لا يكون كلام في الدول النامية عن تطوير وتنويع مصادر الدخل القومي إلا بذكر تطوير السياحة والتصنيع وتصدير المواد الخام أو معالجتها بعض الشيء قبل تصديرها، لكن الكلام عن التعليم لا يناقش أبداً بوصفه مصدراً للدخل مثله مثل السياحة أو التعدين أو التصنيع، وما ذلك إلا أن نوعية التعليم (الجامعي وقبل الجامعي) المتاح في الدول النامية غالباً لا تتحقق فيه صفات الجودة التي تجعله مصدراً للدخل من خلال جذب الطلاب الوافدين لدولة من الدول، ولا يرتبط به بحث علمي رصين وجاد ومؤثر من شأنه أن يحقق طفرة في مجالات الاقتصاد التقليدية أو المبتكرة.
والسؤالان اللذان تحاول المقالة الراهنة الإجابة عنهما هما: 1) هل يمكن اعتبار التعليم مصدراً من مصادر الدخل القومي، و كيف يتم ذلك؟
هل يمكن اعتبار التعليم مصدراً من مصادر الدخل القومي؟
إجابة هذا السؤال تكمن في إحصائيات رسمية ومعلنة تؤكد أن تعليم الوافدين أحد مصادر الدخل القومي لدول متعددة منها بريطانيا (بدخل يقدر بـ25 مليار جنيه استرليني، أي ما يعادل 34 مليار دولار أمريكي تقريباً)، والولايات المتحدة (بدخل يقدر بـ44 مليار دولار)، وكندا (بدخل يقدر بـ22 مليار دولار أمريكي). تشمل هذه الأرقام المصاريف الدراسية التي يدفعها الطلاب للجامعات بشكل مباشر، وما ينفقونه على خدمات التأشيرة والطيران والإسكان والمواصلات والصحة والطاقة والملابس والغذاء والترفيه، إلخ… وهذا يعني أن جذب طلاب وافدين لدولة من الدول -عدا مكاسبه الثقافية المتنوعة- من شأنه أن يوفر وظائف في قطاعات متعددة. فعلى سبيل المثال، أدى وجود الطلاب الوافدين في الولايات المتحدة عام 2019 إلى الحفاظ على 460 ألف وظيفة في كل القطاعات المذكورة أعلاه، وتقترب الأرقام في بريطانيا من 206 آلاف وظيفة، وفي كندا من 170 ألف وظيفة.
كيف يتحقق ذلك؟
الأسباب التي تجذب الطلاب الوافدين لدولة ما دون غيرها متنوعة، منها تفوق الدولة في البحث والتطبيق العلمي، وتفوق الجامعات وترتيبها العالمي، وكثرة الشركات والمعامل الكبرى التي تجذب الباحثين للعمل معها كلياً أو جزئياً، ومناسبة الدولة للتخصص العلمي الذي يريد الطلاب الوافدون التخصص به، وسهولة وانتشار اللغة الأم للدولة، وقوة الإرث الحضاري للدولة المضيفة، وسهولة الحصول على فيزا للدخول للدولة والتجنس بجنسيتها وهل تمنح الدولة الجنسية لمن يولد بها، والاستقرار السياسي، والديمقراطية، ومستوى المعيشة، ومستوى العنصرية أو التسامح الديني أو العرقي.
وإذا بحثنا عن دولة بها كل هذه المقومات فلن نجد، ولكن هناك دول متعددة يتحقق فيها كثير من هذه الشروط والمعايير؛ ما يجعلها قبلة لآلاف الطلاب من شتى أنحاء العالم. وإذا كان تعليم الطلاب الوافدين مصدراً معتبراً للدخل القومي.
فكيف يمكن للدول العربية الإفادة منه وتعظيم مصادره؟
أولاً، نؤكد أن جاهزية أي دولة عربية لاستقبال طلاب وافدين بأعداد كبيرة طريق طويل يحتاج لإجراءات كثيرة وتأجيل البداية، فيه خسائر مادية وثقافية كبيرة. وأرى أن تبدأ أي دولة عربية (خاصة تلك التي تفتقر لمقومات التنمية) تريد الإفادة من دخل الطلاب الوافدين بالعنصر الأسهل، وهو التخصصات العلمية التي تتميز فيها هذه الدول، مثل برامج تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية، والدراسات الإسلامية، ودراسات الشرق الأوسط، ودراسة الصحاري، ودراسة الأمراض المتوطنة (فيروس سي في مصر)، ودراسة مصادر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ودراسة علوم البترول (دول الخليج العربي)، ودراسات الجيولوجيا المرتبطة بالتضاريس العربية، إلخ… كل هذه التخصصات متاحة للتطبيق في العالم العربي، ويمكن لبرامجها في الجامعات والمعاهد التعليمية ومراكز البحوث العربية -إن أُحسن تطبيقها- أن تجذب كثيراً من الطلاب الوافدين من دول أقل في معدلات التنمية والتقدم العلمي، بل ومن دول أكثر تقدماً.
سيأتي الطلاب لدراسة هذه التخصصات في الدول العربية لأنها موضع التطبيق والممارسة. فعلى سبيل المثال، مهما تميز برنامج لتدريس اللغة العربية في الولايات المتحدة، فلن تكون لدى طلابه فرصة لممارسة اللغة (الفصحى واللهجة على حد سواء) أفضل مما لو كان الطلاب في دولة عربية. ومهما تميز برنامج دراسي في جامعة ألمانية يركز على دراسة طبيعة الرمال في الصحراء الغربية في مصر، فلن يكون بديلاً عن دراسة هذه الصحراء على أرض الواقع.
وقد يقول قائل: إن هذه التطبيقات تتم بالفعل بينما يدرس الطلاب في جامعات أوروبية وأمريكية من خلال زيارات قصيرة داخل دول عربية لجمع بيانات أو أخذ عينات أو برامج تبادل طلابي قصيرة الأمد. وهذا صحيح، ولكن لماذا لا تنشئ الجامعات العربية برامج مخصصة للوافدين وتنظمها جيداً بشكل يجذب الطلاب للبقاء لمدة أطول، مثلما يحدث في برامج الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر في مصر؟ ولماذا لا تستعين هذه الجامعات بأعضاء هيئة التدريس بها ممن درسوا بالخارج للإفادة من خبراتهم في هذا الصدد، عبر إنشاء مكاتب قبول طلاب خاصة بالوافدين يديرها أعضاء هيئة تدريس لا موظفون؟ وما هذا الاقتراح إلا لمراعاة طبيعة الطلاب الوافدين من حيث اللغات التي يتحدثون بها، ورغبتهم في إرشاد أكاديمي دقيق، وإعطائهم توجيهاً ثقافياً يناسب ثقافة الدولة التي يدرسون بها، وأظن أننا نفتقر بشدة في جامعاتنا العربية لموظفين إداريين يمكنهم القيام بذلك على وجه يرضي الطلاب الوافدين.
أما بالنسبة للعناصر الأخرى التي تجذب الطلاب الوافدين، فهذه لا تتم بين ليلة وضحاها، وتحتاج لتخطيط كبير على مدى زمني طويل، وتضافر جهود عدة جهات داخل الدول العربية (وخاصة بين الجامعات والمراكز البحثية من جهة والهيئات الحكومية والوزارات من ناحية أخرى)، إلى جانب تنسيق مع جهات تعليمية وثقافية في الدول التي تستهدف الدول العربية جذب الطلاب منها.
وإذا كان جذب الطلاب الوافدين له منافع اقتصادية متعددة، كما سلف، فإن له منافع ثقافية أكبر أثراً، وهذه قصة أخرى نفصلها مستقبلاً إن كان في العمر بقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.