عندما أطلق رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام، عمليته العسكرية في إقليم تيغراي تحت مسمى "إنفاذ القانون"، فجر الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، علقتُ عليها ـ آنذاك ـ بمقالٍ مطوّلٍ تحت عنوان: "آثار كارثية.. لماذا تعد الحرب على تيغراي أخطر قرار اتخذه آبي أحمد؟"، شرحتُ فيه بإسهاب خطورة الحرب وأنها لن تنتهي بسهولة كما وعد رئيس الوزراء الذي لم يعترف وحكومته على الإطلاق بأن هناك حرباً، فظلّ يردد أنها عملية محدودة وسريعة تهدف فقط إلى إلقاء القبض على "الزمرة الإجرامية"، في إشارة منه لقيادات جبهة تحرير تيغراي.
أتذكر أن العديد من أصدقائي الإثيوبيين أنصار رئيس الوزراء آبي لم يعجبهم المقال، وواجهتُ اتهامات مبطنة بالتحيز إلى جبهة تحرير تيغراي رغم أنني دعوتُ فقط إلى إيقاف الحرب وحلّ الأزمة عن طريق الحوار، ولكن لعل البعض يتبع نظرية "من ليس معنا فهو ضدنا" العبارة الأشهر التي قالها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، فكلّ من دعا إلى السلام ووقف الحرب اعتبره مناصرو آبي أحمد مؤيداً لجبهة تحرير تيغراي أو "وياني" الاسم المختصر للجبهة.
قصف المناطق المأهولة بالسكان
اليوم وبعد مرور نحو 100 يوم على العملية العسكرية، ورغم التقدم السريع الذي أحرزته قوات آبي أحمد مدعومة من القوات الخاصة لإقليم أمهرة وميليشياتها، إضافة إلى انضمام جيش النظام الإريتري منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني وفقاً لمعلومات وثقتها الحكومة الأمريكية، فإنّ الفظائع بدأت تظهر تدريجياً رغم التعتيم الإعلامي الكامل الذي فرضته حكومة آبي أحمد على الإقليم، إذ قامت السلطات الفيدرالية بقطع كافة وسائل الاتصال ومنع دخول وسائل الإعلام المستقلة بالتزامن مع بدء العملية العسكرية، ما أثار المخاوف من ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبالفعل أكدت منظمة هيومان رايتس ووتش الخميس الماضي في تقرير موثق بصور الأقمار الصناعية أن القوات الإثيوبية قصفت مناطق مكتظة بالسكان في الأسابيع الأولى من النزاع، ما أسفر عن مقتل 83 مدنياً على الأقل وتشريد الآلاف.
وأصاب القصف المدفعي للقوات الداعمة لحكومة رئيس الوزراء آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام لعام 2019، "منازل ومستشفيات ومدارس وأسواق"، حسبما ذكر التقرير الذي ركّز على عاصمة الإقليم مقلي وبلدتي شيري وحميرا.
الأسوأ من ذلك، الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، وعلى رأسها القتل خارج نطاق القانون، بالإضافة إلى جرائم الاغتصاب التي تفشت في الإقليم على يد القوات الإثيوبية والإريترية على حد سواء، باعتراف وزيرة المرأة الإثيوبية فيلسان عبد الله التي قالت: "تلقينا التقرير من فريقنا على الأرض في منطقة تيغراي، وقد أكد الفريق للأسف أن الاغتصاب حدث قطعاً ودون شك".
فظائع اغتصاب جماعي
بينما نشرت صحيفة لوس أنجلوس الأمريكية تقريراً مروعاً عن اغتصاب جنود إريتريين لفتاة عشرينية من تيغراي لمدة 15 يوماً ما أدى إلى إصابتها بكسر في الحوض يحتم عليها قضاء ما تبقى من عمرها جالسة على كرسي، وبالطبع لن تكون هي الأولى التي تعرضت لهذه الانتهاكات المروعة، فقد أشارت الضحية في إفادتها إلى أن الجنود الإريتريين لديهم مكان مهجور في منطقة مرتفعة نائية يحضرون إليه الفتيات ويتناوبون على اغتصابهن فيه.
كذلك، ارتفع عدد اللاجئين الفارين من إقليم تيغراي إلى السودان حتى وصل عددهم إلى أكثر من 71 ألفاً، وما يزال العدد مرشحاً للتصاعد رغم تأكيد رئيس الوزراء نهاية الحرب عقب الاستيلاء على مقلي عاصمة الإقليم في الـ29 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ذلك أن القتال لم يتوقف حتى اليوم واتضح أن قوات الجبهة انسحبت إلى الجبال ولجأت إلى أسلوبها المفضل "حرب العصابات" الذي تمتلك فيه خبرة طويلة منذ عهد النضال ضد نظام الديكتاتور منغستو هايلا مريام.
من المخطئ في هذه الحرب العبثية؟
تبادل الطرفان "الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيغراي" الاتهامات ببدء الحرب، خاصة الرواية الحكومية التي وجدت رواجاً كبيراً بفعل سيطرة حكومة آبي أحمد على معظم وسائل الإعلام مثل وكالة الأنباء الرسمية للدولة إلى جانب عدد من القنوات الفضائية والمواقع الإخبارية وصفحات رئيس الوزراء على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن من الثابت فعلياً أن الحرب لم تكن نتيجة لحادث محدد مهما حاول آبي أحمد الإيحاء بذلك، فقبل إعلانه شن العملية العسكرية كانت قوات الدفاع الوطني تطوق بالفعل إقليم تيغراي من كل الاتجاهات، وكذلك كان الجيش الإريتري يقف على أهبة الاستعداد، فقد أثبتت الأقمار الصناعية أنه عَبَر إقليم تيغراي من محورين ابتداءً من 10 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وإلى جانب ذلك اعترف قائد شرطة إقليم الأمهرة أن قوات الإقليم وميليشياته كانت مستعدة ومحتشدة قبل 3 أسابيع من بدء العملية العسكرية.
جبهة تحرير تيغراي ليست بريئة، فهي مسؤولة كذلك عن انحدار الوضع إلى هذه الدرجة المؤسفة حيث قُتل الآلاف وتشرد معظم سكان الإقليم ولجأ ما لا يقل عن 72 ألفاً إلى السودان، وتدمرت البنية التحتية بفعل القصف والنهب الممنهج الذي اتهمت به القوات الإريترية.
أخطأت قيادات جبهة تحرير تيغراي التقدير عندما صعّدوا لهجتهم ضد رئيس الوزراء رغم علمهم التام بأنه يخطط للحرب مع رئيس النظام الإريتري أسياس أفورقي، بل إن العديد من المحللين المستقلين أمثال أليكس دي وال وماكس بيراك ورشيد عبدي يزعمون أن اتفاق السلام الذي وقعه أسياس وآبي قبل عامين ونصف كان هدفه الأساسي هو رغبة كليهما في القضاء على جبهة تحرير تيغراي، لذلك ربما كان على قيادات الجبهة عدم الانجراف وراء التصعيد والمواقف المتصلبة حتى وإن تعرضوا للظلم والاستهداف من آبي بدعوى الإصلاح ومحاسبة الفساد، فالأفضل في مثل هذه الحالة الانتظار لحين تشكيل تحالفات سياسية مع جهات أخرى داخل الدولة أو محاولة بلورة رأي عام دولي مساند لقضيتهم.
ربما استعدت قيادات الجبهة بالفعل للحرب لكنهم لم يتوقعوا أن تكون بمثل هذه الشراسة.. أن تحارب ضدهم القوات الفيدرالية وقوات إقليم آخر بالإضافة إلى مليشيات عرقية وجيش أجنبي كامل "إريتريا"، والأدهى من ذلك أن دولة الإمارات شاركت حليفها آبي أحمد بتوفير غطاء جوي متمثل في الطائرات المسيرة التي كانت موجودة في قاعدتها العسكرية بميناء عصب الإريتري قبل أن تغادره مطلع الشهر الحالي وفق تقرير نشره موقع أفريكا إنتلجنس المتخصص في التسريبات العسكرية.
تدمير إقليم تيغراي وتدمير مصداقية آبي
100 يوم من إعلان الحرب كان نتيجتها تدمير إقليم تيغراي "حرفياً" فقد اقترب شبح المجاعة من معظم السكان وتشرد نحو 2.5 مليون مواطن من أبناء تيغراي وقُتل الآلاف واغتُصبت النساء وتدمرت البنية التحتية من مصانع وفنادق ونُهبت الجامعات والمعامل والصيدليات على يد القوات الإريترية التي ارتكبت فظائع القتل العشوائي وثّق لها وسائل الإعلام المستقلة، حتى أبناء تيغراي الموجودين في العاصمة أديس أبابا والمدن الأخرى في إثيوبيا تعرضوا للاضطهاد والتمييز العرقي، إذ فقد كثيرون وظائفهم خاصة الموظفين الحكوميين ومنتسبي الأجهزة الأمنية والعسكرية من جيش وشرطة وأمن، إلى جانب موظفي القطاعات شبه الحكومية مثل شركة الخطوط الجوية الإثيوبية التي قامت بالاستغناء عن المئات من موظفيها فقط لأنهم من عرق تيغراي، وما حزّ في نفوس موظفي الخطوط الإثيوبية الذين تم الاستغناء عن خدماتهم أن رئيسهم التنفيذي لم يدافع عنهم رغم أنه من الإقليم نفسه.
كذلك تدمّرت مصداقية رئيس الوزراء آبي الذي وعد في بداية الحرب مطلع نوفمبر/تشرين الثاني بإنهاء عملية "إنفاذ القانون" في وقت سريع، بل زعم في نهاية الشهر "نوفمبر" أن قواته لم تقتل ولا مدنياً واحداً، فيما تشير التقارير إلى مقتل الآلاف في الحرب التي لم تتوقف حتى اليوم، فكل ما في الأمر أن قوات TPLF انسحبت إلى خارج المدن وتمركزت في الجبال، وهو تكتيك تتبناه جبهة تحرير تيغراي التي تُعرف شعبياً باسم "وياني" أي الثورة باللغة المحلية، فقوات الجبهة تعمل على تفادي المعارك الكبيرة لصالح عمليات خاطفة "حرب عصابات" تؤدي إلى إلحاق الخسائر الكبيرة بالعدو فيما تقلل من خسائرها هي، وهذا ما يفسر استيلاء الجيشين الإثيوبي والإريتري وحلفائهما من الميليشيات على معظم مدن الإقليم إن لم يكن كلها.
كان من نتيجة الحرب أيضاً، أن السودان استعاد أراضي الفشقة من ميليشيات إثيوبية تدعمها قوات رسمية "وفق الجيش السوداني"، ما أثار غضب المتشددين من أبناء قومية الأمهرة وهم الداعمون الرئيسيون لحكومة آبي أحمد، اليوم ينظر هؤلاء إلى الحكومة الفيدرالية الإثيوبية بأنها تخلت عنهم وتركت الجيش السودان يستولي على أراضي الفشقة التي استوطنوا فيها لفترة تزيد على 25 عاماً، وهذا يشكل تهديداً مباشراً لرئيس الوزراء الإثيوبي، إذ إن قومية الأمهرة هي الداعم الفعلي له داخلياً، فمسقط رأسه "إقليم أوروميا" منقسم والأغلبية منه تقف مع زعماء المعارضة المعتقلين منذ منتصف العام الماضي، مثل جوهر محمد وبيكيلي جيربا، كما خسر آبي بالفعل أبناء قومية تيغراي بفعل الحرب حتى أن كثير من أبناء تيغراي الذي كانوا يعارضون حزب TPLF أصبحوا يتعاطفون معه لما رأه من أهوال الحرب التي شنتها عليهم الحكومة الفيدرالية بقيادة آبي أحمد الذي يخوض معارك مع تمرد آخر في إقليم بني شنقول غربي البلاد، هذا بخلاف التمرد الآخر المستعر في إقليم أوروميا متمثلاً في الهجمات التي تشنها جماعة "أونق شني" المنشقة من جبهة تحرير أورومو المعارضة OLF والتي تسيطر على أجزاء واسعة من الإقليم.
نتيجة للانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في حرب تيغراي اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً بتجميد دفعة من المساعدات قدرها 88 مليون يورو كان من المفترض أن يقدمها إلى الحكومة الإثيوبية أواخر العام الماضي، وتتجه حالياً دول الاتحاد إلى إحالة ملف الأزمة الإنسانية في إقليم تيغراي وانتهاكات حقوق الإنسان إلى مجلس الأمن الدولي.
في المقالة القادمة بإذن الله سنتطرق إلى جهود إنهاء الصراع وتوجه الإدارة الأمريكية الجديدة لتعيين مبعوث خاص إلى القرن الإفريقي لمعالجة الأزمة التي تعصف بالبلاد وكيفية إخراج القوات الإريترية من إقليم تيغراي، والمساهمة في إيجاد حل للأزمة الحدودية بين الخرطوم وأديس أبابا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.