هل تتعلق بالأشياء أكثر من الأفكار؟ هذا ما يجب أن تعرفه عن صفات المناضل والانتهازي

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/19 الساعة 08:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/19 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش

الهبوط السحيق للذات نحو الارتباط بالأشياء أكثر مما ينبغي، تقوده إلى الانشغال بصورة مرضية، بطرق الحصول عليها، ليس لأغراض مفهومة وإنما فقط الحصول عليها بدون صيغة قابلة للفهم، حتى وإن تم تبريرها، بفكرة البحث عن نيل مكانة اجتماعية معينة.

ذوبان النفسية بهذا الشكل في عالم الأشياء، يعدم كل "المفاهيم" الإنسانية السامية من مثيل "الكرامة" و"الاستقلال"، حيث تتحول هذه المفاهيم إلى مجرد مصطلحات خيالية لا أساس لها في الوجود. ولا يجب أن يخدعنا الشعور بالغضب في لحظة "الإهانة"، فهذا السلوك لا يتعلق غالباً بفهم محوري لهذه المفاهيم، وإنما يكون مجرد تفريغ لإهانة ماضية آتية من شخص أكثر مكانة، على شخص آخر أقل منه مكانة.

بهذا يتحول "البحث عن المكانة"، إلى بحث عن الموقع الأقرب من المصدر الأول "للإهانة".

لا يمكن الوصول إلى هذا المستوى من "المواقع" سوى بالتوفر على كثير من "الأشياء"، أو على "أشياء" معينة، لها رمزية على المكانة داخل المجتمع. والمال هو المفتاح، لأنه يمكنه أن يأخذ صورة أي شيء (بتعبير ماركس).

من داخل سلسلة "الإهانة" هناك من يحاول أن يخرج، ليعيد المفاهيم الإنسانية إلى مكانتها، حتى لا تبقى مخفية تحت "ظل الأشياء"، وبالطبع لا يمكن لهذا المتمرد سوى أن يعتبر نفسه مهدداً بفقدان "أشيائه".

فهو كلما تمسك بعالم المفاهيم تهدد وجوده في عالم الأشياء. وطبعاً لا يحاول أن يتخلى عن عالم الأشياء، وإنما يحاول أن يجعلها مناسبة لسياق الوجود الإنساني "الكريم". فإن تحولت الأشياء إلى وسيلة تُرتّب الذوات داخل سلسلة الإهانة، فلا بد من التمرد لا محالة.

لكن مجرد التمرد لا يكفي لتغيير وضعية مهينة، فالتمرد يبقى مجرد "اتخاذ موقف شجاع" ضد وضع مهين، لكن "الاستمرار" على نفس هذا الموقف هو الأساسي، وهذا هو النضال.

فالنضال هو "التشبث بالموقف ضد وضع مهين رغم كل العوائق والصدمات والخذلان والانتهازية". فالمناضل لا يتحدى فقط الوضع بل يتحدى الزمان ومتغيراته، التي تلد المفاجآت في كل لحظة، ولكن ولأن المناضل "مؤمن متطرف بأمل سيأتي مستقبلاً سيعيد للإنسان كرامته" فإنه لا يأبه لجراحه، وإنما تزيده قوة، فهو "مفارقة إيجابية"؛ (ينجح بما يُفْشِل).

فإن كانت "العوائق" (الطبيعية أو البشرية) توجد قبل بداية "اتخاذ أي موقف"، وإن كانت "الصدمات" تأتي من طرف "القابل بسلسلة الإهانة"، كاستجابة سلبية ضد "المتمرد الذي اتخذ الموقف"، فإن "الخذلان" هو جزء من "التمرد"، لا يظهر إلا بعد "العوائق والصدمات" فلا يستمر في الأخير سوى "المناضل"، فـ"المتمرد" يمكن أن يكون "متخاذلاً أو مناضلاً"، لكن الانتهازي ليس متمرداً أبداً، إنه مكبّل حتى عنقه بسلسلة الإهانة، إنه العابد الوفي لصنم عالم الأشياء، إنه الباحث الفاشل عن المكانة الاجتماعية، إنه الذي اكتشف فجأة بلاوعي، وسيلة سهلة للحصول على موقع أفضل داخل سلسلة "الإهانة".

الانتهازي لا يظهر خلال "لحظة التمرد"، وإنما ينكشف جسده النحيل الخالي من الشعر والشبيه بـ"سميغل" في سلسلة تولكين "سيد الخواتم"، لا يظهر إلا خلال "لحظة النضال"، فهو يقبل سلسلة "الإهانة" لكنه يتمنى نجاح النضال. لا يستطيع أن يُناضل طبعاً، لكنه يتسكع بالقرب من ساحة المناضل، كما أنه يعود إلى معبد سلسلة الإهانة ويتبتل بالصنم هناك حتى يبدو وفياً للسلسلة.

إن الخوف على فقدان أشيائه هو الشعور الذي يسود نفسية الانتهازي، لهذا يخشى أن يخلط أحد بينه وبين المناضل، ولكي يتفادى هذا الخطر، "ينحني"، لأن المناضل يقف مستقيماً شامخاً.

الانحناء هو جزء من هوية الانتهازي، لا ينتهي انحناؤه إلا بعد نجاح النضال، فهنا يسعى ليعتبره الآخرون مناضلاً، لكن ولجمالية الذاكرة، فإن أثر الانحناء يظل ملتصقاً بظهره.

إلا أن الأساسي والخطير في هوية الانتهازي، هو قوته العجيبة في الاختفاء، إنه حقاً كائن رهيب من حيث هذه المهارة، وعلى ما أعتقد أن انغماسه المفرط وسط الأشياء، جعله يكتسب قدرة على التشكل بأشكال وألوان الأشياء، إنه محترف في "التشيؤ" لهذا يمكن أن يُستعمل في أي مكان كشيء داخل سلسلة الإهانة، طبعاً يمكن أن يستعمل أيضاً كسلاح للقضاء على النضال.

لا توجد أية مفاهيم إنسانية في عقل الانتهازي، إن وجوده يتمحور حول مصطلحين جامدين "الشيء والهروب"، الحصول على الشيء، والهروب من المواجهة.

دون إطالة الحديث عن الانتهازي، سأنتقل للحديث قليلاً عن المتخاذل.

التمرد في البداية مع عدم القدرة على الاستمرار، إنه الخذلان. إنه "إعادة الحساب"، الجلوس والتفكير ملياً فيما سيعقب الاستمرار في التمرد ضد سلسلة الإهانة، وفي الأخير الاعتراف بالواقع (الخطأ في اتخاذ الموقف منذ البداية).

هذا ما يحدث مع المتخاذل، لا يتمرد عن إرادة، وإنما عن حماس، إنه ينخرط في التمرد، لأنه تأثر كثيراً بالخطاب، شعر أنه أقوى في لحظة معينة، وأنه سيستطيع تحدي الواقع الذي تحتضنه سلسلة الإهانة. لم يتمرد أبداً بفهم عميق لخطورة الوضع "المهين"، تمرد فقط بعد استثارة عاطفية، إنه رومانسي حالم، لقد شعر في لحظة عابرة بنشوة الخروج عن السياق المفروض، لكن بعد أن التقى بالعوائق ـ وأصابته الصدمات، عاد إلى ركنه، لتغيير ملابسه، وتعلم الانحناء والاختباء.

فإن كان الانحناء والاختباء جزءاً من هوية الانتهازي، فإن المتخاذل يحاول اكتسابهما حتى ينساه الناس على أنه كان متمرداً في الماضي.

وحتى نزيد من إغناء الوصف، سأضيف تمييزاً ضرورياً. المتخاذل نوعان: النوع الأول يظهر خلال لحظة ظهور العوائق أمام التمرد، بينما الثاني يظهر خلال لحظة تلقي الصدمات، والغريب أن النوع الأول هو الأكثر شيوعاً من النوع الثاني، ولعل هذا راجع إلى أن الانغماس أكثر في مسيرة التمرد يجعل إيمان المتمرد بالموقف الذي اتخذه راسخاً جداً؛ أو أن الأمر يعود إلى شعور المتمرد بلاجدوى التراجع، وأن التورط في النضال صار حتمياً، ولا بد من الاستمرار. لهذا سأقول إن داخل النضال نفسه يوجد خذلان ينطفئ مع الوقت كلما استطاع المناضلون الأصليون أن يكونوا أكثر إيماناً بنجاح نضالهم، وأن يتمكنوا من تقوية علاقاتهم ووجودهم داخل الساحة التي تُثير قلق سلسلة الإهانة.

إذاً المتخاذل كائن هجين، خليط من المتمرد والانتهازي، إنه في فترة كان منخرطاً في اتخاذ الموقف ضد الوضع المهين، لكنه تراجع فصار يقبله، ويحاول اكتساب صفات الانتهازي ما أمكن.

وفي الأخير، لا يمكن للنضال أن يستمر دون مناضلين أصليين، الذين لا يرتبطون بعالم الأشياء كثيراً، بل يتسامون إلى عالم المفاهيم، ويحاولون تغيير الأوضاع الواقعية، بعد شعورهم بتناقض بين النموذج الإنساني والوضع الموجود الآن وهنا.

المناضلون الأصليون هم من يتمردون أولاً، هم من يشعرون بالإهانة شعوراً أصيلاً، وهم من ينظرون إلى عالم الأشياء على أنه تافه بشكل لا يمكن تصوره، إنهم بمعنى آخر، لا يأبهون كثيراً بما يوجد، لكنهم يرفضون الإهانة الموجودة.

وسأقول بعمق أكثر ودون تفصيل تفسيري، إن المناضلين الأصليين، قلقون وجودياً أكثر مما هم قلقون اجتماعياً، ومع ذلك يحاولون تغيير الوضع الاجتماعي المهين، أكثر من تفكيرهم في تغيير الوضع الوجودي المرعب.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد أمزيل
باحث وكاتب مستقل
تحميل المزيد