هذه المقالة هي الجزء الثاني من مراجعة رواية "ولدت هناك.. ولدت هنا" للكاتب والشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي
لا تتضمن هذه السيرة الفاتنة إلا حديثاً عن جزء صغير من حياة مريد حين كتبها، وكان قد تجاوز الخامسة والستين من العمر، استغرق الحديث عن ذكرياته مع الحواجز الإسرائيلية ثلثي الكتاب، مغامراته الصغيرة المليئة بالغرائب والمشاق في الوصول من رام الله وحيث دير غسانة إلى أريحا ربما كانت السبب الذي جعله يكتب كل صفحات الكتاب، المسافة بين المدينتين بالكاد تصل إلى خمسة وثلاثين كيلومتراً، لكن الطريق مليء بالعجائب، وخاصة مع السائق محمود.
سيارة في أواخر عمرها، فيها سبعة ركاب، خمسة رجال وامرأتان، وفيها شاعر يميل إلى التأمل، يقول السائق: هذه آخر سيارة للجسر اليوم، إسرائيل أبلغت الدبلوماسيين الأجانب أن الاجتياح سيتم الليلة أو غداً، وطلبت منهم أن يدبروا حالهم، الطرق مغلقة، الحواجز الطيارة في كل مكان، ولكن لا بد أن نصل، لا يبدو على الركاب اضطراب استثنائي من خبر الاجتياح الوشيك، علق أحدهم: كأن الفيلم ناقصه "أكشن"، يقتلوننا بالفرد يومياً، وبين فترة وأخرى يشتاقون لقتلنا بالجملة.
المسافة لا تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة، ولكن هنا تصل إلى ساعات، واحتمال المنع والتوقيف والعودة وارد، ولكنها همة محمود الذي يبدو وكانه على اتصال بالأقمار الصناعية، كل ربع ساعة على الأسفلت تأتيه مكالمة، يخرج بعدها إلى الطريق الترابي عبر قرى عديدة، ثم يعود إلى الطريق وقد تجاوز الحاجز، تكرر الأمر مراراً في واحد من هذه الطرق الجانبية، غاصت عجلات السيارة في الأرض الطينية "همتكم يا شباب.. انزلوا وادفعوا السيارة واجتازوا الموقع، ليصلوا بعد قليل إلى ما يشبه السد"، نفق محفور ممتلئ بالمياه، لا يستطيع فرد أو راكب قطعه، الكل ينتظر معجزة لم تتأخر.
تطل من بين الأشجار رافعة عملاقة يقودها شابان، تجهزوا، تطبق الرافعة بفكها الحديدي على السيارة، ثم ترفعها وركابها حتى ينقلهم من هذا الجانب للجانب الآخر للخندق.
كأنه فيلم أمريكي، حيل كثيرة تعلمها الفلسطينيون، أتقنوا بها الصبر وفن الحياة. الشعب الخاضع للاحتلال من أكثر الشعوب رهافة واستعداداً لإظهار مشاعر الفرح، تهتز مشاعر أحدهم إذا عاد للأسفلت ثانية، وبمجرد حصوله على أنبوبة بوتاجاز أو حبة دواء في الصيدلية، وصل الركب إلى جسر العودة، وسيلحق الراكب بطائرته، وسيودعون سائقهم محمود، يغار مريد من عزمه وقدراته، لا يستطيع الإعراب عن اعتزازه به، لا يسع الكلام، ولا يليق البقشيش، وأخيراً لا يقول لمحمود شيئاً، يحدث نفسه، سأكتبه، سأكتب السائق محمود، سأسجل ما فعله بالضبط، هذا واجبي، أنا كاتب وهذا عملي، قام هو بعمله، و ذات يوم سأقوم أنا بعملي أيضاً وها أنذا أفعل.
لا يقل الذهاب إلى الأردن عبر جسر اللنبي أو جسر الملك حسين إذلالاً للفلسطينيين عن الحواجز الإسرائيلية، تصل إلى هذا الجانب أو ذاك تنزل امتعتك، تكمل أوراقك، تصعد إلى الأوتوبيس المزدحم، تنتقل إلى الجانب الآخر، وتُحتجز في الأتوبيس حتى يفرغ تفتيش حقائبك أمنياً، ثم تنزل، يمارس معك الموظفون الصهاينة ساديتهم الخشنة أحياناً والناعمة أخرى، ثم تنتقل لكي تبحث عن سيارة تنقلك، وإذا كنت في الجانب الفلسطيني فتخيل عدد الحواجز الإسرائيلية.
في إحدى المرات، سافر مريد من أريحا إلى رام الله في عربة إسعاف، حيلة لكي يعبروا من حاجز قلنديا بين منطقة القدس ومنطقة رام الله، قلنديا أصبح قندهار، حيث بأبطأ إيقاع ممكن يتم تدقيق البطاقات والتصاريح، هنا يتم تفتيش الأجساد والملابس، بل والأحذية والمشاعر أيضاً، ينزل الركاب، يجرّون حقائبهم، يسيرون بين جانبي الحاجز مشياً، وظهورهم بين الدبابات والرشاشات الجاهزة لإطلاق النار، لعل عربة الإسعاف تعذر ركابها من النزول إلى الحاجز المهين، صعد مريد مع الممرض إلى حجرة السيارة، على أرض الحجرة تتمدد سيدة عجوز، عيناها مفتوحتان، جلدها مجرد غشاء مائل للسواد، جلد مشدود ملتصق بعظام الوجه، تخرج منها واليها أنابيب، لا حركة ولا كلمة ولا تنهيدة، لعلها ميتة، أوضح الممرض أنها تحت العلاج وقد تشفى، المهم أن نجد لها مكاناً في مستشفى رام الله المكتظ بالجرحى، تمنى مريد أن يسمعها تتكلم أو أن يراها تتحرك، هل تعرف هذه السيدة أن هذا الشاعر يسافر في حمايتها!
تتوقف السيارة ويقترب جنديان إسرائيليان ويُفتح الباب الخلفي، لم يكتمل فتح الباب حتى بدا لهم وجه العجوز المريضة، صاحا بالسائق: سكر باب، خلص، روح، إمش، تكرر المشهد مرة أخرى.
في أول يوم وصل فيه تميم إلى رام الله أشار أبوه من شرفة الشقة التي ينزلان بها: هل ترى تلك الأقواس، إنها أسوار القدس، صاح تميم يمكننا أن نمشي إليها، لكن مهلاً لا بد من تصريح إسرائيلي قد يصدر وقد لا يصدر، لا بد من الحيلة، ولا بد من الاستعانة بصديق.
الصديق كان من عرب 48، سيارته تحمل لوحة صفراء تعني أن مالكها إسرائيلي، يشير لها الحرس بالمرور، في كل طاقة من طاقات السور يقف جندي إسرائيلي شاكي السلاح، يبدو الجندي قزماً "تشعبط" على السور، هذا هو باب العامود، ثم طريق الآلام، يطلب تميم أن يأخذ صورة تحت لوحة تحمل اسم الطريق، شعر الأب والابن أنهما أصبحا كالسياح، فطرحا الكاميرا، فأن يشعر الفلسطيني بأنه سائح في القدس لَهو إثم عظيم!
عبروا من طريق الآلام إلى السوق المسقوف، وفجأة تنكشف العتمة عن سماء ساحرة، أشعة الشمس تنعكس من قبة الصخرة كأنها شلال من خيوط الذهب الساحرة، للأسف أصبح الوصول للصلاة في الأقصى نوعاً من الكفاح السياسي، الشرطي الإسرائيلي هو من يسمح للفلسطينيين بالصلاة أو يمنعهم، ثم من الأقصى إلى كنيسة القيامة، ومن ثم مسجد عمر، بعدها بيت الشرق، حيث كانت القدس فيه تستضيف القيصر والملك والرئيس والزعيم، وفيه خليل التفكجي، الذي يعرف تاريخ كل حجر في القدس، وهو أخبرُ الناسِ بالمستوطنات الإسرائيلية، تميم يُعد بحثاً يحتاج إلى معلومات يسأل عنها التفكجي.
فيما بعد تغلق السلطات الإسرائيلية بيت المشرق لأنه رمز لوجود الفلسطينيين، الختام إلى معرض للنقش على الخزف، تديره عائلة قدمت من تركيا أيام العثمانيين لترميم زخارف المسجد الأقصى، وطاب لها البقاء بفنّها في القدس، ثم الخروج، الخروج من القدس سهل، لكن الدخول إليها عبر الحواجز الإسرائيلية لهو مشروع عسير، أصبح اليوم يا مريد يسيراً على المطبعين، بقي عسيراً على الفلسطينيين من يطبع منهم ومن لا يطبع.
أمسية شعرية لتميم في بلدة دير غسانة، أول ليلة يراها، كانت الأمسية مهمة، إذ كانت إعلاناً عن نجاح مشروع رضوى الفلسطيني، رضوى لم تكن معهم، أي عربي وأي فلسطيني لا يحمل هوية صادرة بالتنسيق مع السلطات الإسرائيلية لا يمكنه الدخول لأراضي السلطة الفلسطينية أو غزة إلا بفيزا من سفارة إسرائيلية، ومن المستحيل أن توافق رضوى، تضحي ليذهب تميم وحده، ولكن حتى دير غسانة طريقها صعب.
اصطحبهما ابن العم بسيارته، ابن العم عاشق عرفات، لم يتلوث ببعض ما تلوث به أهل السلطة، عبرت السيارة من حاجز سردا، الذي يفصل بين رام الله وقرى الشمال، عبروا بسهولة، قال ابن العم السيارة حكومية ولوحتها حمراء، سأل تميم: هل هم والسلطة حبايب؟ أجاب ابن العم: "مش حبايب، ولكنهم يراعوننا"، "إحدى فضائل أوسلو اللي مش عاجب حبيبنا أبو تميم".
علق مريد: يراعونكم لأنكم تراعونهم، أجاب ابن العم: سنكمل النقاش عندما نأتيك بدولة مستقلة.
أخذ ابن العم أنيس يشرح لنا معالم الطريق، يقول على يسارنا مستعمرة حلميش، كل يوم يزيدون فيها حتى امتدت إلى القرية المجاورة، ما إن أنهى عبارته حتى أوقف السيارة وأطفأ المحرك، تلبية لأمر من جندية إسرائيلية وزميل لها، من الواضح أنهما حارسا البوابة الرئيسية للمستوطنة، إلى أين؟ إلى دير غسانة، انزل من السيارة، نزل أنيس، الرخصة؟ أخذ أنيس يخرج أوراقه، فتح تميم الشباك ليسأل ماذا هناك؟ صوّبت المجندة سلاحها: مكانك أغلق الباب. وجد أنيس رخصة السيارة، لكنه لم يجد رخصة القيادة، أمرت الجندية جميع الركاب بالنزول، خاطبوا أنيس: أنت مخالف للقانون ومقبوض عليك للتحقيق، وستنال عقابك، مفهوم؟ رد: أنا وكيل وزارة التخطيط في السلطة الفلسطينية، وهذه هويتي.
أخذ الجندي الهوية، تابع أنيس: ربما نسيت الرخصة في البيت في دير غسانة، على بعد عشر دقائق، دعني أذهب وأحضرها، رفض الجندي، وكرر أنت مخالف للقانون، أجاب أنيس شرطة السير الفلسطينية وحدها تستطيع مخالفتي، هذا ما تقوله الاتفاقيات، فردّ عليه الجندي: "طز في الاتفاقيات"، هنا قانون دولة إسرائيل فقط، مفهوم، أخرج أنيس جوازه الأمريكي، وقال: أنا مواطن أمريكي، هل توقف مواطناً أمريكياً؟ لم يهتم الجندي، أنت مخالف للقوانين الإسرائيلية، وأخيراً وافق الجندي أن يذهب الركب لإحضار رخصة أنيس، بينما هو يبقى محتجزاً عندهم.
هكذا بقي وكيل وزارة التخطيط والتعاون الدولي في السلطة الفلسطينية رهينة لدى جنود مستوطنة حلميش. ذهب الركب، لم يجدوا رخصة القيادة، وبينما هم في طريق العودة إلى بوابة المستعمرة وجدوا أنيس يسير حراً على الطريق، أخلوا سبيله دون أن ينتظروا الرخصة، بعد أن ركب السيارة قال غاضباً، أولاد الكلب جعلاني تسليتهم، ما إن غادرتم حتى أعادوا أوراقي وأطلقوا سراحي!
هكذا دخل تميم دير غسانة لأول مرة، مجندون إسرائيليون، مستعمرة، والإصبع على الزناد والسلاح مصوب إلى الصدور، وصلوا أخيراً إلى الغرفة الواسعة، ذات القبة الشاهقة والأعمدة الأربعة تلتقي في منتصفها، حيث الآن مصباح كهربائي بدلاً من مصباح الزيت الذي كان هنا في عام 1944م.
يقول مريد: هنا ولدت يا تميم.. ولدت هناك.. ولدت هنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.