العام الماضي 2020 كان استثنائياً وصعباً بكل المقاييس على معظمنا إن لم يكن جميعنا، فجائحة كورونا التي ظهرت بشكلٍ مفاجئٍ مطلع العام كانت سبباً في وفاة أكثر من 2 مليون شخص حول العالم، بينما فقد كثيرون وظائفهم، وتأثرت العديد من الأعمال والقطاعات بسبب الإغلاقات التي فرضها انتشار الفيروس، حتى السعداء الذين لم تتأثر صحتهم وأعمالهم فقدوا إحساس الاستمتاع بالحياة وحرية التجول والسفر بلا قيود ولا كمامات أو إجراءات احترازية.
على الصعيد الشخصي عانيتُ كغيري في الأشهر الأولى من انتشار الفيروس، تمثلت المعاناة في الشعور بالملل والكآبة والقلق، إلى أن جاء أغسطس/آب ففي مطلع ذلك الشهر تلقيت مكالمة من شقيقي الأصغر فحواها أن الوالدة مريضة وأنها عاتبة عليّ قليلاً لطول مدة غيابي عنها، استغربت لأنني لم أغب طويلاً عن أرض الوطن؛ إذ كنت هناك قبل أقل من عام، في إجازة قصيرة كانت الأولى لي بعد غياب قسري امتد نحو ثلاث سنوات ونصف بسبب المضايقات الأمنية التي كان يفرضها علينا نظام الرئيس المخلوع عمر البشير عقاباً لنا على نشاطنا الإعلامي المعارض.
حديث أخي الأصغر عن عتاب الوالدة دفعني إلى أخذ إجازة طارئة من عملي والسفر إلى بلدي السودان على وجه السرعة، لا أخفي أن الرحلة كانت مزعجة بفعل الإجراءات الاحترازية والتدابير المشددة في المطارات وداخل الطائرات، تذكرت حينها كم كانت حياتنا ممتعة ومريحة قبل ظهر الفيروس.
المهم أنني اطمأننت على صحة الوالدة وقضيت بعض الوقت مع الأسرة والأقارب في قبة الشيخ سلمان قبل العودة إلى العاصمة الخرطوم التي كان الجو فيها ساخناً بعض الشيء رغم أننا كنا في موسم الأمطار الصيفية آنذاك.
في الخرطوم عانيت من ارتفاع درجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، الأمر الذي دفعني لبعض العادات السيئة مثل الإكثار من شرب القهوة، وتدخين "الشيشة" أحياناً رغم أنني لم أكن مدخناً على الإطلاق طيلة السنوات الماضية من عمري. لكن انعدام البرامج الترفيهية وكثرة قطوعات الكهرباء كانا سبباً لتعودي على هذه العادة السيئة في بضعة أيام.
مضت الأيام سريعاً، وطلبت من جهة عملي في الخارج أن تمدد لي إجازتي الطارئة لتكون إجازة سنوية كاملة طالما أنني سافرت فعلياً في هذه الظروف الاستثنائية، جاءت الموافقة على طلبي بسرعة لم أتوقعها، غير أن أحد الأصدقاء ألحّ عليّ راجياً مرافقته إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بحكم معرفتي الواسعة بها حيث كان يدرس فكرة تأسيس مشروع استثماري هناك.
سبقته بالفعل إلى العاصمة المفضّلة لديّ، إذ وصل هو في اليوم التالي لمجيئي فقد كان قادماً من مدينة دبي العاصمة الاقتصادية والسياحية لدولة الإمارات، لم تكن أديس أبابا تلك المدينة الصاخبة الرائعة التي أعرفها.. أثّر عليها انتشار فيروس كورونا بشكل كبير رغم أن السلطات هناك لم تفرض إغلاقاً كاملاً على البلاد في ذروة انتشار الفيروس، بحجة أن كثيراً من المواطنين يعتمدون في أرزاقهم على الأعمال اليومية، وحتى القيود الجزئية كان أغلبها قد رُفع عندما وصلنا في أواخر أغسطس/آب.
قابلت مع صديقي عدداً من رجال الأعمال والمستثمرين في العاصمة الإثيوبية لأخذ رأيهم قبل الشروع في أي خطوة عملية، أصدقكم القول ــ لأول مرة ــ كان الكل متشائماً حتى المواطنين الإثيوبيين لم يشجعوا صاحبنا على الانخراط في أي عمل جديد، جائحة كورونا كانت قد أثرت بشكل لافت على مجتمع الأعمال في إثيوبيا، واضطر كثير من المستثمرين إلى تصفية أعمالهم والخروج بأقل الخسائر، بينما كانت الأزمة السياسية على أشدها (آنذاك) بين الحكومة الفيدرالية التي يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد من جهة وحكومة إقليم تيغراي بقيادة دبرصيون جبر ميكائيل من الجهة الأخرى. وكانت البلاد لتوها خارجة من أزمة أمنية واضطرابات تفجرت عقب مقتل الفنان المعارض هاشالو هونديسا أواخر يونيو/حزيران الماضي.
لكل هذه الأسباب رأى صاحبنا صرف النظر عن الاستثمار حالياً في إثيوبيا فعاد إلى السودان، بينما آثرت البقاء لبضعة أيام كي أنجز بعض الأعمال الخاصة وأعود عقب احتفالات رأس السنة الإثيوبية التي تصادف 11 سبتمبر/أيلول حسب التقويم الخاص بإثيوبيا.
حاولت الاستمتاع في أمسيات أديس أبابا رغم الأجواء الكئيبة التي خلفها فيروس كورونا، لكن كل أماكن الجذب في أديس أبابا مثل Habesha 2000 وyod Abyssinia والمطعم اللبناني وغيرها كانت خالية من الجمهور، فاتجهت إلى صالة تقدم فيها الشيشة قرب المطار، وهي من الأماكن السياحية القليلة التي سمحت فيها السلطات للملاك بتقديم الشيشة للجمهور، ذلك أن تدخينها ممنوع منعاً مشدداً إلا بتصريح خاص لمنشآت قليلة من فئة الـ5 نجوم.
فات عليّ الانتباه إلى أن أديس أبابا مدينة مرتفعة عن سطح البحر "2330 متراً مربعاً"، لذلك يعاني القادمون حديثاً إليها من بعض الضيق في التنفس بفعل قلة الأكسجين، نسيت ذلك وقمت بالتدخين في ليلة رأس السنة مما أدى إلى شعوري بضيق شديد وألم في منطقة الصدر، بكل صراحة شعرت بالخوف وذهبت إلى الطبيب في ساعة متأخرة من الليل، فأخبرني بأن ضغطي مرتفع وسألني إن كنت أعاني من ارتفاع ضغط الدم من قبل، أجبته بلا، وأوضحت له أنني دخنت الشيشة بإفراط في تلك الليلة، فأكد لي أن تدخين نصف ساعة فقط كفيل برفع ضغط الدم لدى الشخص الطبيعي إلى مستوى عال، أعطاني حقنة وطلب مني الاسترخاء والعودة في اليوم التالي.
عدت بعد الظهر إلى المستشفى وأجريت قياس الضغط للمرة الثانية فوجدته أفضل بكثير من الأمس، لكنه ما زال مرتفعاً، كررت الزيارة مرتين بعدها وكان ضغط الدم ما زال يسجل ارتفاعاً.
في المرة الثانية أخبرني الطبيب بأنه سيقوم بتصنيفي كمريض بارتفاع الضغط مبرراً بأن ضغطي سجّل 140/92 لفترة 10 أيام، وأعطاني أقراص دواء بواقع قرص واحد يومياً. لا أخفي أن فكرة تصنيفي مريضاً بارتفاع ضغط الدم أصابتني بالرعب والخوف، لطبيعة هذا المرض والمخاطر التي يشكلها على حياة الشخص. لكن عدداً من أصدقائي الأطباء استغربوا في سرعة تشخيص الطبيب الإثيوبي وتعامله معي على أساس أنني حالة مؤكدة الإصابة بارتفاع الضغط.
عندما حان وقت عودتي إلى السودان ذهبت إلى مركز فحص الكورونا التابع للاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، وكلي ثقة في أنني لا أعاني من أي شيء، لكن كأن المصائب لا تأتي فرادى؛ إذ اكتشفت أنني مصاب بفيروس كورونا رغم عدم شعوري بأي عرض من الأعراض.. لا حمى ولا صداع ولا سعال. وعليه لم يكن مسموحاً لي بالسفر.. أدركت في ذلك اليوم أن العاصمة الإثيوبية كغيرها من عواصم إفريقيا كانت موبوءة بالكورونا، إذ لم يُطلب مني الخضوع للحجر الصحي، فقط قيل لي اذهب وائتِ لإعادة الفحص بعد أسبوعين أو ثلاثة!
صرت مقيد الحركة داخل إثيوبيا وممنوعاً من السفر خارجها بفعل الكورونا، وتحاصرني هواجس الإصابة بضغط الدم، كما أن أديس أبابا كئيبة بفعل الوباء، فقررت ذات صباحٍ السفر إلى بحر دار المدينة التي أعشقها.. نعم سافرت إلى بحر دار لكنني حرصتُ جداً على اتباع الإجراءات الاحترازية مثل التقيد بالكمامة والحفاظ على مسافة التباعد الاجتماعي من أجل سلامة الآخرين.
قضيت في بحر دار أياماً رائعة وسط الخضرة والجمال.. خففت عني الكثير من الكآبة وإحساس المرض، فعندما أجريت قياساً لضغط الدم هناك وجدته صار أقرب إلى الطبيعي، لكن لم يتبق لي وقت للعودة إلى السودان؛ إذ انتهت إجازتي السنوية بسبب الفترة التي قضيتها في إثيوبيا عقب الإصابة بفيروس كورونا.
عدت إلى مقر عملي في الخارج، وذهبت إلى طبيب الباطنية شرحت له كل ما ألمّ بي خلال الإجازة التي لم تكن كسابقاتها أبداً، فقال لي إنه سيتعامل معي على أنني لا أعاني من ارتفاع في ضغط الدم حتى يثبت العكس، أعطاني جملة من التوجيهات بينها تقليل ملح الطعام ومحاولة تقليل الوزن فضلاً عن تناول الأطعمة والمشروبات التي تحتوي على البوتاسيوم مثل الموز والبطيخ والزبادي والكركديه، والأهم من ذلك البعد عن أجواء القلق والتوتر والنقاشات السياسية بما في ذلك الابتعاد عن مواقع التواصل.
التزمتُ بتعليمات الطبيب وزدت عليها إيقاف التدخين نهائياً، تلك العادة السيئة التي لم أعرفها إلا بالخرطوم في أغسطس/آب الماضي. اتبعت كذلك حمية غذائية شملت مقاطعة الخبز والأرز بجانب الإكثار من شرب الماء وتناول الخضراوات والفواكه، فضلاً عن الانتظام في الرياضة اليومية مما أدى إلى خسارة 12 كيلوغراماً من وزني في ثلاثة أشهر.
انتبهت كذلك إلى أنني كنت أستهلك القهوة الداكنة بكميات كبيرة يومياً فأوقفتها، وحاولت التقليل من متابعة أخبار الحروب والكوارث بقدر استطاعتي، فالحرب التي شنها رئيس الوزراء آبي أحمد على إقليم تيغراي أصابتني بالألم والإحباط الشديدين، فهذا الإقليم المسالم له مكانة خاصة في نفسي بغض النظر عن المجموعة التي كانت تحكمه وتخوض حالياً نزاعاً مسلحاً غير متكافئ مع الجيش الإثيوبي والجيش الإريتري وميليشيات عرقية.
كما انتظمت في شرب كوبين يومياً من الكركديه المعروف باحتوائه على كمية وافرة من عنصر البوتاسيوم، وقد أدت كل هذه الإجراءات التي التزمت بها إلى عودة ضغط الدم عندي إلى المستويات شبه الطبيعية بحمد الله، لكنني ما زلت مواظباً على هذا البرنامج وعلى مراجعة الطبيب بشكل دوري كل شهر حتى لا أتعرض لانتكاسة تعيدني مجدداً إلى ارتفاع ضغط الدم.
ما أريد أن أقوله هنا إن ارتفاع ضغط الدم الذي صار مرضاً شائعاً يستهدف الشباب وكبار السن على حد سواء في هذا العصر، لا يستدعي الجزع والخوف، بل يمكن التحكم فيه وإخضاعه للسيطرة بصورة طبيعية من دون الحاجة إلى عقاقير طبية.. حتى إن كان معدله مرتفعاً بشكل كبير يمكن علاجه بأخف الأدوية ذلك بالتزامن مع ممارسة الرياضة واتباع حمية غذائية مناسبة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.