ازدهار الحدائق الدبلوماسية الأجنبية، وسافانا التبشير الإنجيلي في إقليم كردستان العراق، لم يستطع هذه المرة أن يخفي اتساع ثقب أوزون قمع التعبير في سقف حرية الإعلام الكردية. الحكم على الصحفي شيروان شيرواني، وبقية عصبة الصحفيين والناشطين معه بالسجن، لمدة 6 سنوات، كان شبيهاً بغليون تبْغُه الحدائق، والسافانا دُخانه، سبّب انطلاق صافرات الإنذار في البيوت الزجاجية الدولية التي تقوم برعايته، وتحرص على خنق حاضره، بحبال طموحاته المستقبلية.
إعلام كردستان العراق
بعضٌ من وسائط الميديا في هذا الإقليم العراقي تستهلك الكثير من عمرها الرقمي في تدبيج أخبار الزيارات الدولية التي لا تنتهي. رجال "كاوبوي" الكونغرس الأمريكي، مثل السيناتور رالف إبراهام، يحتلون صدارة المشهد عادةً. إبراهام يتمتع بالمزايا اللازمة، انتمائه إلى جماعة القبعة الجمهورية، وتسريج مواقفه السياسيّة على ظهر الحصان اليميني. مثالنا غالباً ما يزور الإقليم قبل كلّ أزمة وبعدها أيضاً.
تلك الزيارات لا تلتفت مثلاً إلى ما تعانيه الصحافة العراقية في الإقليم من موت واعتقالات، الموت المجاني للصحفيين صنع من الإعلام الكردستاني دودة قز، ترضى ببيان حريري يؤبّن قتلاها، بما لا يتجاوز الـ430 كلمة. ساردشت عثمان مثالٌ رائع على الضياع، ما بين العدم الرسمي والغزل الدبلوماسي الدّولي.
وسائط الميديا الكردستانية تتميّز عن شقيقاتها العراقية بـاستخدام اللغة الإنجليزية، إضافة إلى اللغتين العربية والكردية. المطبخ اللغوي هذا يسهّل مهمة تقديم سرديّات مختلفة، تقلل الضغط المحلّي على الإقليم، نتيجة سياساته الخارجية التي تتسوق كل ما يلزم لخطّة الفرار المستقبلي من العراق.
هذا الغناء الأوبرالي السياسي، المغنَّى بلغات ثلاث، هدفه اللامعلن إخفاء صوت تكسير العظام بين القوى السياسيّة في الإقليم، وترويض حرّية التعبير في نادي الرماية القوميّة، بعيداً عن الهموم اليومية.
افترض أن وسائط ميديا الإقليم -وبحسب ما علّقته من تصوّرات على حبال السطور السابقة- تعمل كـسرب من الإوز، تحليقها في سرب يقلّل جهد الطيران الإعلامي المستمر صوب البحيرات الدولية، لكن إن تسللتْ إوزةٌ مثل شيرواني فلن تجد عضيداً لها من بقية السّرب، بل ستكون صيداً للبنادق القومية.
الموقع الإلكتروني لـ"صوت أمريكا" كان قد نشر تفاصيلَ موسّعة عن عصبة شيرواني الخماسية، وكيفية فوزها بأعوام سجن سداسية، التفاصيل المنشورة عملت كقائد سرب لوسائط الميديا الدوليّة، معرّيةً -تجربة نادرة- سيقان الأهداف السياسيّة للحكم الصادر، التي لم تسترها تنورة التبريرات الرسمية لحكومة الإقليم.
فضل الإعلام الدولي أن تكتفي بالتفاصيل الأمريكية، رغم أن Aljazeera English مثلاً ذكرت مزيداً من التفاصيل المروّعة. كان منها حديثٌ للنائبة شيرين أمين، تعترف فيه برعبها من تبادل رسائل فيها انتقاداتٌ لحكومة الإقليم، وإلّا.. أترك لخيالكم أن يكون سرب إوز.
خلطات تفسيريّة
النائب العراقي الكردي سركوت شمس الدين، الذي يرأس كتلة "المستقبل" النيابية قدّم لي سرديّةً تفسيريّة، للحكم الذي صدر ضدّ شيرواني ورفاقه: "حكم السيد شيرواني كان سياسيّاً بالكامل، من لحظة القبض عليه إلى محاكمته، كانت معدّة كلّها بواسطة مخابرات الحزب الديمقراطي الكردستاني". شمس الدين رأى كذلك أن الخماسي الذي حكم عليه بالسجن قد علّقت قلادة الاهتمام الإعلامي به، على رقبة شيرواني، لتضيء حقيقة كونه "صوتاً مؤثّراً في أربيل".
الرئيس النيابي شمس الدين رفض أن يكون هذا الحكم "له علاقةٌ بالانتخابات القادمة"، وإنّما هو "عصرٌ جديد من حكم مسرور بارزاني لتوطيد سلطته وإخراس صوت الانتقاد"، طبعاً البلبل التفسيري لي يغرّد بلحن مختلف: الحكم على شيرواني، وقضية تسوية ميزانية الإقليم مع بغداد، تشبه وضع سدود أمام تسونامي الرغبة التغييرية، التي عمّت العراق من جنوبه إلى شماله. متانة السد قد تحتاج إلى عدم اتفاق أربيل مع بغداد -قيامها بكامل التزاماتها النفطية تحديداً- ليبقى العريق الديمقراطي الكردستاني كعبةً تحج إليها أصوات الناخبين المعتّقين للحزب، وتطرد أصوات التغيير. باختصار مغامرة الاتفاق مع بغداد ذات آثار كارثية على حظوظ العريقين الكردستانيين؛ الديمقراطي والاتحاد، في الانتخابات القادمة، كما أن تصاعد سعر البرميل النفطي بدوره، في السوق العالمي، يغري بسياسة: لا حاجة لكوارث الاتفاق مع بغداد.
الريش المتساقط من سرديّة تفسير شمس الدين وتغريد البلبل لن يستطيع الطفو في قنينة حبر الصراعات السياسية، لكنه سيكون قادراً على أن يفتن لنا: إنّ قضية شيرواني فضحت صراع الأجنحة داخل الحزب الديمقراطي.
رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني، طالب بعدم التدخل في إجراءات عمل القضاء ومحاولة التأثير عليه، رغم أنه قبل أسبوع من إصدار الحكم عرض في مؤتمره الصحفي ما يشبه نسخةً من لائحة الاتهام، التي أعادت المحكمة صياغتها، لتهدي شيروان ورفاقه رحلة سفاري سياسية داخل الزنزانة.
رئيس الإقليم بدوره نيجيرفان بارزاني، طالب المؤسسة القضائية بأن تثبت استقلالها، وأن تعطي المحكومين حق نقض الحكم واستئنافه. الرئيس استخدم أيضاً كومةً من الدبابيس الناعمة، التي شوّهت وسامة الموقف الموحّد للديمقراطي، لهذا ربّما عليه أن يأخذ بالحسبان خيار الانفصال عن العريق الديمقراطي في الانتخابات القادمة!
جميع القوى السياسيّة في الإقليم، العتيقة منها والشابة، بات عليها أن تعترف لنفسها على الأقل أنّ الغطاء الدّولي ليس هو ما ينجي كردستان العراق من طائلة العقاب المعنوي و الدستوري، إنّما هو تقدير العراقيين لما حققه الإقليم من إنجازات -بحسب مقياس الواقع الحالي- حيث صنع الناس منه خشبة، يقحمونها في عيون أبرهة الأحزاب العراقية؛ التي لم تخجل في الآونة الأخيرة من صنع صنم يشبه الكعبة، لتشرك عبادة الأوطان بالأوثان.
الصحفيون الجادون في العراق ثروة نادرة، لا بدّ من ريّها بالتسامح على أقلّ تقدير، و الكفّ عن استخدامهم كـكيس من الماء الساخن لمعالجة الروماتيزم الحزبي، المسبب الحقيقي لسوفان العظام الأمنية. أيضاً ربّما باتت هنالك حاجة ملحة لترشيق "لوبيات" كردستان الأمريكية، من أعضاء الكونغرس الكارهين للدّول العربية، والذين يعتبرون تمزيق وحدتها (العراق كنموذج) هدفاً مثالياً. واصفين إيّاها "مستعمرات سكب الشاي المزعجة"، على حدّ تعبير جاريد بولس، زميل رالف إبراهام، في التجمع الكردي– الأمريكي.
أتمنى في النهاية أن تتحقق قراءة رئيس "المستقبل" النيابي سركوت شمس الدين، فيما يخصّ إفاقة المؤسسة القضائية في الإقليم، من غيبوبة المناكفات السياسية: "أنا أؤمن أنه لا تزال هناك فرصة للنظام القضائي الكردستاني، بأن يصحح أخطاءه ويستعيد مصداقيته خلال الأسابيع القادمة".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.