عندما كانت جريمة أبي أن صنع غرفة صغيرة لي في طرف دكانه

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/16 الساعة 06:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/16 الساعة 06:30 بتوقيت غرينتش

بمدينة فاس عندما تزوج أبي من أمي لم يغير سكنه الصغير الذي كان يناسب صانعاً أعزب، فكان السكن عبارة عن غرفة صغيرة وحمام ودكان صغير، بين الغرفة والدكان حائط مشترك، كان أبي يخرج من الغرفة، يخطو خطوتين في البهو ويخرج من باب المنزل، ثم يخطو ثلاث خطوات إلى يمين الشارع فيفتح دكانه قائلاً دعوته المعتادة: "يا فتاح يا رزاق، يا عليم بالأرزاق" دعوة أتذكرها كلما وضعت مفتاحاً بباب.

عندما تزوج أبي تذمرت أمي من ضيق المكان وغياب مطبخ صغير تعد به الطعام، وبعد نقاشات طويلة ومحاولة لإيجاد حل وسط يرضي الطرفين قرر أبي أن يفتح باباً في الحائط المشترك بين الغرفة والدكان، وأن يقتص من الدكان مساحة يجعلها مطبخاً صغيراً لا يزيد عن عرض متر ونصف وطول مترين، لكنها مساحة كافية لإدخال السعادة إلى قلب أمي. 

بدأ بالتخطيط لتنفيذ الفكرة، الصعوبة لم تكن في توفير المواد أو الوقت الذي سيأخذه المشروع، الصعوبة كانت تكمن كلها في إنجاز المشروع دون أن يعلم "مقدم الحي" بالخبر، كان شكل أبي غريباً وهو يحفر في صمت الحائط، يضرب الضربة فيستدير لينظر في رعب إلى أمي، عيناه تسألانها: هل كان الصوت مرتفعا؟ فترد عليه بهزة رأس لا تكاد ترى وبغمضة خفيفة من عينيها السوداوين الجميلتين لتطمئنه. استمر حفر الباب ثلاثة أيام، وقد وضع أبي في الدكان خشباً أبيض بعرض الحائط حتى لا تظهر آثار الجريمة، وكان يأخذ الطوب الذي يقع من الحائط في حقيبة يحملها في الصباح الباكر ويلقيها بعيداً عن البيت. معاناة كبيرة وخوف ورعب لم ينته بنهاية الأشغال، فالخشب الأبيض الذي يشبه الحائط والذي أصبح هو الفاصل بين مطبخ أمي ودكان أبي كان مصدر رعب لأبي، كان يخاف أن ينتبه أحد الجيران أو الزبائن أو الأصدقاء الذين اعتادوا زيارة دكانه واتخاذ مقعد من بين ثلاثة مقاعد وضعها أبي هناك لاستقبالهم، كان يخاف أن ينتبهوا أن مساحة المحل تغيرت فيتحدثوا بما رأوه ويصل الخبر إلى السلطات، فيأتي أعوانهم ويدخل في سين وجيم وابتزازات مالية حتى لا يخالفوه أو يجبروه على إرجاع الدكان إلى سابق عهده. 

مرت ست سنوات على أول جريمة ارتكبها أبي في حق الدولة، وبما أنه لم يعاقب على جريمته الأولى بدأت نفسه تراوده في ارتكاب جريمة ثانية، وهنا نفهم فائدة الزجر في القانون، العقاب ليس الهدف منه الانتقام من المخطئ بقدر ما هو ردعه. 

بدأ التفكير في الجريمة الثانية عندما بلغت أنا من العمر سبع سنوات، فطرح نقاش إحداث غرفة خاصة بي، فكان الحل الوحيد هو قص مساحة أكبر من الدكان. قبل أبي بالأمر بحزن لكن دون جدال، وضحى بمكان استقبال أصدقائه كما ضحت أمي بمطبخها الصغير، فأصبح دكان أبي بحجم مطبخها القديم وباتت أمي تطهو الطعام في زاوية صغيرة من غرفتها. 

هذه المرة الجريمة كانت أكبر فقد اضطر أبي إلى بيع معدات عديدة حتى يفرغ الدكان قليلاً، ثم اضطر إلى إقفاله طول مدة بناء حائط حقيقي بالطوب بدل حائط الخشب التمويهي، هذه المرة لم يكن يخرج في الصباح الباكر للتخلص من الطوب وإنما يخرج لشرائه من مكان بعيد عن الدار ليملأه في حقيبة ويأتي به إلى البيت فيصفه في زاوية من المطبخ الذي بدأت أوانيه تنقص رويداً رويداً، فكان صف الطوب يرتفع وأواني أمي تنقص إلى أن اختفت نهائياً واكتملت معدات البناء، فأتى الليل الذي قرر فيه أبي أن يبدأ التشييد، بني الحائط في صمت رهيب واكتمل في ليلتين ونظفت أمي المكان في انتظار أن تصل غرفة النوم التي طلبها أبي من الصحراء المغربية، واستغل فرصة أن زوج خالتي المحجوب رحمه الله آت من هناك حتى يجلبها معه. 

في انتظار وصول الغرفة ساعدت أبي في ترتيب دكانه الذي كنت أحفظ معداته واحدة واحدة، كان أبي يجلسني معه في الدكان كثيراً وكان يتركه في عهدتي إن هو اضطر للتغيب عنه، كنت فضولية كثيراً فكنت أسأله عن مسميات المعدات والغرض منها وكيفية استعمالها، كان أبي لا يضجر من الرد على أسئلتي، وعندما يسهو فيطول انتظاري كنت أجلس في صمت وصبر إلى أن يخرج من سهوه ذاك فأسمعه قائلاَ: نعم آه فاطمة الزهراء بنتي؟ في إشارة منه إلى أنه لم ينتبه لما قلته لكنه مستعد الآن للسماع والرد، فكنت أعيد السؤال بسعادة لرجوع أبي إلي من ذاك العالم الذي يختطفه مني من حين إلى آخر.

وأنا أساعد أبي انتبهت إلى ضيق المكان واختفاء الكراسي، حزنت للأمر كثيراَ، ورغم أنني لم أكن وراء فكرة الغرفة الخاصة بي فإنني أحسست بالذنب. سمعته يخبرني محذراَ: اسمعي يا فاطمة الزهراء، إن سألك أحدهم، لماذا أصبح حجم الدكان صغيراً؟ تقولين له إن هذا ليس حائطاً وإنما خشب أبيض يفصل بين الدكان ومكان وضعنا به معدات العمل. لم أعتد أن أسمع أبي يكذب ولم أعتد أن أراه خائفاً، كان شجاعاً صادقاً إلا عندما يتعلق الأمر بالحائط.

وبينما أنا محتارة أطل رأس من باب الدكان بجلباب بني من الصوف، ألقى التحية على أبي فرأيت أبي يرد عليه التحية وقد اصفر وجهه من الخوف، نظرت إلى الرجل، كان أسمر نحيفاً وعيناه بهما نظرة ماكرة أو ذلك ما اعتقدته عندما فهمت من خلال لائحة الأسئلة التي طرحها على أبي أنه هو "المقدم" الذي يخيف أبي ويضطره إلى الكذب، استغربت كيف يخاف أبي الملاكم الشجاع من رجل نحيف كهذا؟ 

كبرت وفهمت أن أبي لم يكن يخاف من الرجل نفسه لكنه كان يخاف من المنظومة التي يمثلها، كان يخاف من دول  القسوة على الضعفاء ومساندة الأقوياء، من دولة تفقير الفقراء وإغناء الأغنياء، من دولة تطبيق القوانين على عموم الشعب وإلغائها لفائدة نخبة منه. 

اليوم وأنا أقرأ عن (المعمل السري) الذي مات فيه أكثر من أربعة وعشرين عاملاً غرقاً بمدينة طنجة، تذكرت كيف أنك لا تستطيع أن تضع طوبة واحدة بقعر بيتك دون أن تعلم السلطات بها وقد تأتي لاقتلاعها قبل أن يجف الإسمنت عنها بينما في نفس البلد تستطيع أن تنشئ مصنعاً يعمل به أكثر من مئة عامل دون أن تعلم بذلك السلطات.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
فاطمة النهاري
باحثة مغريبية مقيمة في فرنسا
تحميل المزيد