قبل أن توافقوا على الزواج وقبل أن توقعوا على الطلاق

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/26 الساعة 10:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/07 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش

لو أنَّ إنساناً وُلد ولم يُلقن أي شيء بخصوص العالم والثوابت والأحكام والأصول، وتُرك ليحكم بنفسه على ما يشاهد، لقال قولاً واحداً مفاده أن العلاقات الزوجية أساسها انتهاؤها، وأن الأسَر لا يمكن لها أن تكتمل وتنمو حتى النهاية، وأن الأصل في الزواج الطلاق، ومصير كل زوجين أن ينفصلا عاجلاً أو آجِلاً، وفطرة الناس أن يعيشوا مستقلين.

وذلك مع الوضع الحالي الذي نرى فيه الطلاق موضة العصر، ولا نكاد نبارك لزوجين على زواجهما حتى نواسي كلاً منهما على حدة في طلاقه، ونأمل لكل اثنين متحابين متفاهمين أن يرتبطا، وأيادينا على قلوبنا خشية اللحظة التي سيقول كل منهما إنه أصبح "سينجل"، ولا نرى استقراراً في علاقةٍ إلا نادراً، حتى نظن ذلك معجزة يمكن أن تختفي يوماً ما، ولا بد لهذه الكرامة الإلهية أن تنحل من بينهما ولو في آخر نفَس لهما، ومن هذا الأسطورة الذي يظل متزوجاً حتى يموت؟ ومن هذه الظاهرة التي ماتت متزوجة؟ هل من الطبيعي أن يكمل الناس حيواتهم حتى النهاية؟

حاسس إني ارتحت لك.. ما تيجي نتجوز؟

من هنا يبدأ كل شيء، من تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بانجذاب نحو الطرف الآخر، وليس الانجذاب غريباً بقدر ما تكون الغرابة فيما يُبنى عليه، فالطبيعي للغاية أن يعجب شاب بفتاة، وأن يستشعر ذكرٌ الراحةَ في جوار أنثى، وأن تجد السيدة رضاً وهدوءاً في معيّة رجل، ذلك هو البديهي بين الجنسين، ذلك هو الأساس المفطوران عليه، فليست معجزةً أن تكونا مرتاحين معاً، وأن تتشابها في بعض الأشياء، لكن هل يكون ذلك كافياً أن يستقر كل امرئ مع الآخر؟ أن تجتمعا في بيتٍ واحدٍ؟

ولا يجب أن نقف عند الاجتماع في "بيتٍ" واحد، فالبيتُ وإن كان آمناً من الداخل، فربما لا يثير الاضطراب فيه إلا ما كان خارجه، فيجب السؤال هل أنتما مستعدان لتكونا معاً في "شارع" واحد، وفي علاقات واحدة، وفي دوائر مشتركة ومنفصلة واحدة؟ يعني هل تتقبلان علاقة كل منكما بالآخرين؟ هل يجد كل منكما اطمئناناً في نفسه لما يفعل صاحبه؟ هل مستعدان لتغيير سلوكيات، كل منكما من أجل الآخر؟

الفكرةُ هنا تكمن في أن كل واحدٍ له قدرة معينة على التغير، له حد في تقديم التنازلات، له طباع وله تطبع، الطبع أنه رجلٌ لطيف، لكن لطفه لا ينبغي أن يكون في كذا وكذا، وطبعها أنها امرأة مسؤولة، لكنها لا يجب أن تتصدر في كذا وكذا، والطبع بينهما أنهما لطيفان، لكن يجب أن يتواجها بحزمٍ في كذا وكذا، هل أنتما قادران على إدراك ذلك، أم السيولة في المشاعر ستصور لكما أن كل إنسانٍ سيقبل الآخر "بالكامل"؟

زيّ الأفلام

للأسف، يدخل الرجل والمرأة العلاقة وهما مقتنعان تماماً ومتعاهدان ومقسمان ألف يمين، أن يقبل كل منهما الآخر كما هو بالضبط، دون إجراء تعديلات، دون أي تغيير في أي سلوك، مستشهدَين بقصص حب الزمن الجميل، كان زمناً جميلاً لكنها لم تكن قصصاً جميلة.

"أنا بشرب سجاير وبحب الستات وبتعصب كتير وبرجع سكران، وبحبك". تنسى المرأة كل هذا، معتنقةً دين الحب الذي يجُب ما قبله، هذه الكلمة التي ستتجاهل ما عداها، يا سيدتي، الرجل يدخن وأن تكرهين رائحة السجائر، لكنه يحبني! يا سيدتي، الرجل يتعارض مع فطرته وفطرتك، لكنني أذوب فيه! يا سيدتي، الرجل عصبي وأنت عصبية وما بينكما سيصير ناراً إن لم يكن أحدكما عاقلاً، أحبه! يا سيدتي، لكنها لن تجيب، لن تفطن إلى ما بين يديها، لأن الفنان فلان والفنانة فلانة أحبّ كلٌّ منهما الآخر دون أن يتغيرا. يا سيدتي، لكنهما تطلقا في الآخر وجرجر كل منهما الآخر في المحاكم! ششش.. أحبه.

هذا هو سَلو زماننا إذَاً، ملعقة من الشرق وملعقة من الغرب، قطعة من الماضي وقطعة من الحاضر، عصرٌ غارقٌ في السيولة واللزوجة والميوعة حتى أذنيه، ولا تدرك المصيبة إلا حين تقع الفاس في الراس، فتعلم يقيناً أن ذلك لم يكن إلا خدعة كبيرة، وتجد أن ما ظننته حباً لم يكن إلا شرَكاً جرح قدمك، وعطّل سيرك، وأكل من عمرك، ولم تخرج منه إلا بدرسٍ متأخر جداً، أنك لا يجب أن تخطو نحو التفاحة الساقطة في الأرض، قبل أن تتفحص ما حولها من شوك.

بس دي حرية شخصية

على الطراز الغربيّ، في شقةٍ بسيطة وهادئة، يملأها ضوء الشمس نهاراً ونور الأباجورة مساءً، وظلام كثيف ليلاً، وحب في كل الأطراف، يعيشان، لكن ينقصهما أن يكونا متسقين مع فطرتيهما، وينقصه أن يكون كل امرئ مسؤولاً عن نفسه ومسؤولاً عن الآخر، وأن يكون الرجل في محل القوامة، وتكون المرأة في محل الكرامة، دون أن ينساقا إلى بدَعٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وخدعٍ لا تنطلي إلا على المراهقين.

من قال إن الزواج يكفل الحرية الكاملة لكل فردٍ عن الآخر؟ إن الاستقرار يكمن في الاستقلال لا في الارتباط؟ من قال إنني كرجلٍ حر في علاقاتي، وكامرأة حرة في تصرفاتها؟ اخترنا من البداية أن نكون معاً، اخترتَها بمظهرٍ ترتضيه، واختارتك بشروطٍ وعدتها بتحقيقها، وقبلتما أن تعيشا في علاقةٍ، بميثاقٍ يجمعكما في كل شيء، فكيف يكون الرجل بلا مرجعٍ يقول له الصواب من الخطأ، وكيف يعيش حياته و"يقضّيها" دون سيدةٍ تغار عليه وتقول افعل ولا تفعل، وكيف تعيش المرأة حياتها وينقلب كيانها وتتبدل أحوالها، والرجل ملتزمٌ الصمت لأنه ليس "رجعيّاً"، ولأنه منفتح على الآخِر، ولأن جائزة الانفتاح في هذا الزمن تُهدى لأقل الرجال تدخلاً في شؤون زوجاتهن.

يا سيدي، يا سيدتي، إن مر أحدكما بإنسانٍ لا يعني له شيئاً في حياته، ربما يقول كلمةً تقلبه رأساً على عقب، وتحدث بمعيشته كلها انقلابات كبيرة، ويعيش المرء في كنَف بيته وأسرته، فيخرج على ما تلقاه طوال هذه السنوات، وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّدَه أبوه، واقلب القدرة على فُمَّها تطلع البنت لأمّها، فكيف تريدان قضاء العمر كله معاً دون أن يحرك الواحد في الآخر مثقال ذرة؟ وكيف يُعقَل أن تعيشا كل تفصيلةٍ معاً أكثر بكثير مما كان في بيوتكم الأولى، دون أن يغير طرفٌ في طرفٍ أي شيء؟

الطبيعي أن يُقاس الحب أصلاً بقدر ما يستطيع كل طرفٍ التخلي عنه من أجل الطرف الآخر، وليس بإسرافٍ بالتأكيد، وإنما بتعقّلٍ واتزان، دون إفراطٍ أو تفريط، دون تبذير حتى لا يصبح معنى التضحية باهتاً سخيفاً مبتذلاً، ودون تقتير حتى لا تصبح التضحية معنى غائباً ومن وحي خيال الكاتب.

لا بد أن يقدم كل إنسانٍ لصاحبه شيئاً، لا بد أن يحدث تغير ما، لا بد أن تنقلب الدنيا، لأن دخول إنسانٍ إلى حياةٍ إنسانٍ من دون إحداث تغيير حقيقي، سوى أن السرير الواحد يسع فردين بدلاً من فرد، هو مجرد عبث، تفريغ لرغبة، ورغوب عن الفراغ، وبحث عن شيء يشغل شيئاً، وحب بالجوارح لا بالصدور.

مطبخ أمريكاني

ليس المطبخ فقط، بل نظام الحياة بالكامل، المطبخ مظلوم، هو مجرد طرازٍ في الشقة يحبه البعض ولا يحبه البعض، لكن أن تكون الحياة بالكامل "أمريكاني"، فهذا ما لم نسمع به من قبل، إلا في بلاد الفرنجة.

نعيش معاً، نخرج معاً، نسافر معاً، يجمعنا الصالون والفيلم والسفرة والنوم، ولكن لا شأن لأحدٍ بحياةِ الآخر، نحن أصحاب جداً، أصدقاء للغاية، لكن من دون التزامات، وحياتنا خلطبيطة بالصلصة، فلا علاقة لي بالخلطبيطة التي لديك، ولا علاقة لك بالصلصة التي عندي، كل واحد يبص في ورقته، ثم نجتمع في نهاية اليوم، دون أن نناقش ما كان فيه، ودون أن نخطط للغد، ودون أن ننظر إلا لما تحت أرجلنا، حرفيّاً، هذه المرة.

فتكون يا سيدي وسيدتي، العلاقة ساذجة بين اثنين من المراهقين، رجل لا يريد أن يعتدل، وامرأة لا تريد أن تستقيم، وكل منهما يكافح ويحارب ويجاهد ضد فطرته، ويشعر بغيرةٍ في قلبه فيقتلها لأن "المنفتح" بتعريف العصر الجديد، لا يغار، وتشعر بغصة في حلقها، فتئدُها، لأن المرأة المنفتحة لا يجب أن تحجر على رجلها المنفتح ولا يحجر عليها كذلك.

وهُنا، تنتهي العلاقة حين تزول اللذة، وقد تستمر العلاقة لكن مع الغُصة، أو حتى غياب الغُصة مع الحرص على دفنها، فتجد أسرةً مفككة، مجتمعاً غير مترابط، لا حاكم فيه، ولا حُكم لأحد على أحد، ولا سلطة لكل طرف على الآخر، ظنا منهما أن الحرية تؤتَى من هنا، غافلين عن العبودية لأنانيتهما، الغارقين فيها حتى عيونهما، فعميَت عن رؤية الصواب.

طلقني

ولما كانت الحياةُ كلها سائلة إلى هذه الدرجة، لا شيء متماسكاً، ولا أحد مضحياً، ولا اتزان في أي شيء، صار الخروج من علاقةٍ سهلاً كما الدخول فيها، والأجدر أن يكون الدخول صعباً، مبنيّاً على صفات ومواصفات وعقلٍ وقلب، فيكون الخروج بعيداً وربما مستحيلاً، لأن القرار لم يكن ساعةَ احتياج طارئة، ولأن اللقاء لم يكن على حين غرة بين اثنين يملآن ما بهما من فراغ عارض.

يملأ الانفصال جميع الأركان، وترى الطلاق أكثر من المواصلة في الزواج، وترى نتيجةً لكل ما سبق، موضة "السنجَلة" بعد الارتباط، وفي أحيان كثيرة يكون الطلاق قراراً عقلانيا مستحقّاً وصحيحاً، ولا ننكر على أصحابه ذلك بالتأكيد، ولكلٍّ ظروفه، لكن لا نتحدث عن "الطلاق" العادي، وإنما عن "الطلاق" الظاهرة، ذلك الذي ينفصل فيه المرء عن زوجه في لحظة غضبٍ عارض كما ارتبطا في لحظة عمى مؤقت، فكان السبب مقدماً للنتيجة، لكنهما لم يريا -كما قلنا- إلا ما تحت أقدامهما.

قديماً، أو في عالمٍ أقل جنوناً، كان الطلاق هو الخيار الأخير في حالة "استحالة" المعيشة لكل طرف مع الآخر، كان اللجوء له يأتي بعد استنفاد كل المحاولات والطرق، بعد طَرق كل الأبواب، بعد تجربة كل الأساليب، ويحدث باستحقاق، ولا يشعر أي طرفٍ الندمَ لحظةً على القرار الذي اتخذه، لأنه لم يترك قبله طريقاً إلا قطعها.

الرجل يكون أكثر ميلاً إلى العقل، تشتاط الأنثى، وتشتعل عاطفتها، ويُجنّ جنونها عند أول مطب، تقول "طلقني"، فيسمع الرجل الكلمة دون أن يعيرها اهتماماً، لأنه بعد خمس دقائق سيطيّب خاطرها، وتقول له إن زواجهما كان أحلى حدثٍ في المجرة، وتذوب المشاكل مع الحلول بين صدريهما في حضنٍ حَنونٍ دافئ يصهر نوبات الغضب.

وتكون الأنثى أكثر ميلاً للعاطفة، يذهب عقل الرجل، وتثور ثائرته، ويصير طفلاً غاضباً من أقل شيء، فتتعامى عن كل ذلك، لأنها لحظات عابرة، ويسكن، ويهدأ، ويعود لها مقرّاً بسذاجته وخجلاً من خيبته، وتحتويه ليختفي كل شيء، ويتبخر الغضب، ويغادر الشيطان مدلدلاً أذنيه من الخيبة وبعودته فارغ الكفّين والفكّين، وقد سكن كل شيء في الغرفة، وعادت الأمور إلى طبيعتها.

لكن الآن، في زمن الجنون المطلَق، يكون الطلاق الخيار الأول في حالة "عدم سهولة" المعيشة بين الطرفين، وقبل أن يتنازل كلٌّ منهما للآخر عن شيء، يصران على أن ينفصلا دون إصرارٍ مثله على مواصلة الحياة معاً، ونؤكد على الاستثناءات المشروعة، لكن في الظاهرة التي بين أيدينا وأمام أعيننا، نجد مصيبة الطلاق السائل، كما نجد قبله الحبّ السائل، حتى يفني الإنسان عمره غارقاً في تلك السيولة مجرباً لها بكل طعومها، دون أن يتعظ ويكتفي بطَعمٍ -أو طُعمٍ- واحدٍ فقط.

عصر اللمون

بقدر ما يكون الليمون مشروباً مقدساً في أوقات الصفاء بين الحبيبَين، وبقدر ما يكون الحل السريع في نوبات الغضب، وبقدر ما يكون العلاج الشافي في أوقات المرض، وبقدر ما يكون النكتة القديمة المتجددة في ساعات الرضا، فإن الحياة لا تخلو من شوكِ أعواده كذلك، لأننا نأخذ الشجرة بالكامل ولا نقطف منها حبات الثمرة وحدها.

ولنتحمل الشوك، ولنزيله، ولنتخلص منه، يعصر كلٌّ منا على نفسه "لمونة" من أجل الآخر، وأسأل نفسي دائماً، إذا كان الناس في العلاقة التي لا حاكم فيها ولا التزام، يعصر كلٌّ منهما لمونةً على نفسه ليتحمل تصرفات الآخر غير المسؤولة، وعلاقاته المفتوحة، وأبوابه المتروكة على مصاريعها، وانتكاس الفطرة في تصرفاتهما، وما دامت اللمونة تُعصر يا سيدي، فلماذا لا نعصر اللمونة نفسها على رؤوسنا ونكون مسؤولين؟ متسقين مع فطرتنا؟ فنتحمل الليمون الذي على رؤوسنا من أجلنا ولأجل الذين نحبهم، بدلاً من أن نعصرها للتغاضي عن الذي لا يمكن التغاضي عنه؟ لو جربنا ذلك فلن نعصر الليمون إلا في البداية، ثم نهنأ بشُرب بقيته إلى آخر لحظةٍ في العمر، في كرسيين متقابلين، أو أمام وسادتين متجاورتين، بدلاً من أن نفني الحياة كلها، لا ننال إلا شوك الأعواد، وحموضة السائل فوق الرؤوس التي تصطك أسنانها.

نحتاج يا سيدي، ويا سيدتي، إلى أركانٍ آمنة، إلى علاقات باقية، إلى مساحاتٍ مشتركةٍ عاقلة تكفل لنا المساحات الخاصة المعقولة، إلى علاقاتٍ يكون الدوام هو الأصل فيها، ويكون الثبات أول آمالنا منها، دون أن نشعر بقُرب الارتباط وقرب التخلي، بسهولة الوجود وسهولة الاختفاء، بسيولة الحب وسيولة الكره.

ولذا، أرجوكم، نقطة نظام، ووقفة لازمة، وتفكيرٌ مستحق، وألف سؤال ومليون جواب، واتزان وتعقل، وتمهل وتريّث، ووزن للأمور، وتفحص لكل الجهات، ونظر من كل الجوانب، وضبط للمرايا، وتأكد من السلامة، وإقبالٌ مطمئن، وقرارٌ ليس مجنوناً.. قبل أن توافقوا على الزواج، وقبل أن توقَعوا على الطلاق.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد