تعد الجمهورية العربية المتحدة وإعلان الوحدة بين سوريا ومصر ذكرى عظيمة على قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا نحن كمصريين وعرب، نتذكرها بعد مرور 63 عاماً كاملاً، ونحن نتساءل ماذا حدث قديماً ليضيع منا هذا الحلم ويصير الوطن العربي بحاله اليوم مفرقاً ممزقاً من المحيط إلى الخليج!
في عصر التبعية والتطبيع والخيانة للثوابت الوطنية، كان من دواعي الفخر القومي أن مصر نأت بنفسها عن أي عمل عسكري لفرض استمرار دولة الوحدة التي عُرفت بالجمهورية العربية المتحدة بعد الانقلاب الذي دبرته مجموعة انفصالية في سوريا عام 1961م، ناهيك عن أن مصر العربية لم تقم أبداً بأي عمل عسكري بقصد التدخل في شؤون أي دولة عربية أخرى.
ورغم المياه الكثيرة والجديدة التي مرت وتمر تحت جسور الزمن، فإن هذه الذكرى ستبقى شاهدة على إمكانية تحويل الحُلم العربي الکبیرإلى حقيقة، وتؤكد أهمية تبني "ثقافة الاصطفاف العربي" في مواجهة تحديات غير مسبوقة. والآن على أرض الواقع والتدخل في الحرب الداٸرة في سوریا، ما زال الحُلم العربي يراود الکثیر رغم الإخفاقات والنکبات والانتکاسات ورغم طبول الحرب وأزيز الطاٸرات وجحافل اللستعمار الجدید سوريا.
حتى ولو ذهب البعض إلى أن كلمة "القومية" أو "العروبة" باتت تثير حساسية لدى الكثير من المثقفين العرب أو أنها أصبحت من الماضي، خاصة بعدما جرى ابتذال كلمتي (القومية والعروبة) في كثير من المواقف المحزنة في شخصية الزعيم جمال عبد الناصر، فإن أحداً لا يمكنه إنكار واقع تجسده الثقافة القومية لأنه "واقع لغوي وجغرافي وتاريخي وروحي".
إن التحديات التي تواجهنا الیوم تستدعي الثقافة القومیة العربیة لمواجهة واحتواء الهيمنة الإقلیمیة والأطماع في سوریا والعراق ولیبیا.
إن القومیة العربیة شأنها شأن غيرها من الثقافات الأخرى. ففي خمسينيات القرن المنصرم، جاء في مذكرات مؤسس الدولة العبرانية (بن جوريون) "ما هو أكبر خطر يواجه إسرائيل؟"، قال: إنه التیار الجارف للقومیة العربیة، يجب العمل على وقف هذا التیار القومي وتحجیم مصر داخل حدودها الجغرافية.
هکذا تم هدم هذا التیار القومي "بإعلان وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، ومن وقتها تعیش مصر داخل حدودها منذ عام 1979 بتوقیعها معاهدة کامب دیفید.
إن الأحداث التي وقعت بعد الانفصال تٶکد انتشار خصوم الوحدة العربية، ونتذكر هنا الحملة الشرسة التي تمت من الإعلام العراقي والسوري، التي شجعت خصوم "الناصريين الإقليميين والدوليين" على محاولة القضاء على ما تبقى من نفوذها الجماهيري في العالم العربي، خاصة في ظل الانقسام الذي وقع في معسكر الثورة بسبب التنافس بين جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم زعيم الثورة العراقية -وبين القوميين العرب والشيوعيين العرب- على زعامة ما كان يعرف آنذاك بـ"حركة القومية العربية"، وهو الانقسام الذي أسفر عن تحالف الانتهازيين الذين يحكمون (عاصمة الرشيد، مع الانفصاليين الذين يحكمون عاصمة الأمويين) ليشكلوا احتياطياً للقوى الرجعية العربية.
لقد استغل عبد الناصر المرحلة بين الانفصال، وبين بداية عام 1963م، في إعادة بناء الجبهة الداخلية المصرية، على ضوء الدروس التي انتقلت إليها تجربة الوحدة المصرية السورية، فعقد في عام 1962م – المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي أسفر عن إعلان (ميثاق العمل الوطني) وحققت القوى الثورية التي يقودها اختراقاً مهماً في الجبهة المضادة، بقيام الثورة اليمنية في 26 سبتمبر 1962م وتدخل مصر عسكرياً لحمايتها، ما أدى إلى وصول قواتها الصلبة إلى "تخوم" مناطق النفوذ البريطاني في اليمن الجنوبي، وما كان يعتبر آنذاك مركز قيادة المعسكر الرجعي.
وعلى الرغم من سعي القوى المؤيدة لعبد الناصر في دمشق للقيام بأكثر من محاولة فاشلة لإعادة الوحدة، فإن جرح الانفصال كان لا يزال يضغط على أعصاب النظام، ودخلت حينها مصر في مرحلة البناء والتحدي لبناء السد العالي، واستعادت علاقتها بالاتحاد السوفييتي، الذي فقدته فى ظل تراكم ثلوج الخلاف مع (الشيوعيين العرب) وبدأت في بناء حیاة سیاسیة من تنظیم منبر سیاسي قطري (الاتحاد الاشتراكي العربي)، وکانت هناك حالة رجعية من تیارات معادية للثورة ومشروع الوحدة، وکان سقوط حُکم الرٸیس عبد الکریم قاسم وحلف بغداد نقطة فاصلة بالتقارب، وكذلك حضور وفد رفیع المستوی إلی القاهرة بعد إسقاط نظام عبد الكريم قاسم في احتفال مصر بعيدها الخامس للوحدة مع سوریا.
کانت الأنباء تأتي من "عاصمة الأمویین" دمشق عن سقوط حُكم الانفصالیین فی سوریا، لتعود روح الوحدة مرة أخرى والحُلم العربي من عاصمة الرشید "بغداد" وتنطلق المظاهرات الجماهيرية فى المدن العراقية والسورية تطالب بإقامة وحدة فورية بين البلدان الثلاث: مصر وسوريا والعراق.
ووصلت حينها إلى القاهرة وفود تمثل بغداد ودمشق لمناقشة مشروع هذه الوحدة الثلاثية بين الأقطار(الثورية الثلاثة) التي استمرت ما يقرب من شهر -من 15 مارس حتى 17 من أبريل- عام 1963، وخلالها تنبه الرئيس عبد الناصر، إلى أن كلاً من: الثورتين "العراقية والسورية"، يقودها فرع من حزب البعث الاشتراكي في العاصمتين ويخضعان لقيادة قومية واحدة، كان يرأسها آنذاك مؤسس الحزب ميشيل عفلق وكان من رأي عبد الناصر أنه ليس بينه وبين الفرع العراقي من حزب البعث، ما يجعله يتحفظ على إقامة علاقات وحدوية معه، بعكس الفرع السوري من الحزب نفسه، الذي شارك في إقامة الوحدة بين مصر وسوريا، وشارك في حكم الجمهورية العربية المتحدة، لفترة تقترب من عام ونصف العام، ثم استقال وزرائه من حكومة الوحدة، وشنوا ضده حملة دعاية مكثفة، ووقع أقطابه على بيان يؤيد الانفصال، وبالتالي فلا بد من تصفية حسابات هذه الفترة قبل البدء في محادثات حول وحدة جديدة.
کان عبد الناصر يرى أن مصر لديها تحفظات على حزب البعث وتعتبره يقوم بمناورات سياسية، كما أنه لم يكن مخلصاً في سعيه لإعادة الوحدة، وأنه يتظاهر بالحماس لإتمامها، لكي یخفف من الضغوط التي قام بها الناصريون في دمشق لإتمام الوحدة، في حين أن هدفه كان الانفراد بالسلطة دونهم، بل وكان يروج كذلك لشعار"وحدة دون عبد الناصر".
وما كادت المباحثات تنتهي بتوقیع الوحدة بین سوریا والعراق ومصر، وفي الاحتفال بالعيد الحادي عشر لثورة يوليو 1952، ليعلن عبد الناصر أنه لا وحدة مع حزب البعث الفاشيستي، وأن مصر سوف تسحب توقيعها على ميثاق 17 أبريل، ليكون هذا الإعلان آخر محاولة جدية لإعادة الروح للوحدة العربية.
سوف تبقى هذه الذكرى عالقة فيما تبقى من الشعوب العربية المؤمنين بالعروبة والثوابت القومية رغم كل الانتكاسات والنكبات في معظم العالم العربي والذين يعيشون تحت عباءة أمريكا وإسرائيل والتطبيع والخيانة.
رغم خطايانا التي وقعنا جميعاً فيها كعرب، فقد كانت هناك ثوابت وطنية، وكانت لدينا قضية واحدة فلسطين التي طُعنت من كل العرب الآن، بل ونحاول قتلها ونتذكر الآن كلمة الضفة وغزة فقط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.