحاد الأوروبي للحديث حول الشأن العام في تونس، وتحميل أطرافاً بعينها مسؤولية الأزمة، معتبراً أن هذه الأزمة تتجاوز شكلها الحالي، نحو أزمة شاملة تتعلّق بمنظومة الحكم والنظام السياسي، وجاء ذلك بعد ساعات فقط من لقاء جمع رئيس البرلمان راشد الغنوشي وسفير الولايات المتحدة الأمريكية بتونس دونالد بلوم، والذي كان من بين مخرجاته بلاغ من السفارة دعت فيه إلى ضرورة دعم المسار الديمقراطي التونسي.

وبحسب أغلب المتابعين، فإن هناك حركة دبلوماسية كبيرة تسعى إلى حلحلة الأزمة التونسية الداخلية، وجمع الفرقاء حول طاولة المفاوضات في استنساخ لمسار التوافق الذي عرفته البلاد صيف 2013 برعاية دولية.

فتونس النموذج الديمقراطي الوحيد في العالم العربي، تبقى وإن خفت ألقها رهاناً لدى المجتمع الدولي، لعديد من الاعتبارات، فأوروبا التي ذاقت ويلات الاحتراب الأهلي الليبي، بتدفّق الملايين من المهاجرين غير النظاميين نحوها، وما رافقه من تهديدات أمنية واقتصادية، يجعلها تراهن ولو مكرهة على الاستقرار في تونس، أما واشنطن فقد اعتبر مركز كارنيغي أن من أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة التصدّي للمدّ الصيني والروسي في شمال إفريقيا، وتحديداً في ليبيا والتي تعتبر تونس بقوّة الجغرافيا عمقها الاستراتيجي، وفي هذا الإطار سارعت الصين مباشرة بعد لقاء السفير الأمريكي برئيس البرلمان التونسي وبلاغ السفارة الأمريكية، إلى تمكين تونس من هِبة تتمثل في 100 جرعة من لقاح فيروس كورونا في إطار ما أصبح يُعرف بدبلوماسية "اللقاح"!

لعبة الشارع

مع تواصل حالة الانسداد السياسي وتكافؤ موازين القوى برلمانياً وسياسياً، التجأت الأحزاب التونسية إلى الشارع بالرغم من حساسية الوضع الوبائي ودقّته.

البداية كانت بمسيرة لمجموعة من الأحزاب المعارضة والمساندة لرئيس الجمهورية، واستغلّت رمزية تاريخ 6 فبراير/شباط (ذكرى اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد سنة 2013) لتحشيد ما أمكن من الحساسيات السياسية ونشطاء الأحزاب والمنظمات الوطنية والجمعيات، غير أنها فشلت في التعبئة، كما شهدت المسيرة مناوشات بين بعض المتظاهرين وقوات الأمن في محاولة لجرّ الأزمة نحو مربع العنف والانفلات الأمني، وهذا التوجّه ليس بالمستجدّ؛ حيث عرفت تونس في ذروة الأزمة السياسية في شهر يناير/كانون الثاني، احتجاجات ليلية وأعمال شغب.

رئيسة الحزب الدستوري الحر (امتداد للمنظومة القديمة لديه 16 مقعداً في البرلمان) عبير موسى، من جهتها، اختارت محافظة سوسة "المعقل" التاريخي للحركة الدستورية للقيام بوقفة احتجاجية ضد منظومة الحكم، في إطار سعيها لتدعيم مكانتها السياسية كقوّة تتصدر جبهة مقاومة الإسلام السياسي.

وبالرغم من تصدر الحزب الدستوري الحر لنوايا التصويت (38%) في أحدث استطلاعات للرأي بفارق كبير عن حركة النهضة (16%)، فقد عجز هو الآخر عن التعبئة بحضور ما يناهز الـ3000 مشارك في الوقفة الاحتجاجية التي وقع الإعداد لها بشكل محكم وإسنادها لوجيستياً، بتسخير الحافلات ووسائل النقل لنشطاء الحزب من جهات الجمهورية.

مع هذا العزوف الجماهيري عن الاحتجاج والتظاهر، وجدت حركة النهضة نفسها أمام تحدّ مصيري في علاقة بالمسيرة التي نادت بها يوم 27 فبراير/شباط بشارع محمد الخامس أكبر شوارع العاصمة التونسية، ففشل هذا الموعد يعني بالضرورة ضربة سياسية قاتلة للحركة الإسلامية، التي تجد نفسها أمام أوّل امتحان جماهيري منذ انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019، مع تشكيكات متواترة من المراقبين، في قدرتها على التعبئة والإشارة إلى أن استقواءها بالشارع ليس إلا مناورة سياسية و"رمية نرد" يائسة.

"النهضة في الشارع تكذّب استطلاعات الرأي وتفرض سلام الشجعان"

هكذا عنونت مجلة jeune afrique الفرنسية في تعليقها حول مسيرة حركة النهضة يوم 27 فبراير، التي كانت حاشدة بحضور أكثر من 60 ألف شخص في مسيرة هي الأكبر في تونس خلال السنوات الأخيرة.

مسيرة وجّهت رسائل بالجملة إلى الداخل والخارج، حيث غرد ماركوس كورنارو سفير الاتحاد الأوروبي بتونس على حسابه بموقع التدوين المصغر تويتر، الإثنين، معرباً عن قلقه حيال ما سمّاه "المأزق السياسي التونسي"، مؤكداً ثقته التامة في قدرة تونس على إيجاد حلول في كنف السيادة التامة لهذه الأزمة، داعياً إلى الحوار الهادئ والمسؤول، حسب تعبيره.

فالمسيرة التي دعت إليها حركة النهضة، ولئن رفعت شعارات الوحدة الوطنية وحماية المؤسسات، ودعم الشرعية والحكومة، فإنها سعت إلى إبراز حجمها الجماهيري، في إطار نوع من استعراض القوة التنظيمية والشعبية، مع فشل خصومها في ذلك.

حوار وطني

في كلمته التي ألقاها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أمام أنصاره في مسيرة السبت، أكد ضرورة احتكام كل الفرقاء إلى منطق الحوار وتغليب المصلحة الوطنية.

خطاب الغنوشي كان دعوة صريحة لـ"سلام الشجعان" بالمفهوم الديغولي (نسبة لشارل ديغول الرئيس الفرنسي) في رسالة يقول فيها لسان حاله، بأنه وبالرغم من قدرتنا على تحريك الشارع وتعبئته فإننا نبادر بفتح قنوات الحوار من موقع القوّة لا موقع الضعف.

وفي أول نشاط له بعد مسيرة السبت التقى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بصفته رئيساً للبرلمان، الإثنين 1 مارس/آذار 2021، برئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية سمير ماجول، والأمين العام للاتحاد التونسي للشغل نورالدين الطبوبي، وذلك بمقر اتحاد الصناعة.

وأكّد المجتمعون ضرورة الخروج السريع من هذه الأزمة السياسية، وإيجاد المخارج الضرورية، وتغليب مصلحة الوطن وانتظارات الشعب التونسي.

وتمحور اللقاء، وفق بلاغ نشرته منظمة الأعراف على صفحتها الرسمية بموقع التواصل فيسبوك، حول الوضع العام في البلاد وتواصل الأزمة السياسية التي أثرت على الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

وأكّد الجميع، في هذا الصدد، ضرورة الخروج السريع من هذه الأزمة السياسية، وإيجاد المخارج الضرورية، وتغليب مصلحة الوطن وانتظارات الشعب التونسي، وفق نص البلاغ.

ويأتي هذا الاجتماع الثلاثي الذي جمع أكثر الشخصيات الوازنة في الساحة السياسية التونسية، في إطار تحضير الأرضية للذهاب نحو حوار وطني، حيث سبق لمنظمة الشغيلة أن عرضت مقترحاً في الغرض على رئيس الجمهورية قيس سعيد لم يلقَ تفاعلاً إيجابياً من الأخير.

يمكن أن نلخص ذلك بأن الحوار الوطني في تونس لم يعد "ترف مفاضلة"، بل أصبح أمراً حتمياً لا يمكن المجادلة فيه، غير أن العائق الوحيد يبقى تعنّت رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي كلما خفت وهج الصراع عاد بنبرة خطاب تصعيدية وتخوينية لخصومه، تنسف كل محاولات تقريب وجهات النظر، غير أن هامش المناورة بالنسبة له يزداد انحساراً وضيقاً من يومٍ لآخر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طارق عمراني
كاتب وصحفي تونسي
تحميل المزيد