وداعاً مريد البرغوثي

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/19 الساعة 15:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/19 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش
مريد البرغوثي وزوجته رضوى عاشور وابنهما تميم البرغوثي - الشبكات الاجتماعية

وداعاً أيها الغريب.. وداعاً أيها الفلسطيني العزيز، وداعاً وإلى لقاء قريب!

 وداعاً سيدي الشاعر..

وداعاً يا ابن رام الله..

وداعاً يا ابن الحرية..

وداعاً يا إمام الكلمات..

وداعاً يا مُزلزل الطُغاة.. وداعاً يا مُريد الإنسانية.

في مثل هذه الأوقات، تبدو لي الحياة كذبة كبيرة أو خدعة متقنة، أو ربما ثقب أسود، يبتلع الصادقين والشرفاء ويأخذهم إلى أماكن مجهولة، حتى لا يبقى إلا الماكرون والمخادعون في صدرها ووجها، في إحدى المرات قال الدكتور أحمد خالد توفيق: "كنت دوماً أتساءل: لماذا يرحل الطيبون؟، لماذا يختار الموتُ أفضلَ من فينا؟ لكنني وجدت الإجابة مؤخراً، لأنهم نجحوا في الامتحان مُبكراً فلا داعي لوجودهم".

واليوم وغداً نُعيد ونُكرر السؤال، لماذا يرحل الطيبون؟ لماذا لا تُنصفنا الحياة مرة، وتأخذ من بين أظهرنا الكُره والكارهين، وتُبقي بيننا كل عزيز كريم، لماذا أيها الموت تُعاندنا في كل شيء.. لماذا تغتال الأحلام في مهدها؟

عندما قرأت شعر الأستاذ الراحل، مريد البرغوثي، شعرت بالحرية تدب في أطرافي وفتحت أذرعي لأمطار الإنسانية التي انهالت على رأسي. وأنت تقلب كلمات وأسطر مريد البرغوثي، ستسمع أنات الغريب؛ الذي يُسافر من أرض لأرض باحثاً عن الحياة، ولكنه لا يجدها، فحياته في وطنه، والوطن محتل، فالوطن فلسطين!

مُريد أكبر من إسرائيل، وأعرق منها، تلك حقيقة تخبرها إسرائيل. مُريد باقٍ، وإسرائيل راحلة، ذلك يقين يسكنني. فما مُريد إلا كلمات طرزتها الآهات الفلسطينية من زمن النكبة ومدن الشتات. لكن بمُريد وإخوانه السابقين، غسان كنفاني ومحمود درويش وناجي العليّ صارت فلسطين لوحة فنية تطغى بجمالها على قبح إسرائيل وأخواتها. قف وانظر مُتأملاً في تلك اللوحة وسترى فلسطين، ستراها مُطرزة بكلمات مُريدية، وفي قالبها تكمن نغمات درويشية، تسردها لنا أقلام غسّانية، بألحان مارسيلية، لطفل في العاشرة من عمره يقف، ويداه خلف ظهره تمسكان بحجارة تُرهب عدواً مُدججاً بالسلاح. تلطخ لوحة تنطقها أشعار بن القدس وشاعرها، تميم بن رضوى ومريد.

رحل مُريد وبقيت أعماله، والتي ستبقى أكثر من عمره المحدود، وستظل تنبت السنابل بكلماتك رغم دخان القنابل وأصوات الطلقات، فما الطريق الذي يسلكه الأحرار إلا طريق طويل وشاق، يرحل كل منهم في محطته، وقد جاءت محطتك، فرحلت أنت.. ولكنك بقيت في شعراً وكلمة.
مُريد لم يمت، وإنما تحرر، تحرر من قيد الحياة وظلم الحكام، ومن عذاب الاغتراب، تحرر ليشهد قدس الأقداس، في فلسطين الآخرة، حيث أرض الميعاد، والتي سيجتمع بها أهل الشتات، ليشهدوا على قدسهم هناك، حيث لا ظلم ولا ظلام.

لا نهتم إن ضجت أو لم تضج وسائل الإعلام بموتك، فقد ضجت سماؤنا حزناً على رحيلك، وبكت القدس ابنها، وبكاك النيل يا رفيق رضوى الساحرة. وما احتوتك قبور الأرض وإنما احتوتك الكلمات، ولله دّر أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

"فَغُيِّبتَ في المِسكِ لا في التُرابِ

وَأُدرِجتَ في الوَردِ لا في الكَفَن"

رحل وبقيت قصيدته في حُب رضوى عاشور، التي ألقاها على مسامعها أول مرة عند سلالم الجامعة في كلية الآداب، مازالت أبسط كلماتها حاضرة في عيد الحب، مازالت فلسفتك قائمة، مازالت كلماتك حرة، فلا يسعها أرض ولا سماء ولا أوطان، فهي وحدها وطن، له سماء وله أرض ومنجل نحصد به المعاني والعبرات، باقٍ أنت بقاء الأحرار، فما الشاعر إلا تنهيدة من الزمان. تنهيدة وزفرة تُطلق في وجه الحياة، فتتحول الكلمات إلى جيش جرار من المعاني والكلمات، له دوي وصدى ورنين أشد من وقع الحسام.

وداعاً سيدي الشاعر وإلى لقاء قريب، لقاء في زمن لا تكون الكلمة فيه خيانة والشرف معابة، خاصة لو كانا لفلسطين.

هذه الأيام، بدأت أنا أيضاً أعلم لماذا يرحل الطيبون. يرحلون لأنهم ببساطة أتموا رسالتهم، أكملوا كلمتهم وأقاموا حجتهم. فطوبى لمن قال كلمة في زمان تُخرس فيه الألسن، وتُقطع فيه حبال الرجاء.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد كرارة
مدوّن مصري
مدوّن مصري
تحميل المزيد