تخبرنا أسطورة (رابونزل) عن مرض والدة الأخيرة قبل ولادتها مرضاً شديداً؛ فاضطر زوجها لخطف زهرة لعلاجها من عند الساحرة العجوز (غوتل) التي غضبت غضباً شديداً من تصرف الزوج، وقررت معاقبة الأبوين بخطف ابنتهما القادمة إلى الحياة (رابونزل) وبالفعل اختطفتها وحبستها في برج منيع، ومنعتها من الخروج من القصر منعاً باتاً. إلا أن (رابونزل) بقيت سعيدة ولم تحاول الهرب من برج الساحرة. وكان لرابونزل شعر ذهبي طويل، له قدرات خارقة؛ ولذلك تشبثت الساحرة بمنعها من مغادرة البرج مهما جرى.
إلا أنها ما برحت ترى أنواراً كل عام ولم تكن تعلم أن تلك الأنوار هي أنوار يطلقها والداها الأميران من القصر كل عام في تاريخ ميلادها. وراودت (رابونزل) فكرة النزول من البرج الحصين مرات عديدة حتى تتعرف على سر تلك الأنوار. وفكرتْ رابونزل كثيراً حول ماهية أحاسيسها ومشاعرها عندما تخرج من البرج لأول مرة في حياتها بعد قضاء ثمانية عشر عاماً فيه وتتعرف على الدنيا وسر تلك الأنوار الذي تحول إلى هاجس يؤرقها.
وقد رأينا تجسيداً لتلك الأسطورة في فيلم الأنمي (Tangled)، من تأليف الأمريكي دان فوجلمان، وأخرجه للنور المخرج الأمريكي ناثان جرينو.
نفس الأسطورة تم تجسيدها في فيلم الأنمي (Soul)، والذي عرض في الولايات المتحدة الأمريكية في 25 ديسمبر/كانون الأول 2020 الماضي، عندما وصل جو غاردنر، بطل الفيلم، إلى تحقيق حلمه بأن يعمل عازفاً للبيانو في فرقة الفنانة دورثيا ويليامز.
فيلم Soul وأسطورة رابونزل
تقابل غاردنر مع دورثيا ويليامز عازفة الساكسفون الأشهر على الإطلاق واتفقت معه على أن يعزف في فرقتها في نادي (Half Note)، وخرج من عندها وعاد إلى بيته وهو يتقافز فرحاً، والسعادة تحلق به في سماوات فوق سماوات. وسار وهو هائم على وجهه، وبينما هو يحلق بفكره ففي أعالي المجد والشهرة والعزف إذا به يسقط في بالوعة ويفقد الوعي ويذهب به إلى الإسعاف في وحدة الرعاية المركزة بالمستشفى.
وحالما غاب عن الوعي، إذا بمخرج الفيلم بيتي دوكتر يتنقل بكاميرته الرشيقة إلى عالم الأرواح، ونجد جو يسير في طابور سماوي طويل مع عدد مهول من الأرواح السائرة إلى عالم الموت، فيفاجأ بذلك ويتقهقر إلى الخلف وهو ما فتئ يهتف "أنا لم أحقق حلمي بعد. لقد بدأت حياتي للتو..". وبينما هو يعود إلى الخلف إذا به يسقط في عالم أرواح ما قبل الولادة، وفيه تكتسب كل روح الشخصية بمميزاتها وعيوبها التي ستنزل بها إلى جسدها بعد الولادة.
وفي عالم الأرواح، يكتسب جو شخصية المرشد الذي يوجه تلك الأرواح قبل ولادتها مع مرشدين آخرين، ويقع عليه توجيه الروح رقم (22) والتي يمثلها صوت الفنانة (تينا فاي). وتلك الروح لا تريد أن تولد ولا حتى أن ترى عالم البشر، وقد فشل معها مرشدون آخرون كُثر مثل أرواح أبراهام لينكولن والعالم نيكولاس كوبرنيكوس ومحمد علي كلاي والأم تيريزا وماري أنطوانيت وغيرهم لكي يوجهوها التوجيه الذي يجعلها تحب أن تولد وأن تمر بتجربة الحياة البشرية.
يحاول جو مع (22) لكي تغير مزاجها السوداوي ونظرتها التشاؤمية للحياة الأرضية. وقد كان جو والروح (22) متناقضيْن؛ ففي الوقت الذي يحب جو الموسيقى وموسيقى الجاز بالذات، نجد الروح (22) تكره الموسيقى، وبينما جو يحب الحياة ويريد أن يحقق حلمه في الشهرة والعزف على البيانو عند دورثيا ويليامز، نجد (22) لا تريد أن تنزل إلى حياة البشر على الإطلاق.
وبينما يسير جو مع (22) في عالم الأرواح التائهة أو الضائعة، يجدان المرشد (مون ويند) والذي أخبر عن نفسه قائلاً "نحن صوفيون بلا حدود ونستطيع أن نعيد الأرواح التائهة إلى أجسادها". يرسم ويند دائرة على أرض الأرواح التائهة ويأمر جو أن يتأمل جسده في الرعاية المركزة مع التركيز على صوت البيانو المحبب لقلب جو، فيهبط جو ومعه الروح (22) إلى الأرض.
يستفيق جو من غيبوبته وسط تعجب الطاقم الطبي حوله، ولكن تحدث مفارقة حيث تتلبس الروح (22) جسد جو بينما روح جو تتلبس جسد قطة.
تتحرك الروح (22) بانسجام داخل جسد جو، وتنطلق بحيوية ونشاط في الحياة لاكتشاف كل جديد، بينما جو يسير معها بجسد القطة بإحباط لا يوصف. وبينما ينطلقان في شوارع مدينة نيويورك يطاردهما ما يسمى "ملك الموت" الذي يبحث عن روح جو المفقودة في عالم الموتى. وأخيراً يجد جو فيأخذ روحه ليكمل العدد الناقص لديه.
وتقديراً لنجاح جو في إقناعه للروح (22) بالنزول إلى عالم البشر، تمنح الملائكة جو فرصة أخرى للحياة. يعود جو للحياة، ويحقق طموحاته ويعزف مع فرقة دورثيا ويليامز، ويصفق له الجمهور كما كان منتظراً.. ولكن بعد خفوت تصفيق الجماهير، يتساءل: ماذا بعد تحقيق الحلم واحتضان نشوة الهدف المنشود؟
يشعر جو بأن هناك ما ينقصه ويريد أن يكمله بعد تحقيق الحلم وإرضاء شغف الانتصار والوصول للذروة، فسأل دورثيا: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ أجابته: نعود غداً ونكرر نفس الأمر. فغر فاه مندهشاً ومتحيراً ومحبطاً. فقالت: "سمعتُ عن قصة السمكة الصغيرة التي كانت تسبح برفقة سمكة كبيرة وقالتْ لها: أحاول العثور على ذلك الشيء الذي يدعى المحيط، ردتْ السمكة الكبيرة: تسألين عن المحيط؟ إنه ما أنتِ فيه الآن. فردت السمكة الصغيرة: (هذا ماء أنا أريد المحيط)".
إن فيلم "Soul" الذي أنتجته شركة الرسوم المتحركة "Pixar" مع شركة ديزني يريد أن يخبرنا بأن الحياة نفسها هي الهدف الذي نسعى إليه فيجب علينا أن نشعر ونستمتع بكل ثانية فيها، وإن السعي وراء تحقيق الأهداف يجعلنا، في كثير الأحيان، ننسى الحياة ذاتها وبالتالي نفقد مشاعر اللذة والمتعة.
ولو عدنا لأسطورة رابونزل ووجدناها وقد تغيرتْ نهايتها وظلت البنت رابونزل بقية عمرها في ذلك البرج المنيع والسجن الحصين لاستمتعت أيضاً بالحياة مهما طال بها الزمن في ذلك السجن لو أرادتْ هي ذلك؛ فمملكة الكون كله داخل القلب.
والروح (22) التي لا تريد أن تنزل إلى الحياة الأرضية والمتشائمة من الحياة ذاتها، توجد مثيلاتها داخل أرواح كثيرين منا؛ ممن بعث في أرواحهم التشاؤم من الحياة، أو تعرضوا لأمراض نفسية عاتية، أو قرروا الانتحار مهما كانوا يعيشون في حرية وسعة ورغد من العيش؛ فهم مسجونون في أفكارهم التشاؤمية، ومقيدون بالإحباط المسيطر على نفوسهم، ويأكلهم اليأس من التغيير الذي يتملك أرواحهم، والهلع من الحياة الذي استحكم على قلوبهم.
الروح (22) قد أحبت الحياة بعد تشاؤمها منها، وأقبلت عليها بعد إدبارها، حتى أحبت الموسيقى بعد كراهيتها العميقة لها، ووجدت شرارتها في الحياة بعد الإحباط المستولي عليها قبل الولادة، فهل يُقبل على الحياة أولئك المحبطون والمتشائمون واليائسون؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.