زيارة للعشوائيات ومداخلة تلفزيونية أولى منذ 4 سنوات.. ما أسباب تغير استراتيجية السيسي الإعلامية؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/17 الساعة 10:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/18 الساعة 10:51 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي / رويترز

في علم النفس، هناك مفهومٌ مركزي عابر للتخصصات، ولكنه مرتبط أكثر بـ"السايكولوجي" يطلق عليه "التواصل الفعال"، وهو باختصار أن يكون المرسل قريباً من المتلقي، بشتى أنواع القرب الممكنة التي يسمح بها السياق، جسدياً ووجدانياً، حتى يتمكن من إيصال رسالة فعالة تؤثر في وجدان المتلقي وسلوكه. 

وفي أساسيات الاتصال السياسي، لابد لقائد الجماعة السياسية أن يكون على اتصال شبه دائم بأعضاء الجماعة، لأن ذلك يضمن له استمرار تدفق خطابه إلى لا وعيهم، ومن ثم، مع أشياء أخرى، تتحقق الهيمنة، ولذلك كان غياب أي رئيس عن المشهد السياسي لمدة طويلة، أو غير معتادة، حدثاً مريباً.

في مصر، يعلم السيسي كلا الأمرين، وهو أشد الحرص على الثاني، فلا نذكر أنه غاب عن الشأن العام والسياسيّ بشكل واضح إلا مرة واحدة لعذر قهريّ، كان عزله الصحي في بداية أزمة "كورونا"، بعد مخالطة مصابيْن من قيادات المؤسسة العسكرية، أذيع لاحقاً خبر وفاتهما بالفيروس.

ولكنه، منذ أن تسلم السلطة رسمياً عام 2014، ومع حرصه على الاتصال السياسي، إلا أنه أبعد ما يكون عن "الاتصال الفعال"، وذلك بسبب طريقة وصوله للحكم منقلباً على شريحة سياسية واجتماعية واسعة جرى انتخابها لأول مرة بعد عقود من الانقلابات وطرق التغيير الملتوية.

فالسيسي ينظر إلى أي اتصال جاد، كالحديث مع معارضين، أو الاقتراب الحقيقي من الجماهير، بعين الريبة والخطر، وليس أدل على ذلك من سرعة مصادرته على أحد نواب البرلمان الذي طالبه بمراجعة سياساته الاقتصادية: "انت مين؟ دارس الكلام ده؟"، فألقمه حجراً، مكرساً لطرق تواصل معينة كلها من طرف واحد، أو من وراء حجاب، كخطاباته في الكلية الحربية.

الجديد هنا: أن السيسي يحاول بشكل ملحوظ، في الآونة الأخيرة، تنويعَ طرق تواصله مع الجماهير وتطويرها بشكل غير معهود. صحيح أنها لا ترقى إلى أشكال التواصل المعروفة في النظم الطبيعية المنتخبة، ولكنها تختلف أيضاً كماً ونوعاً عما عرفناه عن إطلالات السيسي السابقة. بشكل مكثف وبلا مبالغة، يقوم السيسي بأشياء لم يقم بها في أي من حملتيه الانتخابيتين خلال الأعوام الأخيرة، فما أدلة ذلك؟ وما رسائله التي يريد إيصالها؟

من التلفزيون إلى الشارع

الحدث الأول هنا، كان مداخلة السيسي التلفزيونية مع الإعلامي عمرو أديب منذ حوالي أسبوع، عقب نحو 4 أعوام كاملة من مداخلةٍ مشابهة، قاطع السيسي من بعدها الإعلام المصري بشكل شبه كامل. 

مقاطعة السيسي للتواصل مع الإعلام المصري، بشكله الصحفيّ والمرئي، جاءت بعد محاولاته تدشينَ "تقليد" يُشرك خلاله الرئيسُ المنظومةَ الإعلامية في خطط الدولة تجاه المجتمع، عبر لقاءاتٍ دورية تجمعه بالكتاب والصحفيين، ولكنه تراجع، على حد قوله في أكثر من مناسبة، بسبب افتقاد الوجوه الإعلامية والصحفية الحالية إلى الحدّ الأدنى من الكفاءة المعلوماتية والنقدية لمجاراته في فهم منطق الدولة.

 المداخلة الكاملة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع عمرو أديب

خلال تلك الفترة، اكتفى السيسي في تعامله مع الإعلام بالتقارير الواردة من الضباط المسؤولين عن إدارة هذا الملف إلى رئاسة الجمهورية، مثل الضابط ذائع الصيت، أحمد شعبان، وفق نظرية الأذرع الإعلامية التي تقوم على توحيد الخطوط التحريرية ومراقبة تنفيذها ونحت كوادر جديدة قادرة على تطبيق هذه الخطوط بأساليب غير تقليدية. مع استقدام بعض الوجوه الإعلامية الأساسية، كمراسلين لا كمحاورين، في أحداث استثنائية لإضفاء زخم عليها، كما كانت الحال عند تدشين منظومة التأمين الصحي الجديدة، وافتتاح مشروعات الاستزراع السمكي، في زيارتي الرئيس الأخيرتين إلى محافظة بورسعيد.

بعد 4 سنوات على ظهور السيسي الأول والوحيد مع عمرو أديب، خاصم خلالها الاتصال بوسائل الإعلام بالشكل المعهود في أي دولة بها عقد اجتماعي طبيعي تؤدي خلاله هذه الوسائل مَهمة المحاسبة الناعمة والنقدية للسلطة، عاود السيسي مجدداً الظهور مع عمرو أديب في برنامج "الحكاية" لمدة تتجاوز الثلث ساعة، ناقش فيها "ثيمات" محددة، محاولاً الإيحاءَ بأن مناقشتها بعينها مرتبطةٌ بجدول الحلقة، لا بترتيب مسبق بين مؤسسة الرئاسة والبرنامج بحيث تتقاطع محاور مداخلة الرئيس مع موضوعات الحلقة.

تلا تلك المداخلة زيارةٌ فريدة، من حيث الاقتراب من السكان ومن حيث طبيعة الموقع، لم يقم السيسي بمثلها في ذروة سعيه المفترَض لاسترضاء الجمهور خلال الحملتين الانتخابيتين السابقتين، إذ، كما ورد في نص بيان الرئاسة إلى الإعلام: اصطحب الرئيسُ أعضاء الحكومة إلى منطقة "الكيلو أربعة ونص" في عزبة الهجانة بالقرب من طريق القاهرة السويس، شرق القاهرة، لإطلاعهم على الأوضاع هناك.

عبدالفتاح السيسي في زيارة لعزبة الهجانة

الربط بين الحدثين الأول والثاني، مداخلة الرئيس مع الإعلامي عمرو أديب على قناة "إم بي سي مصر" السعودية وحديثه إلى المجتمع من خلال هذه المنصة بشكل حصد آلاف المشاهدات وزيارة واحدة من أكثر مناطق القاهرة افتقاداً للتخطيط بعد هذه المداخلة بساعات، ليس اعتباطياً، ولا ينبغي أن يكون؛ فحتى السيسي نفسه أشار إلى وجود هذه العلاقة قائلاً في عزبة الهجانة: "الكلام في التلفزيون مش كفاية"… لكن ماذا يريد السيسي أن يقول؟ ولمن يريد تكثيف رسائله في هذا التوقيت؟

تغيُّر في خطاب السيسي

في المداخلة الأولى له مع عمرو أديب منذ 4 أعوام، ركز السيسي على 3 موضوعات، هي: الحرب على الإرهاب في شمال سيناء، وتكلفة هذه الحرب على بلد منهك اقتصادياً في الأصل، والدول الداعمة للإرهاب منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، في إشارة إلى قطر وتركيا.

في المقابل من هذا التركيز على الداخل، وعلى خطوط معينة بهذا الداخل مثل الإرهاب والاقتصاد، أبدى السيسي حينئذ ارتياحاً كبيراً للوضع الخارجي، فالإدارة الأمريكية الجديدة، لأول مرة على حد قوله، تعترف أن مصر هي الدولة الوحيدة التي تخوض حرباً حقيقية جادة ضد الإرهاب، وأن الإدارات السابقة لم تكن تدعمها، ولكن هذه الإدارة الجديدة، إدارة ترامب، ستغير هذه السياسة وستعمل على دعم مصر.

أما الآن، فالظاهر من مداخلة السيسي مع عمرو أديب، والتي تأتي تزامناً أيضاً مع تولي إدارة جديدة أمور الحكم في الولايات المتحدة، أن أجندة النظام قد تغيرت، بعد مرور 6 أعوام على سيطرته على البلاد ومرور 4 أعوام على سنوات الرفاه الخالية من الضغوط الخارجية مع ترامب.

داخلياً، بالرغم من أن مشكلة الإرهاب في سيناء لم تنتهِ بعد، وأن هناك انزياحاً للمسلحين من الشرق إلى الغرب، وتزايداً في أعداد العمليات اليومية الصغيرة ضد الجيش وقتلى المدنيين خلال الاشتباكات المتبادلة، يبدو أن النظام المصري بات راضياً بشكل نسبي عما حققه خلال السنوات الأخيرة، وبالأخص بعد عمليات حق الشهيد والعملية الشاملة وتدشين منطقة شرق القناة لمكافحة الإرهاب. فقد استطاعت قوات الأمن المصرية تدمير البنى الأساسية للمسلحين، مالياً وبشرياً وتسليحياً، إلى الحد الذي دفعهم إلى هذا الانزياح الأخير، وقيام عدد من أعضائهم وذويهم بتسليم أنفسهم إلى حواجز الأمن، بالتزامن مع بداية تبلور حقيقي لمشروعات تغيير ديموغرافيا المجتمع السيناوي التي يسعى لها النظام منذ 6 أعوام، والتي تقوم على: تمدين المجتمع البدوي، وربطه بالقاهرة، وعزله عن الجانب الفلسطيني، وتوسيع هيمنة الدولة عليه في شكله الجديد.

الملاحظة الثانية فيما يخص الشأن الداخلي، هي أنه بالرغم من التراجع الكبير في إيرادات الدولة مؤخراً من قناة السويس والسياحة والاستثمار الأجنبي بسبب أزمة "كورونا"، ومع تأكيدات من البنك الدولي على عدم نجاح خطة "تحرير سعر الصرف" في إنعاش حركة التجارة، وبالأخص الصادرات، وتوسع الدولة في الاقتراض وإصدار السندات، فإن هناك خفوتاً عاماً في نبرة الحديث عن "الندرة" الاقتصادية والفقر، واستبدالها بالحديث عن "الوفرة" والقدرة على تلبية كل حاجات المجتمع، شريطة الصبر والاصطفاف. 

ومع تراجع الحديث عن مشكلة الإرهاب في سيناء، سواء من السيسي أو إعلامه بشكل عام، واستبدال الحديث عن "الوفرة" بالحديث عن "الندرة"، عكس ما كان الأمر في السابق، برز موضوعٌ آخر في الشأن الداخلي هو الحديث عن ضرورة تغيير ديموغرافية المجتمع المصري. فالبناء الأهلي، بعد التصالح على مخالفات البناء وإيقاف البناء غير المخطط، لابد أن يكون "مكوَّداً" بكود فني جديد من إحدى كليات الهندسة المعتمدة. والدولة بالتعاون مع القطاع الخاص، ستقوم بمسابقة الزمن لتوفير الطلب على الإسكان بفئاته الاقتصادية، من الاجتماعي إلى الفاخر، للحد من محاولات المجتمع تدبير حاجاته العمرانية بنفسه، والمجتمع، في المقابل، لابد أن يتهيأ لإجراءات من الدولة بهدف السيطرة على معدلات المواليد التي تلتهم جهود الدولة في التنمية وتخلق فجوةً اجتماعية، تؤدي إلى عودة الحديث عن التغيير السياسي، الذي مازالت شجونه تسكن نفوس المصريين، كما قال السيسي.

لماذا تغير الخطاب؟

منذ ظهوره على الرأي العام، قال السيسي إنه لا يمتلك برنامجاً انتخابياً محدداً، ولكنه يمتلك خطوطاً وأهدافاً عامة يريد تنفيذها، أحد أبرز هذه الأهداف، في السنوات الأولى من حكمه، كان ما سماه السيسي: "تثبيت أركان الدولة". 

تلقائياً، بالنسبة للسيسي، يعني هذا المركب الإضافي، تثبيت أركان الدولة، تجريفَ الأنشطة الاجتماعية النظامية، مثل المجتمع المدني والنقابات والمحليات المنتخبة، والأنشطة غير الرسمية أو العشوائية، في الاقتصاد والعمران، وإحلالها بسلطة الدولة. اختصاراً، نتحدث عن توسيع سلطة الدولة ووظائفها بشكل محوكَم في المقابل من محو دور المجتمع.

لذلك، سنجد أن كل المشروعات الجاري الحديث عنها تتم بفكر شمولي صارم، بدايةً من المشروعات القومية الكبرى التي تتبناها الدولة لإصلاح أحد القطاعات دفعةً واحدة، وحتى أبسط المشروعات التي يجري التفكير فيها لحل مشكلة طفت بعد حادثة مروعة مثل مشروع استبدال المعديات بالكباري المعلقة في كل أنحاء الجمهورية. 

الرئيس يأمر، والحكومة تبحث تدبير الاعتمادات المالية عبر القروض والمنح، والجيش ينفذ بالتعاون مع شركات المقاولات، على مستوى الجمهورية؛ مع صلاحيات هامشية في التشريع لمجلس النواب، أو في التنفيذ للهيئات المحلية، أو في المشاورات مع السكان.

يعتقد السيسي أنه نجح إلى حد كبير في هدف تثبيت أركان الدولة، فقد قام بتشذيب المجتمع معنوياً ومادياً، على وقع شعارات: مكافحة أهل الإرهاب ومحاربة أهل الشر، وباتت الدولة قادرةً على تلبية احتياجات المواطنين في الطاقة، والأمن، ويجري بالفعل تحديث معظم قطاعات الدولة وأركان الدولة بشكل شمولي مثل الجيش، والنقل، والخدمات الأساسية.

ومن ثمّ فإنه يمكن الآن، الولوج إلى مرحلةٍ جديدة من جدلية علاقة السلطة بالمجتمع في مصر، حيث يصبح على رأس أولويات الخطاب في هذه المرحلة، أنه، من أجل الحفاظ على هذه المكتسبات والشعور بعوائد التنمية، لابد من إعادة النظر في ديموغرافيا المجتمع، السكان والإسكان، وهو ما سنجد صداهُ في الأعوام القليلة القادمة، بدايةً من الخطاب الديني الذي سيعيد النظر في نصوص الحث على التكاثر، وصولاً إلى قوانين تحديد النسل.

أما عن زيارة السيسي الفريدة إلى عزبة الهجانة، فإنها حققت له عدة أهداف، على رأسها استمرار ظهور السيسي في صورته الذاتية التي يحبها كمتعالٍ على السياق العام، في مصر والوطن العربي كله.  

فالسيسي في هذا السياق نسخةٌ مطورة من "حسني مبارك". كان مبارك يعاني من التكلس والجبن والترهل، فأفسح المجال أمام المجتمع لإساءة استغلال قدراته ورغباته، وسمح بالتمدد العشوائيّ، ولكن السيسي يرى نفسه يصلح ما أفسده الآخرون، عبر بناء مدن جديدة لاستيعاب الزيادة السكانية، ويجتهد في معالجة أسباب مشكلات الماضي، بدايةً من إنقاذ العشوائيات غير الآمنة، إلى تطوير العشوائيات غير المخططة مثل الهجانة. يمضي السيسي مقتنعاً أنه في الطريق إلى المستقبل المشرق، غير متجاهل لمشكلات سابقيه، وقد بدأت هذه المشكلة، على حد قوله في هذه الزيارة، منذ عصر جمال عبدالناصر نفسه، وانفجرت الفقاعة في عهد مبارك.

وهو أيضاً – بخوضهِ في مثل هذه المشكلات – متعالٍ على الشباب الثوريّ المثاليِّ الذي يملك طموحاتٍ نظرية ولكنه لا يعرف، عند محك الواقع، كيف يقوم بتنفيذها. قال السيسي هذه الرسالة في الندوة التثقيفية الأخيرة للقوات المسلحة عندما أشار إلى أنه كان يجلس مع القوى الشبابية بعد الثورة، ويسألهم عن برامج حل مشكلات المجتمع عملياً، فلا يجد عندهم شيئاً. أما هو، فكان يدرس مشكلات المجتمع، منذ أن كان شاباً في الكلية الحربية، كما قالت زوجته في اللقاء الأخير.

كما أنه متعالٍ على أعضاء حكومته أنفسهم. يقول السيسي لفريقه الوزاري خلال هذه الزيارة بأداء غاية في الافتعال: "نيجي نشوف الناس عاوزة إيه، اِمشي وسط الناس، شوفهم عاملين إزاي، انزلوا، هم مش بني آدمين؟ بتاكل إيه؟ بتشرب إيه؟ بتتعالج إزاي؟"، فإن حصل خطأ أو تقصير ما في إدارة شؤون الدولة، فهو من الفريق الحكوميّ المعاون بالطبع، لا من الرئيس، الذي لا يتوقف عن مباشرة سير الأعمال في المشروعات وإصلاح المشاكل بنفسه.

وقد تلت تلك الزيارة مباشرة زيارتُه إلى العاصمة الإدارية الجديدة لمتابعة وضع اللمسات الأخيرة على صروحها المنيفة، قبل أشهر قليلة من انتقال مقاليد الحكم إليها، حتى يتفادى الحملة المتوقعة على منصات التواصل الاجتماعي، باستعارة عبارات أحمد خالد توفيق عن ترك العاصمة القديمة تحترق بأهلها والذهاب إلى عاصمةٍ جديدة أكثر أمناً ورفاهةً.

يضعُ السيسي كل تلك الاعتبارات في رأسه بلا شك عند صناعة الأحداث، وأنقلُ لكم من كلامه للمهندسين العسكريين خلال زيارته إلى العاصمة الإدارية، حيث متابعة إجراءات تسليم ساحة الشعب والمركز الإسلامي ومقرات البرلمان والحكومة، وكلها مواقع تقع على مساحة آلاف الأفدنة بأفضل التشطيبات الفاخرة: "كنا بنحاول نصلح الكيلو 4.5، تصدقوا إن إصلاحه أغلى من اللي إحنا بنعمله، وانتو ناس مهندسين وفاهمين، لأن أنا آخد حتة أرض أعمل فيها اللي أنا عاوزه أسهل، لكن أنا هخش على مكان فيه بني آدمين عاوزة تعيش وما تتبهدلش ووراها مصالح وأولاد في المدارس، عاوز تاخد جزء منهم عشان تفتح طريق وتوديهم في مكان جديد. الناس بتتصور إن ده (العاصمة الإدارية) تكلفته غالية، ده القاهرة اتعمل فيها بس بميتين حاجة وتمانين مليار!".

وعبر المعالجة البصرية الذكية لمستوى العشوائيات في تلك المنطقة، يذكر السيسي اللاوعي الشعبي بدور الثالث من يوليو/تموز 2013، والتي قال مراراً إنها رشدت حجم العنف المتوقع في الساحة المصرية، في إنقاذ المجتمع من مصير مجتمعات أخرى لم توفَق إلى قائد رشيد مثله؛ فبينما تعاني المجتمعات التي ثارت في الموجتين الأولى والثانية من الربيع العربي من سؤال: إعادة الإعمار أو إنقاذ الاقتصاد من الانهيار، فإن مصر التي مرت بمسار مختلف، من هندسته شخصياً، تبني للمستقبل، وتصلح الماضي، بل وتساعد بعض هذه الدول اقتصادياً أيضاً.. فأيّ المسارات أفضل؟ هكذا يفكر السيسي.

بين الداخل والخارج

عكس المعتاد، يحاول السيسي في هذه الآونة استرضاءَ السواد الأعظم من المصريين، الكثير من الجزر والقليل من العصا، فكل المشكلات، مهما كبرت وتشعبت، حُلت وتحل أو في طريقها للحل، على حدّ قوله.

حديث السيسي للحكومة في عزبة الهجانة في شكله ومضمونه كان نوعياً؛ لا إخراج للأهالي، والقليل الذي سيخرج يمكنه أن يتملك الوحدات التي سيذهب إليها، بعد دفع مقابل صغير، يشبه الإيجار الشهري في أي وحدة بسيطة في السوق العقارية الحرة، كما أن المشروعات الخدمية التي أعلن عنها مؤخراً تكشف عن تدشينه حقبةً جديدة أكثر إيجابية، بهذه المرحلة، في التعامل مع المجتمع.

الشرطُ الوحيد الذي حدده السيسي لجني ثمار الفترة القادمة، هو الصبر والجلد وعدم الانحناء أمام موجة الضغط القادمة من الخارج، تلك الموجة التي دفعته إلى الظهور مع عمرو أديب مجدداً بعد 4 أعوام من ظهوره الأول إبان حقبة ترامب، ولكن هذه المرة بالتزامن مع قدوم إدارة بايدن. أديب نفسه قبل أيامٍ من مداخلة السيسي، كان قد بدأ جلسات حوارية لبحث ما يمكن فعله لاستيعاب هذه الموجة.

الشعورُ المسيطر على السيسي، أنّ تأثيرات صعود جو بايدن، بشكل شخصي، وفريقه الرئاسيّ بتشكيلته الأخيرة، والتيار الديمقراطيّ، في هذا الوقت، يجعل كفةَ الوضع الإقليميّ في غير صالحه بما قد يعوّقُ أو يهدد مخططاته لإعادة هندسة المجتمع في الداخل. 

فخلافاً لما وعد به، اضطر السيسي إلى التصالح مع قطر، عدوه اللدود، في خضم ترتيبات الساعات الأخيرة قبل تولي بايدن مقاليد الحكم رسمياً، بالرغم من أن الدوحة لم تقدم إلى خصومها أي تنازلاتٍ تذكر، وبالأخص ما يشغل السيسي، استضافة معارضيه وطريقة معالجة الملف المصري في الإعلام التابع لها. ووفق بعض الترتيبات، قد يجد نفسه مضطراً لخطوة مماثلة مع تركيا.
أما داعموه الخليجيون، الذين تحولت علاقته بهم إلى علاقة تعاقدية بالمعنى الحرفي لا المجازي، حيث تدفع الإمارات من أجل حماية نظامه وبعض النفوذ في قطاعات محلية معينة مثل الصحة والتعليم والأمن والصندوق السيادي، وتدفع السعودية القليل فتحصل على بعض من الجغرافيا الاستراتيجية؛ فإنهم، ربما، في وضع أسوأ منه. 

بعد تعليق صفقة السلاح التي كانت حجر زاوية في التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، وإعلان دعم وقف الحرب في اليمن، قد يكون مطروحاً إعادة النظر في ملف اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، الذي يمسّ، على الأقلّ، كثيراً من حاشية وليّ العهد، إن لم يمسه بشكل شخصي.

لم يحن وقتُ السيسي بعد فيما يبدو، ولكنّه يعلم، بالتأكيد، أن هذا الوقت قادم. ثلاثة ملفات مصرية حساسة موضوعة على طاولة فريق الإدارة الأمريكية الجديدة، الأول هو الموقف القانونيّ من قضية رئيس الوزراء الأسبق المتهم بالتعذيب حازم الببلاوي، والتي تضم اسم السيسي نفسه، ومن المنتظر النظرُ فيها خلال أقل من شهر، والثاني هو الموقفُ من التعاون العسكري مع روسيا بالمخالفة للتشريع الأمريكي القاضي بمعاقبة الدول المتعاونة مع أعداء الولايات المتحدة، والثالث هو الوضعُ العام لحقوق الإنسان في البلاد، وبالأخص النشطاء المحبوسين من المحسوبين على التيار المدنيّ.

وفي نفس الباب الخارجيّ، تلقى السيسي ضربةً مفاجئة يكابر في إظهار آثارها لأسباب سياسية ومعنوية، بعد فوز القائمة المقربة من تركيا بمقعدَي رئاسة المجلس الرئاسي ورئاسة الحكومة، وهزيمة القائمة المدعومة مصرياً والتي كان يرأسها المستشار عقيلة صالح، ما يعني مزيداً من الدعم السياسيّ، والاقتصادي، الشرعي، لخصومهِ الأتراك في الغرب المصري. وينتظره خلال الأسبوع القادم انعقادُ مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والذي سينظر في مشروع القرار الأوروبي الأخير بإنشاء وحدة لرصد أوضاع حقوق الإنسان في مصر، بالتزامن مع جهود إحياء سؤال القصاص من قتلة ريجيني.

كما يواجه مأزقاً حقيقياً، وكابوساً مؤجلاً، في ملف سد النهضة؛ فالاجتماعُ السداسي الأخير بين البلدان الثلاثة يناير/كانون الثاني الماضي فشل أيضاً في الوصول إلى اتفاق مثمر، وإثيوبيا تقول إنها تنوي تكرار مغامرة الملء الأول من جديد بعد 4 أشهر من الآن، رافضةً معاودة تجربة اللجوء إلى أي وساطة جديدة بعد ما تعلمت درسَ وساطة واشنطن مطلع العام الماضي، وبالرغم من تقدم العلاقات مع السودان بشكل ملحوظ مؤخراً، فإن الخرطوم غير متوافقة مع القاهرة بالشكل الذي يرضي النظام في مصر، سواء في ملف سدّ النهضة، حيث ترغب السودان في توسيع صلاحية عمل المراقبين الدوليين فيما تعتقد مصر أن هذه الخطوة غير مجدية، أو في التقارب مع أعداء مصر الإقليميين، إذ لا يزال السودان يفضل لنفسه الاحتفاظ بعلاقات دافئة مع قطر وتركيا.

هذه ليست مجرد ملفات ضمن أجندة عمل طبيعية كتلك التي على طاولة أي وزارة خارجية، وإنما هو وضع صعب بالنسبة للنظام المصري، بدأ عده التصاعديّ منذ فوز جو بايدن بالانتخابات الأمريكية الأخيرة، بايدن الذي جعل من تغيير التعامل مع النظام المصري جزءاً من وعود حملته الانتخابية يتمتع الآن بأغلبية ديمقراطية في مجلسي النواب والشيوخ.

والتوصية الرئيسية التي استُقر على الأخذ بها في مصر حيال هذه التهديدات وبالأخص القادمة من واشنطن، هي مهادنة الموجة القادمة من الخارج وعدم الوقوف في وجهها، فقد سارع السيسي إلى مباركة فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر عن طريق إطلاق سراح العشرات من المعتقلين السياسيين غير المعروفين، ومعهم عائلة "سلطان" التي طالب الرئيس الأمريكي بالإفراج عنهم بشكل شخصي. 

وفي وقتٍ لاحق، أفرجتِ السلطات في مصر أيضاً عن أحد أبرز الأسماء التي طالبت الشبكات الحقوقية الأمريكية بالإفراج عنها، محمود حسين مراسل الجزيرة الذي ظل معتقلاً 4 أعوام، وهرعت لرعاية الحوار الوطنيِّ الفلسطينيّ الممهّد لعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية، ضمن دور القاهرة في القضية الفلسطينية، استباقاً للركبِ الأمريكيّ الخاصّ بإعادة إحياء مفاوضات السّلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

بالنِّسبة للسيسي، فإن الانحناء للموجة "تكتيك براغماتيّ"، لا ينبغي أن يترك فراغاً كبيراً يؤثر على الوضع العام بشكل يعيدُ إنتاج مهدّدات نوعية على نظامه، لذلك، فإنه في نفس الوقت الذي يقوم خلاله بالإفراج عن أسماء محددة لتفادي الاختناق دولياً، فإنه لن يتورع عن اعتقال آخرين أقل حيثية، ضمن المساحة التي يتحرك فيها كطرف بمقدوره السيطرة على الداخل فعلاً، ويحظى بقدر من الشرعية أمام العالم، الذي لا يعبأ بأدقّ التفاصيل في مصر بطبيعة الحال.
يُكثف لنا الحراكَ الجاري حالياً بين السلطة والمجتمع في مصر على خلفية الضغوط الخارجية المتزامنة، موقف السلطات المصرية تجاه الناشط اليساري، ونجل القيادي الفلسطيني المعروف نبيل شعث، رامي نبيل شعث، حيث ظلت قوات الأمن تعتقل إياه بلا زيارة منذ منتصف 2019، ولكنها قررت منذ أيام أن تسمحَ لزوجته الفرنسية بزيارته في محبسه، بعد تردد اسمه كثيراً في نشرات جمعيات حقوق الإنسان في الخارج، خاصةً في باريس. صحيح أن السلطة لم تفرج عنه بعد، ولكنها قدمت تنازلاً حيال أوضاع حبسه. تلك هي المعادلة التي استقر عليها السيسي، تنازلات محدودة تدريجياً تحفظ ماء وجه منتقديه وتضمن عدم خروج الأمور في الداخل عن السيطرة، وهي السياسة التي قد تمتد إلى شخصيات أخرى مثل الباحث المحسوب على روما باتريك جورج، حيث يتوقع أن تستخدمه القاهرة "مُسكناً" لغضب الإيطاليين نظير عدم تسليم الأربعة المطلوبين من النيابة هناك، أو كما قالَ السيسي شارحاً تصوره عن هذه المرحلة للمصريين مع عمرو أديب: "الأوضاع الخارجية مرتبطة دائماً بالأوضاعِ الداخلية، طول ما انتو كده مع بعض، إيدينا في إيدين بعض وثابتين، كل المشاكل دي هتتحل".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد