خلال محاضرة للفيلسوف الألماني فريدريش هيغل عن تاريخ الفلسفة، استهل الحديث عن منهج سقراط موضحاً أن "الإرباك هنا هو أهم شيء، لا بد للفلسفة أن تبدأ به وتعمل على ظهوره. لا بد للإنسان الشك في كل شيء والتخلي عن كل افتراض".
حالياً، سقط الإنسان من برجه العاجي، أسقطته حقيقة أنه مجرد كائن من بين كائنات أخرى، بمقدرة فيروس ضئيل لا يُرى أن يحتل جسده ويقدمه نحو الموت المحتم، فزاعة الإنسانية التي يسعى للهروب منها، ظاهرة بأثرها للعيان، لا تحتاج الربكة لمن ينقب عنها، فهي موجودة معنا بسبب شيء خارج عن إرادتنا ويهدد سيطرتنا المزعومة.
هندس الفيروس علاقتنا بالطبيعة من جديد، لم تعد الطبيعة العبد الذي يعمل عند سيده الإنسان، فضربت الطبيعة سهماً جديداً في غرور الإنسانية، بعد كوبرنيكوس، الذي أزاح الإنسان من مركزيته ووضعه على الهامش. وداروين الذي لم ينسب البشرية لكيان أكثر نبلاً من سائر الكائنات، وفرويد الذي فتح عالم اللاوعي لتفسير دوافع الجنس البشري (تيري إيغلتن، المادية).
في كتابه "دياليكتيك الطبيعة" يخبرنا فريدرك إنغلز بأننا "لا نتسيد على الطبيعة كفاتح على شعب أجنبي، وكأننا خارج الطبيعة، بل نحن بلحمنا ودمنا ودماغنا ننتمي إلى الطبيعة ونوجد وسطها، وكل تسيدنا عليها يتألف من الحقيقة الماثلة في أن لدينا أفضلية على الكائنات الأخرى بكوننا قادرين على معرفة قوانينها وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً".
إن قدرتنا على التفكير مكنتنا من معرفة موقعنا من الكائنات الأخرى، التي لا تملك نفس القدرة على استيعاب وضعها بالنسبة للماضي، والحاضر، والتفكير في المستقبل.
سفينة الفلسفة
سفينة الفلسفة ليست كسفينة نوح، فهي تسع البشرية بأسرها. على سفينة الفلسفة يمكنك الهرب من الطوفان في أعمال بلوتارخوس، سينيكا، أوريلوس، لوكريتيوس، وغيرهم من فلاسفة الرومان، أو القفز في أروقة المدارس اليونانية (الكلبية، الأبيقورية، الرواقية)، إضافة إلى فلاسفة العصر الحديث، مونتين في المقالات، ديكارت في انفعالات النّفس، شوبنهاور في فنّ العيش الحكيم، فضلاً عن أعمال فيري، سبونفيل، أونفراي، لونوار، جيجك وغيرهم من المعاصرين.
في أي وقت قد يُصدم الإنسان بالعبث في وجهه، يتعمق الفراغ بداخله، ويتجذر الفناء من حوله، ولا مناص حينها من التساؤل كرد فعل على الشك والحيرة والخوف، أملاً في إيجاد معنى للحياة وتفسير مجريات الواقع حوله. الوباء هو الصحوة المفاجئة بالنسبة لنا، أجبرنا على النظر لداخلنا، بعد أن كانت المدينة تفرض على المرء البحث عن ذاته في عيون الآخرين. فرضت الحياة العيش وطعم الموت في الفم. بعد أن كادت البشرية تتناسى خطر الأوبئة، كان كوفيد-19 منشط ومحفز الذاكرة الذي أفرز في الأمخاخ هرمون الهشاشة من جديد.
تطلعاتنا وأمانينا عن الغد، والأمل بمستقبل يحمل الخير فوق سحابته، يهطل بالمطر على أراضينا فيرويها، لم يكن إلا وهماً، تهديداً مطّرداً يعكس الخواء وتعاسة الحياة حولنا قبل تفشي الوباء، ولم تكن كما تظن نتيجة له. فالوجود خيط لا نهائي من الأزمات، الأمل باب تطرقه الإنسانية دون إجابة، ونحن في العصر الحالي لا نشكل حالة استثنائية؛ فالمآسي والأمراض والحروب سمة العالم مذ وجد. وضع كهذا يجعلنا نتمنى مع سيوران "ألا نولد" أو نردد مع عمر الخيام، قوله "ما كان أسعدني لو لم أجئ للدهر يوماً ولم أرحل ولم أكن". لكن، كيف نعزي أنفسنا ونحتج على هذا الوضع المستمر؟
"ما يُسبّب التعاسة هو السعي وراء السعادة بافتراض أكيد أنّنا سنجدها في الحياة. سيكتسب الشبابُ الكثيرَ لو تمكّنوا من تخليص أذهانهم من الفكرة الخاطئة بأنّ لدى العالم صفقةً عظيمةً سيعرضها علينا"– شوبنهاور.
ما يجعل الترفيه ضرورياً في رؤية باسكال هو تشتيت الانتباه عن التفكير في موتنا ونهايتنا الآتية لا محالة. بمعنى آخر، يغمض الترفيه ورفيقته المتعة أعيننا عن بشاعة الواقع وحتمية الموت. والآن اختطفنا الوباء من هيمنة عالم الترفيه علينا، وأعادنا للواقع حيث اكتشف المرء جهله وهشاشته وهوانه على الطبيعة. فمهما كانت منزلته العلمية وثقافته وممتلكاته، سيهيم على وجهه دون هدف أو معنى من حياته إن فقد معرفته بذاته ومن يكون أو إذا كشفت التحاليل إصابته بالفيروس المنتشر في الهواء.
هناك صورة أخرى للذات، محاصرة بضباب خلقه المجتمع الرأسمالي، لا ترى حين يكون البارز على السطح ذاتاً هائمة خلف مجتمع استهلاكي، يقيم المرء فيه بمقدار السلع التي تكفل له السعادة. مما تأسى بسببه لا مبالاة البشر تجاه المجموعة التي قد تصل أحياناً للعدوانية والانسياق وراء الرغبة -الحيوانية- لا الرغبة الإنسانية التي تتحقق باندماج مع الآخر. يتحتم نفض الغبار عن المساحة التي لا نراها من كينونتنا. والمطلوب لا الشعار السقراطي "اعرف نفسك بنفسك" فقط، بل الاهتمام بالذات والعناية بها كإطار أشمل يسع ضمن أركانه معرفة الذات. حتى تعيد الذات النظر في كينونتها وتثبت جدارتها في خلق معنى خاص بها من الحياة. معرفة كينونة الجسد مرهونة بشرط التحدث معه بصمت صاخب، حين يتجلى أمامنا الواقع عارياً، فيصبح المرء في حوار مفتوح مع نفسه والحياة.
في طيات الخطر الحالي
الإنسان بوضعه ككائن واع بذاته وفرديته وشاعر بتجذره التاريخي؛ لا يستطيع تحقيق وجوده إلا بتضمين شرط آخر وهو أن يعد نفسه كائناً اجتماعياً. الصفة الأولى تحثه على حماية وجوده، وإشباع رغباته وآماله. وبصفته اجتماعياً يسعى لإقرار وجوده باعتراف البشر. بالنسبة لمعرفة الإنسان بنفسه، أصبح الجسد يرفض اختزاله كأداة، وبات مستحيلاً تجاهل تجربته، فما نعيشه نفكر فيه، وما يشغل تفكيرنا نعيشه عبر الجسد، الجسد أصبح مصدراً وشاهداً للقضايا التي تنتمي لإحدى اللحظات الفاصلة في الموجود البشري. تعيدنا تلك التجربة للفلسفة باعتبارها فناً للعيش، طريقة للانتماء إلى الذات الإنسانية والعالم حولنا. بالانغماس في العلاقة بين كينونة الجسد وكينونة الإنسان. حتى يعرف المرء نفسه حقاً، كما يرى الفيلسوف المعاصر هابرماس "فمن الضرورة بمكان، وإلى حدّ ما، أن يكون الشخص في بيته في جسده الحي الخاص به".
حين ينهمك المرء في العالم حوله، وفي ممارسة الشك الذي ينبغي أن يقود إلى اليقين، وبالانشغال بالأشياء يحيد النظر عن المصير والسعادة الشخصية. لكن، وكما يخبرنا كارل ياسبرز. أكون مسروراً إذ أنسى ذاتي حين أكتسب هذه المعارف الجديدة، لكن الأمر سيتغيّر حين أعي ذاتي وأتأمل حالي. لنتأمل بعض الشيء في حالنا نحن البشر، نجد أنفسنا دائماً نعيش في وضعيات أساسيّة محدّدة تنطوي عليها حياتنا، نُسمّيها وضعيات نهائية، لا نستطيع أن نتجاوزها ولا طاقة لنا على تغييرها. إن وعينا بهذه الوضعيات، معناه أننا نبلغ، بعد الدهشة والشك، إلى أعمق أصل للفلسفة. (مدخل إلى الفلسفة، كارل ياسبرز)
الخطر الحالي مختلف عن كونه محاصراً في مكان محدد، لا مساحات موبوءة يمكن تجنبها، والعلم تبين أنه جسد واحد، يتغلب على الأخطار جماعياً، دون تمييز إثني بناء على العرق أو الدين أو اللغة أو حتى التفاوت بين الطبقات. الوباء عنوان للموت، آتٍ خلال وسيط يمر بالجسد، يحتم انفصال وجودنا المشترك في حيز ما، لكنه جرح يمهد للالتئام من جديد. يرى الإنسان وجوده في وجود وسلامة الآخر. بمعنى آخر، هم نحن. وحاجتنا للفلسفة الآن ليس للتدرب على الموت، بل التنقيب في تفاصيل الذات والحياة.
ولا يعني هذا أن البشرية تعاملت بمثالية مع الوباء، فكانوا على قلب واحد، واستخرجوا الدروس، فما حدث أن الستار انكشف عن خدعة الساحر، تبين أن منظومتنا الأخلاقية ورؤيتنا للحياة الجيدة؛ وجه رسم على الرمال. غابت المبادئ في ظل عالمنا المعاصر التي يمكنها أن تكفل حماية الفئات المختلفة من المجتمع، وثبت فقط من جديد أن الإنسان لم يخلق منظومة رعاية وانسجام مع الطبيعة وبين الفرد والآخر داخل نسيج واحد. فلم يكن حالنا أفضل من الفأر الذي تعلم بعض الدروس في المصيدة، عبر تعريضه لألوان مختلفة من العذابات شكلت سلوكه داخلها، فالتجارب الأخلاقية والسياسية والدينية أسهمت في تقويم سلوك الإنسان داخل المصيدة، لكنها لم تساعده حين منح حرية التصرف خارجها؛ حيث سقطت تحت وطأة التجربة.
في فاجعة فجرت ضروباً من القلق، كانت الساحة فارغة ليملأها الباحثون عن خطوات وقواعد، تجلب السعادة والراحة السريعة. ولأن الحياة عالم غير متوقع، لن تجد حلاً في حجز الوعي داخل قوالب محضرة سلفاً، أو كما يصفها هابرماس على لسان أدورنو "تأمّلات تولّدت من الحياة المشوّهة" (مستقبل الطبيعة البشرية، هابرماس).
بالفلسفة تخلق مجتمعاً واعياً قادراً على تفنيد وطرد الأفكار الفاسدة. في عالم يتصف بالديناميكية والحركة المستمرة، لا بد أن تكون الفلسفة فناً للعيش، بدونها يفقد العالم "رسل الإنسانية الناطقة" -على حد تعبير هوسرل- لأنه منذ بداية التاريخ ظل الفيلسوف ضمير زمنه المعذب، والمعبر عن حالة التيه والاغتراب، التي تزايدت خصوصاً في عصرنا جراء سيطرة نظام التفاهة وأنماط الاستهلاك التي تتحكم في الجميع تحت ظل نظام العولمة العالمي.
خلقت الجائحة نمطاً خاصاً من الأسئلة "تتردد بدون انقطاع في صميم الموت والحياة والذاكرة" على حد تعبير فوكو في كتابه نظام الخطاب. ما نحتاجه لا توفره القوالب النمطية للتفكير، الفلسفة مهمة الآن؛ لأنها طاقة من التفكير الحر، معين على تقبل تجربة العيش المشترك، فالهدف الرئيسي اليوم "ليس أن نكتشف، بل أن نرفض من نحن". (ميشيل فوكو مسيرة فلسفية، بول رابينوف).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.