سلام على الدنيا إذا لم يكن بها .. صديق صدوق صادق الوعد منصفاً
الإمام الشافعي
رسالة رثاء إلى صديقي المصطفى
أعرف أن الألم سَكن تماماً، لن يبحث لك أبناء العائلة مجدداً عن ترامادول أو بروفين بنسب عالية في مخازن الأدوية ليلاً كي ندس جرعات المخدر تلك بجسدك.
نَخر السرطان بروحك قبل جسدك فذابت تماماً، لكنّ نخر غيابك بنا جميعاً لن يتوقف حتى يكتب لنا لقاء في العالم الآخر.
أخبرتني بأنك سامحتني لغيابي عنك في وفاة ابنتك عائشة وأنك صليت الجنازة وحملتها وحدك في القرية إلى أن واريتها التراب.
أخبرتني بأنك سامحتني لأنني غبت عنك في بدايات مرضك.
غبت أنا عن تلك الهالة من الشتات التي كانت تحيط بك في أروقة المشافي وغرف العلاج الباردة المعبأة برائحة الموت النفاذة.
هذا المنفى القسري غيّبني قهراً عن جولاتنا ليلاً بالمحافظة مروراً بكوبري القطر والمشاية السفلية ونحن نرسم أحلاماً ونَشّد خطاً بين نَجمة وأخرى في سماء المنصورة عن مستقبلنا القادم، عن بعد امتحانك النهائي في كلية الهندسة ووظيفتك المتوقعة.
وخطانا في شارع كلية الآداب والجلاء مروراً بسور الجامعة ونحن نُقِر كم أن المنصورة مدينة رومانسية جداً تنام على ألم جامح.
المنفى غيبني عن رحلاتنا معاً إلى بنك الطعام كي نحضر حملات لمجمع الفردوس وجمعية تنمية المجتمع بقريتنا الصغيرة للمحتاجين والأيتام في رمضان وعيد الأضحى، غَيبني عن كوب الشاي عصر كل يوم في غرفتك العلوية مع كثير من أغاني فيروز.
لم تنسَ قط أن تُغير زهور الياسمين والنعناع على قبر والدي كلما ذوّبها الحَر وصقيع الشتاء كما كنا نداوم على هذا معاً.
هل حينما كنت تُصر على ابنتك حبيبة كي تنطق اسمي يومياً عشرات المرات في رسائل صوتية، كنت تترك لي منكما إرثاً طويل الألم!
لم تتمكن ابنتك أمل ذات الأربعين يوماً أن تملي نَظرها منك أو من طيب رُوحك.
أخشى من مواجهة حبيبة ذات السنوات الثلاث، في مكالمة قادمة يحاول الجميع ترتيبها لي الآن، لكني سأنقل إرثك الطيب لهن إن قدر الله لي عيشاً، فنَم وأنت قرير الرُوح عليهن.
حاولت تخيل لحظات ما قبل تسرب رُوحك إلى بارئها لكنني خِفت وتيقنت من رضاك التام بآلية توقف هذا الألم التي أقرها الله لك.
بعد الجنازة وصلتني عشرات الصور والفيديوهات من شتى محبيك لشريط قريتنا المطل على النيل، شجر توت عَم حمدي الذي كنا نترك الساعات تمضي تحت ظله مديدة نحكي بلا توقف، شجرة الجميز العظيمة كي تذكّرني بخطانا التي بقيت هناك سنوات طوالاً.
كَم فرضنا على هذا الفضاء القروي الصغير ضحكاتنا معاً بلا هوادة، وصَمتنا طويلاً في محاولة تجاوز كثير من الهزائم.
صديقنا الذي أخبرني بمماتك صباح الأسبوع الماضي، كان يجهش بالبكاء، كل من قدّم لي التعازي كان يبكى بلا توقف.
أخبروني بأن كثيراً ممن حضر الجنازة لم يتمالك نفسه وخر باكياً، لم أذرف دمعة واحدة للآن يا مصطفى، البكاء فَرح للروح من اعتصارها، وأنا لن يفك اعتصار قلبي ورُوحي على غيابك بكاء ولا عزاء العالمين.
ربما أموت في هذه الغربة الطويلة بلا طَلة أخرى على قريتنا ولا على قبرك، لكني سأركض ميتاً كي ألحق بك أينما كنت.
هذا المقال الذي لن تقرأه لي أبداً، كلمات رثائك الرتيبة التي تَخرج مني على مَهل دون جام حزني عليك المخزّن بي ويعصف بي بلا رحمة.
ألف لعنة على كل هذا المنفي القسري الذي يقتلني يومياً ألف مرة، وكل هذا القهر الذي أبعدني عن حملك في مرضك، وخدمتك في ألمك.
ألف لعنة على كل هذا الذي أبعدني بقسوة عن حملك في جنازتك، عن زيارة قبرك يومياً كما كنا نفعل مع أبي..
اللعنة على كل هذا الغياب الذي قتل كلانا أحياء وفي رحاب العالم الآخر.
سامِح الرُّوح لحين اللقاء يا مصطفى
صَديقك المُقصر بحقك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.