ممر ضيق يفصل بين نهاية السلم والمدرج الجامعي المُعد لإقامة الامتحانات، تلك وظيفته الأولى، أما الثانية كونه عبارة عن لجنة، فالعدد الكبير للطلاب في جامعة المنصورة، مثل باقي الجامعات، يجعل من المساحات الشاسعة الخالية حلاً لاستيعاب العدد الضخم من الممتحنين في زمن كورونا. لكن تبقى أبواب المدرج مغلقة حتى ربع ساعة فقط قبل موعد الاختبار، فيتزاحم الجميع في الممرات والطرق المؤدية للمباني أثناء سيرهم، وتختلط رائحة الفيروس برائحة العرق.
تتساءل فتاة في غضب، أي نفس شريرة تلك التي تقبل تعريض حياة زملائها للخطر، رداً على شخص يروي أن عائلته جميعها مصابة بفيروس كورونا، وأن أحد أقربائه قد توفي إثر إصابته، وهو نفسه مصاب ولكنه لن يتغيب عن الامتحان الذي فرضت وزارة التعليم العالي على الطلاب حضوره في ظل الأجواء المشحونة بالمرض والموت.
وجدت الفتاة نفسها إزاء معضلة أخلاقية، لكن يبدو أنها قررت تفسير ما قام به زميلها على أنه "شر" وذلك لانعدام أي التفسير. والشر، كما تعرفه المؤرخة وعالمة الأنثروبولوجيا الأسترالية، إنجا كليندينين، "تصنيف إقصائي، هو بمثابة الاعتراف بأن فعل أو شخص ما عصيّ على التفسير". وهو نفس ما ذهب إليه الفيلسوف الأمريكي، جويل فاينبيرغ.
وفي كتابه "الدين في حدود مجرد العقل" يتبنى الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط الشر باعتباره جذرياً في الطبيعة البشرية، كما أن الإنسان بطبيعته يميل نحو الخير أيضاً. هذا التعارض يتلاشى لأن الإنسان من يتحمل مسؤولية أفعاله، فمجال الشر هو مجال الحرية. فيقول: "من وجهة نظر أخلاقية، الإنسان هو إما خيّر أو شرير، ومن الضروري أن يصبح كذلك بفضل إرادته الحرة".
عالم النفس، والأستاذ المحاضر في جامعة ستانفورد، فيليب زيمباردو، المسؤول عن اختبار سجن ستانفورد الشهيرة، يُعرّف الشر بأنه ممارسة السلطة، بغرض تعمد الأذى النفسي أو الجسدي للآخرين لتدمير حياتهم أو أفكارهم. تكمن السلطة في النظام، الذي يخلق الظرف لإفساد الأفراد. هذا النظام عبارة عن الأوضاع الثقافية والسياسية والاقتصادية والقانونية التي تنتجها السلطة.
وبالعودة إلى الفتاة الغاضبة والفتى المجبر على أمره، ووفقاً لتحليل كانط فلا يمكن اعتبار الطالب المصاب بكورونا قد أقدم على شر أخلاقي بتعريض زملائه للخطر؛ لأن فعله لم ينبع من إرادة حرة وإنما نتيجة خضوعه لسلطة النظام.
حين نبحث في كنه الشر الأخلاقي، نحتاج أولاً تحليل دوافعه أو مسبباته. بتعبير آخر، علينا معرفة أين تكمن السلطة ضمن أركان النظام الأربعة.
بالنسبة للعامل الاقتصادي والقانوني، يأتي غالبية الطلاب في الجامعات الحكومية من الطبقة المتوسطة والفقيرة، التي تعتمد في دراستها على التعليم المجاني كحق أساسي للمواطن داخل الدولة. هذا الحق المهدد بالسلب إن رسب الطالب، بعد تعديل بعض أحكام قانون تنظيم الجامعات، رقم 49 لسنة 1972. التعديل الذي فرض رسوم ستؤدي حتماً لعدم قدرة الطلاب من الطبقات الأدنى على استكمال دراستهم في حال الرسوب.
سياسياً، فالدولة المصرية ممثلة في وزير التعليم العالي تنطلق في قراراتها دون عقل للنتائج، فالطالب بالنسبة للدولة مجرد من إنسانيته، لا يملك حق الرفض، ولا يملك فرصة للتعبير عن خوفه من المرض أو الموت فكل تلك الأشياء تقابل بتقاعس أو لامبالاة. وتختتم باتهامات بالفشل والكسل وعدم الرغبة في التعليم، باختصار تلقى المسؤولية على عاتق الأفراد الخاضعين للنظام، وهذا ينقلنا للعنصر الثقافي.
ثقافياً، يبدو لي أن الداروينية الاجتماعية تتحكم في مصير ملايين الطلاب، حيث المطالبة بالجهد والصبر من الأفراد لاختبار قدرتهم على النجاة. بينما الخروج بسردية مختلفة عن الوضع الوبائي، مناقشة الإجراءات والقرارات، يعد نوعاً من الكسل، الذي يتعارض مع تطور الحضارة، فلا يجب تأخير انقراض غير الصالح، بل يجدر استبعاده من المنظومة التعليمية.
من الجلي أمامنا، بأن الطالب المصاب بالفيروس ليس شريراً بل في موقف كارثي، بين المطرقة والسندال.
بالنسبة للفيلسوف الأمريكي، جون رولز، العدل هو الهيكل الرئيسي للمؤسسات الاجتماعية؛ لذا يجب تبني إجراءات تشريعية وسياسية متسقة مع ما تقتضي به مبادئ العدل. يفترض رولز ما يسميه الوضعية الأصلية، أين يتفاوض الأفراد الأحرار تحت حجاب الجهل، الذي سيحجب عنهم تاريخهم وهوياتهم ومكانتهم وطبقتهم الاجتماعية، شيء أشبه بفقدان الماضي الشخصي، حيث يجهل المتفاوضون أصولهم الاجتماعية والثقافية والفكرية والاقتصادية والأيديولوجية، وهكذا لن يحاول أحد الوصول لمنفعة تخدم مصالحه الشخصية، لأن لا أحد يعرف شخصيته. كما لن يُغامر أحدهم باحتقار فئة اجتماعية معينة أو ظلمها؛ لأنه وبعد إزالة حجاب الجهل قد يكون من تلك الفئة التي وقع عليها الظلم. وبذلك يخرج التداول بنتيجة منصفة، وهي أنّ الرجوع إلى فكرة الوضعية الأصلية للمتعاقدين هي وسيلة لتفادي تأثير المواقع والتصورات الاجتماعية على المعايير المؤسسة للحالة الترابطية القائمة.
بعد هذا العرض المُقتضب عن الشر، يمكن القول إن الشيطان هو الذي لا يبالي بضرر الآخرين ليس الطالب المتعلق بحبال التعليم البالية لكي يجد سلماً يصعد درجاته المتهالكة لكي يضمن بقاءه ويتفادى خطر الانزلاق للهاوية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.