يقيَّم نجاح العمل الفنيّ بمدى ملامسته الوعي الإنسانيّ متحرّراً من زمن تقديم العمل، أي أنّ الفنّ يكتسب صفة الخلود من خلال قدرته على احتواء الإنسانيّ بكثافة عالية تجعله يتخطّى حدود الزّمن. فيما يخصّ الرّواية كمنتج فنّيّ، فقد تخطّت الرّواية الحديثة مرحلة مقارنتها بالرّواية الكلاسيكيّة، وصار لقوامها الحاضر وجود فرديّ يجعل منطق المقارنة بعيداً عن اللحظة وتالياً من أيّ حكمة في دراسته، خارجة عن تقييم المعطى الإنسانيّ.
ينحو كتّاب الرّواية الحديثة إلى تقديم منتج يبحث عن خلاص إنسانيّ، فما علاقة ذلك بتضمين الرّواية أشكالاً أدبيّة أخرى كالرّسالة، إلى درجة أنّ بعض الرّوايات قوامها البنيوي هو الرسالة، وليست بعيدة رواية هدى بركات "بريد الليل" التي نالت البوكر في العام الفائت من هذه الحقيقة، وهي في الأدب العربيّ ليست الرواية الوحيدة التي تتضمّن الترسّل، فمنذ رواية العقّاد مجدولين التي تعدّ رواية رسائليّة، اعتمد عدد لا يستهان به من الرّوائيين العرب على تضمين رواياتهم رسائل، منهم على سبيل المثال لا الحصر: واسيني الأعرج في طوق الياسمين وعبدالوهاب العيساوي في الديوان الإسبرطي وأمين معلوف في التّائهون وغيرهم كثر. ليس تضمين الرواية رسائل قصراً على العرب، فروايات حقّقت شهرة عالميّة كرواية "أربعون قاعدة للحبّ" للكاتبة التّركية إليف شافاك اعتمدت الرّسالة، ونجد الرّسائل فيما كتب خالد حسيني، أمّا إذا تتبّعنا تاريخ تضمين الرّسالة في الرّوايات فسنجد أنّها ترجع إلى بواكير الأعمال الأدبيّة الروائية الغربية والعربية، فهل تخفي تقنية الرسالة دلالاتٍ نفسية أو بنائية علينا التنبه لها؟
يقول سعيد يقطين عن تضمين الرسالة في الأعمال الروائية في كتابه تحليل الخطاب الرّوائي: "تسهم الرسالة بدورها في إضاءة الحدث أو تقديمه مما تتضمنه أحياناً من قراءات ملزمة التّنفيذ، وهي بهذا تسهم أيضاً في تأطير الحدث". ولكن بالنظر إلى الضمير الذي تكتب به الرسائل، وهو ضمير المتكلم عادة، وضمير المخاطب بالضرورة، فإن الرسالة تؤدِّي دور الإيهام بحدث خارج إطار الذات، أي أنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون وسيلة للتعبير عن الأنا، الأنا الكاتبة سواء أكانت شخصيّة مصاحبة أم ذات بعد رؤيويّ يجعلها عالمة حيث إنّ "الكاتب يضعنا أمام جريان التفكير أو تيار الوعي كما يلتعج في فيض اللغة الجوّانية".
في تفسير استعمال ضمير المتكلّم يقول عبدالحميد مرتاض: "وكأن ضمير المتكلّم مُقْبِل، متّجه نحو الحاضر أو الماضي القريب، فهو دائريّ أو حلزونيّ، مغْلَق معقَّد إلى حد بعيد. وكأنّ ضمير اﻟﻤﺨاطب وقبل أن نعمد إلى معالجة شأنه في هذه المقالة حاضر شاخص، وقد يتوجّه شيئاً ما نحو الماضي القريب وشيئاً ما نحو المستقبل القريب. فهو يتّصف في تصورنا هذا بالطوليّة من حيث التِفاته إلى الوراء، وبالدّائرية أو الحلَزونية، من حيث انطواؤُهُ على ذاته، وبالاِمتدادية أو المستقبلية من حيثُ تطلُعُه إلى نحو الأَمام."
بمعنى أن لهذا الضمير القدرة على حمل الحدث بشفافية تمرِّره وكأنّه حديث عاديّ، يخرج من عين الكاتب ولا يفرّق بين ما هو داخلي فيها وما هو خارج عنها، إنّه يوحّد بطواعية عالم الكاتب والعالم الموضوعي، ولكن من دون إرباك، حيث لا يشعر القارئ بذلك الباب الزجاجي بينهما. ولعل هذا هو السبب الحقيقي في استدعاء الرسالة ضمن الكتابة الروائية، حيث يحتاج تيار الوعي عند الكاتب إلى تدفّق يسمح بانسياب أفكاره من دون أن يجرحها بسرد يعيقها، ومن دون أن يعي أو يحاول أن يختبئ من تلك الفروق بين أن يقول وأن يكتب وأن يحرِّك شخصياته، الرّسالة توحّد ذلك كلّه من خلال ضمير المتكلّم.
هذا تحديداً ما يسمح به اللجوء إلى الرّسالة؛ الهروب من واقع الكاتب المقيّد بالحرب أو الفقر أو الضّياع أو الانهزام أمام قوانين المجتمع الصّارمة أو رفضها، إن ما يعبِّر عنه كاتب يسترسل أكثر التصاقاً بوعيه الإنساني باللحظة التي يحياها ويعبِّر عنها وهي منطلق كتابته، أي أنّ الرسالة تجعله أكثر قدرة على أن يكون صادقاً في مواجهة ذاته وتعريتها كما في نقد الإنسانيّ ونقله بواسطة اللغة، التي تصبح هنا القالب الفنيّ القادر على التشكل في الوعي كما على تشكيله في الوقت عينه.
أخيراً يتبادر تساؤل يحتاج دراسة، إذا كان النص الروائي محمَّلاً بما هو وجداني وعاطفي، ولا يمكن له الهروب من معطياته تلك، كما من محمولاته الزمانية ومواقفه الوجودية، متى يصبح اللجوء إلى الرسالة في الرواية من باب ما يمكن أن نسميه "ما يريد الكاتب قوله وليس سردياً". وهنا يبرز سؤال آخر: هل يمكن أن يكون هروباً من مأزق السّرد؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.