لماذا وقع البطريرك الراعي في تناقضات سياسية وقانونية بخطابه الأخير؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/02 الساعة 15:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/02 الساعة 15:45 بتوقيت غرينتش
البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي/ الأناضول

الأهمية الكبرى للخطاب الذي ألقاه البطريرك الماروني بشارة الراعي في بكركي نهار السبت في 27 فبراير/شباط الفائت أمام حشود من المواطنين لا تكمن في مضمون الأطروحات التي تضمنها الخطاب، ولا حتى في مضمون الردود عليه والنقاشات التي تأتت عنه، بقدر ما هي في مجموع التناقضات الهائلة التي أظهرها الخطاب عند كل من مؤيديه ومعارضيه. أقصد تلك التناقضات التي بانت داخل كل من الطرفين المتناقضين أصلاً فيما بينها. في هذا السياق، لربما كانت أضخم التناقضات في خطاب الراعي نفسه من جهة، وفي الأدبيات العلمانية التي يتبناها الحراك الثوري في لبنان من جهة أخرى، والتي شكلت خطاباً معارضاً لخطاب البطريرك الماروني ومواجهاً له.   

تناقضات خطاب الراعي

ركّز الراعي على طرحين أساسيين في خطابه: حياد لبنان، والتدويل، أي ضرورة عقد مؤتمر دولي لبحث القضية اللبنانية وإيجاد حلول لها برعاية دولية. والطرحان يصبان في مواجهة ما سماه الراعي عن حق "الحالة الانقلابية" التي يعيشها لبنان، أي حزب اللّه وسيطرته التي أصبحت شبه كاملة على مفاصل الدولة اللبنانية ومقدراتها. وفي ذلك وقع خطاب الراعي في تناقضين على الأقل، تناقض مبدئي ـ نظري من جهة أولى، وتناقض سياسي ـ عملي من جهة أخرى. 

أما التناقض المبدئي فيتعلق بتحديد مفهوم الحياد. "حياد الدولة" هو مفهوم قانوني دقيق ومحدَّد في القانون الدولي العام. للحياد شروط معينة، إذ يقوم على التزام الدولة المحايدة بنظام قانوني محدَّد من الواجبات ومن الحقوق. ومن شروط حياد بلد معين، ألا يكون هذا البلد في حالة عداء (من الناحية القانونية) مع أي دولة أخرى، وأن تكون حدوده مفتوحة مع الدول التي تحده، وأن يكون للدولة المحايدة علاقات دبلوماسية مع كل جيرانها. في هذا السياق، ينص قرار مجلس الأمن رقم ١٧٠١، والذي وضع حداً لنزاع يوليو/تموز 2006 المسلح مع إسرائيل، بوضوح على أنّ لبنان ليس في حالة سلم مع إسرائيل. وذلك القرار مجرد غيض من فيض قرارات دولية تؤكد على هذا الواقع القانوني. أما اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل المعقودة سنة 1949 فغير كافية لإعلان حياد لبنان، وذلك لأنّ اتفاقيات الهدنة تكون بين دولتين عدوتين، وذلك فقط لوقف الأعمال القتالية بينهما، وهي لا تغيّر في طبيعة العداء  بمفهومه القانوني بينهما. 

فهنالك تناقض كبير في الحديث عن "حياد" الدولة اللبنانية في حين أنّ تلك الأخيرة هي، من وجهة نظر قانونية، في حالة عداء مع دولة أخرى (إسرائيل)، اللّهم إلا إذا كان المقصود التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل قبل إعلان ذلك الحياد، وهو ما نفاه البطريرك الراعي في يوليو/تموز 2020 جملة وتفصيلاً، مؤكداً على العداء مع الكيان الصهيوني.

الحياد ليس مجرّد تعبير سياسي فضفاض يمكن أن يطلق بسهولة، حتى لو كانت النوايا من وراء استعماله طيبة، لا سيما أنّ الحياد بمعناه القانوني يتضمّن- إلى جانب إشكالية العداء مع إسرائيل- مجموعة من السلبيات التي تحد من حقوق الدولة المحايدة ومن قدراتها. والقانون الدولي العام لا ينظر إلى الحياد بكثير من الرضى، بل كثيرون من كبار فقهاء القانون الدولي يعتبرون أنّ الحياد هو في الواقع نوع من البتر الذاتي من قبل الدولة المحايدة لكثير من صلاحياتها في القانون الدولي، وأنه مفهوم قد تخطاه الزمن، لا سيما بعد الحربين العالميتين، بالرغم من وجود بعض الدول المحايدة حتى يومنا هذا.

وعليه، فإنّ تعبير "حياد" لبنان غير موفّق من الناحية القانونية، ويجب توخي الدقة في استعماله، وذلك منعاً للوقوع في أي التباس من الالتباسات المذكورة آنفاً.

ولربما يكون تعبير "تحييد" لبنان عن سياسة المحاور العبثية والاصطفافات الإقليمية الهدامة ـ الذي استعمله وزير خارجية فرنسا لو دريان عند زيارته الصرح البطريركي في يوليو/تموز 2020، والذي تمت ترجمته خطأ من قبل دوائر البطريركية والإعلام اللبناني بالـ"حياد" ـ ربما كان هذا التعبير أكثر ملاءمة لما يقصده البطريرك الراعي، وأكثر وضوحاً ودقة للتعبير عن طرحه السياسي القائم على المطالبة بإخراج لبنان من سياسة التبعية بالقوة إلى محور الممانعة من قبل حزب اللّه، والتي أدت إلى العزلة الخانقة والكارثية التي يعاني منها البلد. 

أما التناقض السياسي العملي في خطاب الراعي وفي مواقفه، فيتعلق بتوجيه البطريرك الماروني سهامه نحو حزب اللّه الممسك بزمام السلطة في لبنان، في حين أنّ الراعي نفسه يرفض استقالة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يؤمّن الغطاء السياسي المسيحي الأقوى للحزب، ولممارساته في لبنان. فكيف يمكن أن تستوي المطالبة بكف يد حزب اللّه عن بلاد الأرز في حين أن من يطالب بذلك- وهو رأس الكنيسة المارونية- يرفض استقالة من يؤمن الغطاء السياسي للحزب داخل الطائفة المارونية؟

لربما كان الأحرى بالراعي والأولى به أن يبدأ بترتيب مواجهة حزب اللّه في بيته الداخلي الماروني أولاً، وذلك برفع الغطاء عمّن يغطي حزب اللّه داخل الطائفة المارونية (أي رئيس الجمهورية وتياره السياسي بقيادة صهره جبران باسيل)، لكان اكتسب موقفه عندئذ مصداقية أكبر، ولكان عندها أكثر فاعلية في مواجهة حزب اللّه.  

تناقضات علمانية الحراك الثوري 

انقسم الشارع الثوري بين مؤيد ومعارض لخطاب البطريرك الراعي، وقد تمحور الانقسام حول إشكالية العلمانية وأدبياتها، لا سيما ضرورة فصل الدين عن الدولة ووقف تدخل رجال الدين- لا سيما رؤساء الطوائف الروحيين- بالشؤون السياسية في لبنان. 

منذ انطلاق الحراك الثوري في لبنان في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2019، تسيطر الأفكار الليبرالية على خطاب الحراك ومطالبه، لا سيما على أدبيات قوى المجتمع المدني المنضوية تحت لوائه. وأهم تلك المطالب هي ضرورة تغيير الواقع الطائفي – مجتمعا ونظاماً سياسياً- الذي يقوم على مجموعات طائفية تتشارك في السلطة وتتصارع فيما بينها على لبنان ومقدراته. 

يعتبر التنويريون أنّ واقع النظام الطائفي في بلد معيّن هو ضرب من ضروب التخلف الحضاري والسياسي، لأنّ هذا النوع من الأنظمة "القبلية" يأسر الفرد في المجموعة (طائفته)، وأنّ أوروبا خاصة والغرب عامة لم يتطورا فعلياً، ولم يخرجا من ظلامية القرون الوسطى، ولم يتخطيا إشكالية الحروب بين المذاهب المسيحية (الكاثوليكية والبروتستانتية)، إلا عندما تحرّر الفرد من سطوة المجموعة الهوياتية التي ينتمي إليها. 

ربما كانوا في تحليلهم هذا على صواب.. وربما كانوا على خطأ، لا سيما أنه، من جهة أولى، تعتبر الكثير من الدراسات الحالية في التاريخ والسياسة والاجتماع أنّ هذا التحليل "التطوري" مجرد خيال غير قائم على براهين علمية صلبة، وأنّ الغرب قد تطوّر فعلياً لأسباب أخرى تختلف عن تلك التي يدعيها الليبراليون، وأنه من جهة أخرى من قال إنه من الجائز فرض نمط واحد من التطور- أي النموذج الغربي- على جميع شعوب وثقافات وحضارات العالم رغم اختلافاتها؟

ولكن في جميع الأحوال، يبقى هذا النقاش – على أهميته الكبيرة- ثانوياً، لأنه من قبيل المرجو للبنان، وليس من قبيل الواقع الآني فيه. فعلى الباحث في تغيير الحال إلى أحسن منه في لبنان أن ينطلق من الواقع وأن يتعامل معه كما هو الآن، وذلك قبل أن يطلق العنان لخياله الرحب للتحليق في عالم المثل وضروب الديماغوجية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. فالواقع في لبنان هو واقع طائفي، شئنا أم أبينا، وعليه فإنّ المكابرة على هذا الواقع لا تفيد ولا تؤدي إلى أي نتيجة، ولا تسمح حتى بالعمل على تغيير هذا الواقع. 

ولذلك فبعد خطاب البطريرك، غرق علمانيو الحراك في موقف من التناقضات لا يحسدون عليه. فالكثير منهم يؤيدون مضمون خطاب الراعي، ومضمون أطروحاته، لا سيما بضرورة كف يد حزب اللّه عن لبنان، ولكنهم وجدوا أنفسهم، بشكل أو بآخر، أسرى الأيديولوجيا العلمانية المتعارضة مع تدخل رجال الدين ـ أي أمثال البطريرك الماروني ـ في السياسة، وقد انقسموا إلى قسمين.

القسم الأول وقع في تناقض بين قلبه وعقله، فهم من جهة يؤيدون مضمون طروحات البطريرك، ولكنهم من جهة ثانية فضلوا البقاء صادقين مع أنفسهم ومع علمانيتهم التي ينادون بها، فرفضوا الخطاب من منطلق رفضهم لتدخل رجال الدين في السياسة، إلا أنهم يدفعون ثمن موقفهم هذا حالة من الصراع الداخلي الكبير. 

أما القسم الثاني، فحاول تخطي التناقض بين قلبه وعقله، فغلّبوا المصلحة السياسية على مبدأ العلمانية الذي ينادون به ـ لا سيما ضد بعض الفئات الدينية اللبنانية، وأخذوا يجتهدون قياماً وقعوداً محاولين تكييف مبدأ العلمانية مع إمكانية تدخل البطريرك في السياسة، فبدأوا يغوصون في محاولات إيجاد استثناءات هي في الواقع مجرد أعذار وتبريرات واهية لخرق مبدأ العلمانية، ومطّ تلك الاستثناءات إلى حد انشطار مبدأ العلمانية نفسه، وهم بذلك وقعوا في تناقض مهول بين النظري والتطبيقي حول العلمانية التي يتشدقون بها. 

ففي الأصل لو تحرر هؤلاء القسمان المذكوران آنفاً من عقائدهما العلمانية التي تقيّدهما في واقع طائفي كلبنان ومن إسقاطاتها المتعذرة عليه- على الأقل في الوقت الحاليـ والتي تأتي بنتائج عكسية، ولو تعاملوا جميعاً مع الواقع كما هو، ولم يتعالوا عليه، حتى لو كان ثمن ذلك أن ينعتوا بـ"المحافظين" وأن يفقدوا صفة "الليبراليين" الجذابة، لكان عندئذ باستطاعتهم تأييد خطاب البطريرك وطروحاته (أو معارضتها) من منطلق سياسي واقعي براغماتي، وليس من منطلق عقائدي ضيّق (علماني). 

طبعاً لا يجب أن ننسى أنه بالإضافة إلى القسمين المذكورين آنفاً، لا بد من ذكر أولئك المشاركين في الحراك الثوري المقربين من حزب اللّه وأدبياته، الذين امتطوا العلمانية كذريعة لمعارضة خطاب البطريرك لأنهم لا يجرؤون على المجاهرة بتأييدهم لحزب اللّه، وهم بذلك يشكلون القسم الأكثر تعارضاً مع الذات داخل الحراك الثوري.

وليست تلك المرة الأولى التي يقع الحراك الثوري وقوى المجتمع المدني المشاركة فيه أسرى تناقضات علمانيتهم وتعارضها مع الواقع اللبناني. فإلى جانب مطالبتها بوقف تدخل رجال الدين في السياسة، تنادي قوى المجتمع المدني وأحزابه بضرورة وضع دستور جديد على أسس غير طائفية، ووضع قانون انتخابي لإجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي. إلا أنه قد غابت عنهم الواقعية السياسية في هذا المنحى أيضاً، إذ إنهم لم يتعلموا من تجارب العلمانية السابقة في الإقليم التي حورت في كل مرة العلمانية، وحولتها إلى مجرد ذريعة لتسيّد فئة على الفئات الأخرى في كل بلد، على غرار ما حصل مع تجربتي البعث في العراق وسوريا، حيث تم استعمال العلمانية كمطية لغلبة الأقلية السنية في العراق على باقي مكونات الشعب العراقي، ولتسيّد الأقلية العلوية في سوريا على الأكثرية السنية. وبالفعل فقد أصاب علمانيي المجتمع المدني هؤلاء الارتباك الكبير عندما أعلن المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان في خطبة الفطر في سنة 2020 مطالبته بالدولة المدنية في لبنان وبقانون انتخاب خارج القيد الطائفي، ما من شأنه تغليب الطائفة الإسلامية ـ وهي الأكبر عدداً على الطائفة المسيحية، لا سيما نيل الطائفة الشيعية عملياً على المثالثة داخل التركيبة اللبنانية، وذلك على حساب المسيحيين المتمسكين بالمناصفة. راحت السكرة وجاءت الفكرة، كما يقول اللبنانيون استفاق عندها جهابذة المجتمع المدني وكبار منظريه من أضغاث أحلامهم، وأخذوا يرفضون طرح الدولة المدنية الذي نادى به المفتي قبلان، في حين أنه موضوع في صلب مطالبهم ومدماك أساسي فيها، فوقعوا هناك أيضاً في تناقض رهيب.

في المحصلة يشكل خطاب البطريرك الأخير بداية جيدة وانطلاقة جريئة لمواجهة هيمنة حزب اللّه وعبره الوصاية الإيرانية على لبنان، ولكن يشوبه العديد من التناقضات التي يجب العمل على تذليلها، لا سيما توضيح مفهوم الحياد واستبداله بمصطلح التحييد الأكثر دقة، وتعديل الموقف من استقالة رئيس الجمهورية حليف حزب اللّه. وفي المقابل على الحراك الثوري وقوى المجتمع المدني المشاركة فيه أن تكون أكثر واقعية في مبادئها، لا سيما بالتنبه إلى التناقضات المهولة التي يمكن أن تغرقها فيها علمانية عقيمة غير متلائمةـ على الأقل حالياً. مع مقتضيات الواقع اللبناني وتشعباته وتعقيداته الداخلية والجيوسياسية، بالإضافة إلى خطورة العقلية الإلغائية المتحكمة في كثير من المشاركين في هذا الحراك، أولئك الذين يدّعون احتكار الفهم والتنوّر والتقدميّة، والذين لا يتوانون عن نعت كل من يختلف معهم بالرأي بأبشع الصفات، بكثير من التشاوف والعنجهية، في حين أنه من المفترض أنهم بأمس الحاجة إلى إقناع أكبر قسم ممكن من الشعب اللبناني كي يسير معهم. 

أما طالما لم يخرج اللبنانيون من الصراعات العقيمة وتناقضاتها الشعبوية المتشعبة، فحالهم هو حال انقسامات مستمرة وانقسامات داخل الانقسامات، كل يغني على ليلاه ويتكلم بلغة لا يفهمها الآخر، أي تماماً كما حصل في بابل في العهد القديم، وسوف تظل تذهب ريحهم سدى، وأزمتهم سوف تطول. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد