تحدثنا في المقال السابق عن تجربة اليابان في التنمية الاقتصادية والتطور في أسلوب الحكم منذ التحول الذي شهدته في خمسينيات القرن التاسع عشر، بزيارة الجنرال البحري الأمريكي ماثيو بيري لسواحل طوكيو لإجبار قادة اليابان على السماح للسفن الأمريكية بالرسوّ في موانئ اليابان. وقد تبع هذه الزيارة إنشاء قنصلية أمريكية هي الأولى في اليابان لدولة غربية، وتواصل تجاري سمح لليابان بالاستحواذ على التكنولوجيا الغربية. الأمر الذي مكّنها بعد أقل من ثلاثة عقود من تقوية جيشها وغزو جيرانها الصينيين، ولاحقاً هزمت روسيا وغزت شبه الجزيرة الكورية بفضل جيشها الحديث وقوتها العسكرية والاقتصادية الضاربة.
من المهم الإشارة إلى أن اليابان كانت تخضع للجيش بصورة كبيرة في الفترة التي سبقت زيارة ماثيو بيري لطوكيو، وهي فترة كان الإمبراطور خلالها مجرد ديكور. لكن الانفتاح على الغرب والإصلاحات الاقتصادية التي صاحبت الصحوة اليابانية كان لهما تأثير إيجابي ساهم في عودة القرار السياسي والعسكري إلى يد الإمبراطور. وبالرغم من أن الأمر استغرق ما يقارب القرن من الزمان ليتحول نظام الحكم إلى ديمقراطي برلماني، لكن خطوة التخلّص من سيطرة قادة الجيش على القرار السياسي في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر كانت لحظة مفصلية في تاريخ اليابان. كما كان للدعم المالي والسياسي الأمريكي دور كبير في نهضة البلد بعد الدمار الذي شهدته في الحرب العالمية الثانية.
كوريا الجنوبية: من قمقم الحرب إلى النهضة الشاملة
نتحول في هذا المقال إلى كوريا الجنوبية، إحدى النمور الآسيوية التي نجحت في خلال نصف قرن من الزمان في إنجاز نهضة صناعية ضخمة يمكن وصفها بالمعجزة الاقتصادية. فهذا البلد الذي كان تاريخياً فقيراً ويعتمد على الزراعة الإقطاعية والصيد، كان على مرّ التاريخ تابعاً لجيرانه الكبار. الأمر الذي أدى لإطلاق لقب "الروبيان وسط الحيتان" (Shrimp among Whales) عليه. وكان لحكام الصين تاريخي تأثير سياسي واقتصادي كبير على شبه الجزيرة الكورية حتى مطلع القرن العشرين، عندما قامت اليابان في 1910 بغزو شبه الجزيرة الكورية.
بنهاية الحرب الكورية في عام 1953 كانت كوريا الجنوبية من أفقر الدول في العالم، حيث يعيش 40 % من شعبها في فقر مدقع. وحتى مطلع الستينيات كان متوسط دخل الفرد في كوريا الجنوبية أقل منه في هاييتي واليمن وإثيوبيا وحتى الهند. وبخلاف كوريا الشمالية، كان الجنوب فقيراً من حيث الموارد الطبيعية والبنية التحتية. وحتى المنشأة الصناعية الوحيدة التي أقامها اليابانيون أثناء استعمارهم للبلد قبل الحرب العالمية الثانية تدمرت أثناء الحرب الكورية. وقد علّق على هذا الأمر الخبير الأمريكي في شؤون شرق آسيا ماركوس نولاند بملاحظة طريفة أثناء محاضرة له في عام 2005 بالقول: "في عام 1963 الذي شهد ميلاد زوجتي.. كان متوسط دخل الفرد في بلدها (غانا) يتجاوز نظيره في كوريا الجنوبية. اليوم يتجاوز متوسط دخل الفرد في كوريا الجنوبية نظيره في غانا بثمانية مرات".
لكن القيادة العسكرية التي كانت تسيطر على البلاد كوّنت خطة من ثلاث مراحل للخروج من قمقم الحرب والدمار والفقر. حيث هدفت المرحلة الأولى (1954 – 1960) إلى الاكتفاء الذاتي. بينما كان التركيز في المرحلة التالية (1960 – 1979) على الاعتماد على الصادرات في النهوض بالاقتصاد، وكان هدف المرحلة الثالثة (ما بعد عام 1980) الوصول إلى مرحلة التوازن والاستقرار. ولإعطاء مثال بسيط على مدى التطور السريع الذي شهدته البلاد، يكفي الإشارة إلى أن متوسط دخل الفرد الذي كان 100 دولار فقط في عام 1963، ارتفع إلى 10 ألف دولار في 1995، ليقفز إلى أكثر من 27 ألف دولار في 2008. وقد أدّى النمط العسكري الصارم الذي كانت تُحكم به البلاد، بالإضافة إلى الدعم الفني والمالي الأمريكي، إلى تحقيق أهداف المراحل الثلاث بنسبة نجاح غير مسبوقة.
شهدت فترة الحكم العسكري للرئيس الأسبق بارك تشونغ – هي في ستينيات القرن الماضي نمواً اقتصادياً مطّرداً يعتمد أساساً على التصدير. وبالرغم من الانتقادات الغربية لأسلوب حكم الرئيس بارك الدكتاتوري، إلا أن الولايات المتحدة دعمته لتقوية بلاده في مواجهة المد الشيوعي أثناء الحرب الباردة. وبعد اغتياله في عام 1979 والصعوبات التي واجهت الاقتصاد الكوري بسبب التضخم وارتفاع مستوى الدين السيادي، شهدت البلاد تحوّلاً نحو النمو المستقر المعتمد على رفع مستوى المعيشة وزيادة الاستهلاك الداخلي وضبط الموازنة الداخلية، بجانب التحول نحو الديمقراطية.
من المهم الإشارة إلى أن كوريا الجنوبية شهدت أول انتخابات حرة ديمقراطية في مايو/أيار 1948، انتُخب فيها إي سنغ مان وبرلمان منتخب من 197 عضواً. لكن الحرب الكورية في مطلع الخمسينيات مع الشمال الشيوعي نتج عنها تقوية نفوذ جنرالات الجيش على حساب السياسيين والأحزاب، الأمر الذي أدى لفترة تزيد على العقدين من الزمان من الحكم العسكري الديكتاتوري. وقد شهدت البلاد حالات مد وجزر في تبادل السلطة بين المدنيين والعسكر. استمرت منذ استقلال البلاد في 1954 حتى مطلع التسعينيات.
ويقسم المحللون السياسيون الوضع السياسي في البلاد إلى ستة مراحل، سُميت بالجمهوريات الأولى إلى السادسة، حيث كانت الجمهورية الأولى خلال الفترة من 1945 – 1961، وهي الفترة التي أسس فيها ري سينغ مان الجمهورية بعد الاستقلال عن اليابان. تلتها مرحلة الجمهورية الثانية، والتي شهدت انقلاب الرئيس بارك تشونغ – هي العسكري وسيطرة العسكر على الحكم لعقدين من الزمان. وأعقب اغتيال بارك سيطرة جنرال آخر هو مثون دوهوان الذي ارتكب مذبحة في مدينة غوانجو جنوب البلاد في مواجهة المظاهرات المطالبة بالديمقراطية في 1980. انتظرت البلاد سبع سنوات من النضال الهادئ حتى شهدت في عام 1987 أول انتخابات ديمقراطية حرة وإنشاء دستور يحكم البلد حتى الآن وفوز روتاى، مؤسس وزعيم حزب العدالة الديمقراطي برئاسة البلاد.
من الأخبار التي توضّح المستوى الذي وصلت إليه البلاد في تطور النظام السياسي والشفافية، بجانب التطور الاقتصادي، الأخبار التي حملتها إلينا وسائل الإعلام مؤخراً بالحكم بالسجن 20 عاماً لرئيسة البلاد السابقة بارك كون هيه، بتهم سوء استخدام السلطة واستلام أموال من الاستخبارات وغيرها. جدير بالذكر أن الرئيسة المذكورة هي ابنة الجنرال بارك تشونغ – هي، الذي حكم البلاد لعقدين من الزمان بقبضة حديدية. ويعتبر التحول الديمقراطي الذي جاء بعد النجاح الذي حققته Chaebols (مصطلح يرمز إلى الشركات الضخمة في كوريا الجنوبية المملوكة لأسر وأسهمت في نهضة البلاد اقتصادياً مثل هيونداي وسامسونغ ودايوو وغيرها) عنصرين رئيسيين في المعجزة الاقتصادية الكورية الجنوبية. وفي عام 1996 ضمّت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) كوريا الجنوبية إلى عضويتها. وهذه العضوية توضّح المستوى الذي وصلت إليه البلاد من التطور الاقتصادي والسياسي، حيث إن أعضاءها الـ37 جميعاً من الدول الغربية المتطورة اقتصادياً وعلى مستوى النظام السياسي والاجتماعي.
تايوان: نمر آخر من النمور الآسيوية
بلد آخر حقق قفزات متتالية في التطور الاقتصادي والصناعي خلال النصف قرن الماضي هو جزيرة تايوان، التي تعتبرها الصين الشعبية جزءاً لا يتجزأ منها. لكنها منفصلة بحكم الأمر الواقع منذ أكثر من 70 عاماً. وقد قاد الكومنتانج (Guomin Tang) أو الحزب الوطني الذي كان يحكم في البر الرئيسي الصيني في ثلاثينيات القرن الماضي البلاد لنصف قرن، بالرغم من أن أعضاء الحزب والأسر والجنود الذين رحلوا معه من بر الصين الرئيسي إلى تايوان لم يتجاوزوا 14% من إجمالي عدد سكان الجزيرة حينها.
حصلت تايوان على استقلالها من اليابان في عام 1945 بعد احتلال دام نصف قرن من الزمان، حيث احتلت اليابان هذه الجزيرة خلال الحرب الصينية – اليابانية الأولى 1894- 1895. وبعد الاستقلال كانت تايوان في حالة دمار في البنية التحتية والصناعة. وحينما قدم الصينيون الوطنيون (كومنتانغ) بعد هزيمتهم بواسطة الصينيون الشيوعيون في عام 1949، جلبوا معهم بعض العملات الصعبة والمعادن النفيسة وبعض النخبة الصناعية والرأسمالية من بر الصين الرئيس. وقد استعان الرئيس تشيانغ كاي – تشك بهؤلاء في تشغيل المنشآت الصناعية القليلة التي تركها اليابانيون مدمرة. كما ساعد الحكام الجدد في إعادة تشغيل السكك الحديدية والموانئ البحرية التي كانت تعمل بنصف طاقتها التشغيلية بعد دمار الحرب.
شهدت تايوان عقوداً من القبضة الحديدية بعد سيطرة الصينيين الوطنيين بقيادة تشيانغ كاي – تشك على مقاليد الحكم فيه. حيث شهدت إقرار قوانين الطوارئ (Martial Law) وما سُمّي حينها (الإرهاب الأبيض)، حيث شهدت البلاد سجن أو إعدام نحو 140 ألف مواطن في عقدي الخمسينيات والستينيات لمعارضتهم لحكومة الكومنتاينغ. ولم تتحول تايوان الى الحكم الديمقراطي إلّا في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك بعد إقرار تشيانغ تشنيغ كوا (Chiang ching- kuo)، ابن زعيم الحزب الوطني تشيانغ كاي تشك في عام 1986 لتوسيع المشاركة الحزبية والتعددية، ما أدى لتشكل الحزب الديمقراطي التقدمي (DPP) المعارض، وقيام أول انتخابات ديمقراطية في البلاد بعدها بعشر سنوات (1996).
لكن فترة حكم الكومنتانغ التي استمرت نحو نصف قرن شهدت إصلاحات مهمة من ناحية تطوير الاقتصاد والتحول إلى التصنيع واتباع سياسة الاعتماد على التصدير. ففي عام 1952 كان إسهام الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي 32%، مقابل 16% للصناعة، ليصبح إسهام الصناعة 47% في عام 1986. وقد ساهمت الشركات الخاصة المملوكة لرجال أعمال كبار في النهضة الصناعية للبلاد، وهو شيء اشتركت فيه تايوان مع كوريا واليابان. حيث كانت شركات مثل فيرموسا (Fermos)، التي تعتبر أكبر شركة للبلاستيك ومنتجاته في العالم، كما ازدهرت شركات إنتاج الرقائق الإلكترونية المستخدمة في أجهزة الحاسوب وشاشات التلفزيون المسطحة (LCD) في تايوان لتصبح البلاد رائدة في هذه المجالات في تسعينيات القرن العشرين ولتصل الى مرحلة أصبحت فيها في عام 2008 تمتلك خامس أكبر احتياط من العملات الأجنبية في العالم بعد الصين واليابان وروسيا والهند.
الأمثلة الثلاثة السابقة تثبت الفرضية المطروحة بكثرة وسط الباحثين في مجال الاقتصاد السياسي حول أهمية التنمية الاقتصادية والتحول إلى الصناعة (industrialization) في عملية التحول الديمقراطي. حيث تسهم الصناعة في النهوض بحركة التعليم والحضرنة (urbanization) في أي بلد. كما أن الصناعة والحضرنة تسهم بدورها في عملية التحول الديمقراطي بسبب الوعي وارتفاع مستوى التعليم الذي ينتج عنهما. كما أن الدعم المالي والفني (التكنولوجي) الخارجي كان له أثر كبير في نقل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان من مجتمعات زراعية اقطاعية إلى مجتمعات صناعية متقدمة، وفي مرحلة لاحقة إلى ديمقراطيات مزدهرة. وكلنا أمل في أن تحذو قياداتنا في التعلم من تجربة النمور الآسيوية، خاصة بعد أن عاشت شعوبنا تجربة الحكم العسكري لعقود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.