“سلاحك في وجه أزمات الحياة المتدفقة”.. لماذا علينا أن نتفلسف؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/16 الساعة 14:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/16 الساعة 14:15 بتوقيت غرينتش
IStock

يصعب تحديد أين ومتى انبثقت للمرة الأولى؟ بل يصعب حتى ذِكر كافة تعريفاتها على مر التاريخ، لكن لعلها ظهرت -أي الفلسفة- مع الخطوات الأولى للإنسان في حدائق بابل، وحول أعمدة الأكروبوليس اليونانية. ورغم ضبابية البدايات نعرف جيداً أنها نبتت من دهشة تبعها قلق وجودي عميق، قلقٌ حاول الإنسان اتخاذ موقف منه، بملء الفراغ الناشئ من ازدحام الأسئلة بداخله. لم يتوقف البشر في أي زمان عن طرح التساؤلات منذ راح سقراط يبحث في الفضيلة والشجاعة والشرف، ثم تعمّق السؤال عما يعني أن يكون المرء إنساناً، ما معنى الوجود؟ ما الغرض من الحياة؟

عند لايبنتز شيلينغ، وصولاً إلى هايدغر، ارتكنت أعمدة الفلسفة على التساؤل الميتافيزيقي الأساسي "لِمَ كان وجود ولم يكن بالأولى عدم؟". لكنها عند كامو تعبير عن رجفة الإنسان أمام الموت. وبالنسبة لشوبنهاور فالحاجة والفطرة دفعت الإنسان لطرح أسئلة لا يملك إجابتها. وسواء قلنا إنها عند أفلاطون تعلم الموت، ويتمثل دورها في العلو بالإنسان إلى عالم المُثُل، ستبقى عند ياسبرز وسبينوزا تفكر في الحياة.

تعريفات لا حصر لها ورؤى جذابة، كل منها قطب مغناطيسي يرسم الحياة ويهرب من الموت أو العكس. على كلٍّ، أمام تلك الكثرة والوفرة التعريفية لا بد أن نسلم بأن الفلسفة مفهوم عام يصدق على جهود عقلية متنافرة أشد التنافر، وإن كان يجمع بينها الاهتمام بالسؤال عن المشكلات الكبرى للوجود، والمعرفة، والسلوك، والإرادة، والقيمة، أو الاتجاه إلى التفسير الشامل للعالم، أو تفسير طبيعة الإنسان ووضعه بين الكائنات ووعيه بذاته ومستقبله ومصيره. كما أخبرنا عبدالغفار مكاوي في كتابه لِمَ الفلسفة.

دعوة للتفلسف


اعتمد سقراط في محاوراته على البحث والتساؤل كغايات في ذاتها، لم يهدف للوصول إلى نقطة معينة سلفاً، كانت تذكرته تذكرة ذهاب لا وجهة لها. إذ يتناول المرء على مائدته الفلسفة في أبسط تجلياتها، لحظة تمرد على الجمود والثبات، فعل يرى جمالية الفكرة في حركيتها. تُخضع المسلمات والأعراف للمساءلة، للشك وإعادة النظر، ثم تبني من أنقاض الماضي قيماً وأفكاراً جديدة تستحق العيش وفقها. بذلك هي علم يستحث الإنسان على البحث وتجديد الفكر والمعرفة، يغير جلده كلما اكتشف مناطق تداعت وأخرى تطلب الترميم. وما يفرغ من تلك العملية يصبح أقوى على حد تعبير نيتشه.

يخبرنا هنتر ميد في كتابه "الفلسفة أنواعها ومشكلاتها" بأن البشر يشتركون في التفلسف، بوعي منهم أو دون وعي. قد يتبع ذلك لما قاله هايدغر ذات مرةٍ خلال معرض الحديث عن ترقي الوعي البشري عبر التاريخ، حيث أقام صلة وثيقة بين ترقي الوعي البشري من ناحية، وزيادة الشعور بالحرية من جهة أخرى. وقد جعل هيغل ظهور الفلسفة على مسرح الإنسانية رهناً للتطور البشري، وزيادة الحرية؛ لعلمه بأن الخاصية الأهم في الفلسفة هي روح البحث المستمر. (دور الفلسفة في حياتنا المعاصرة، زكريا إبراهيم). والإنسان لا يزال يشعر في قرارة نفسه أنه وعي وحرية. وهذا الشعور هو الذي يدفعنا إلى القول بأنه لن تزول الفلسفة إلا بزوال آخر مخلوق بشري على هذه الأرض. (مشكلة الفلسفة، زكريا إبراهيم).

ولا يمكن فصل الفلسفة عن الواقع اليومي للناس، بوضعها في أسوار الجامعات وحصرها على الأكاديميين والمتخصصين؛ لأنها بذلك تبقي ولا تزيل الغشاوة عن الأعين، بسلب قدرة الناس على استعمال العقل، حيث يغدو العيش على نحو جيد أمراً مستحيل الحدوث.
لكي يستطيع المرء أن يحكم دولة يجب أن يستطيع حكم نفسه أولاً، خصص أفلاطون هذا الشرط للحكام فقط. لكن سبينوزا عممه على كافة المواطنين، كشركاء في الحكم، يجب أن يكبح المرء انفعالاته ورغباته. يحكم نفسه لكي يكون حاكماً صالحاً وفقاً لأفلاطون، لكي يصبح مواطناً صالحاً وفقاً لاسبينوزا وكانط، لكي ينعم بالسعادة وفقاً لشوبنهاور وأبيقور. وبالنّظرة الهيغليّة إلى تاريخ الفلسفة فإنّ كلّ تلك الرّهانات تمثّل أجزاء من نفس كرة الثّلج المتدحرجة، والتّي تحمل اسم الفلسفة. (الوجود والعزاء: الفلسفة في مواجهة خيبات الأمل، سعيد ناشيد)

الفلسفة في مواجهة الأزمات

بنيت رؤية توماس كون في كتابه الثوري "بنية الثورات العلمية" على أننا كبشر قادرون بلا ريب على تطوير نماذج ناجحة ومعقدة لوصف الواقع، وأن باستطاعتنا من خلال تلك النماذج اسكتشاف ثروة من الحقائق الجديدة، لكننا لا نستطيع إثبات تماثل نماذجنا مع الواقع المعاش. 

بلغت الأصوات التي تصرح بمرور المجتمع الإنساني بأزمة الحد الذي يُسمع الأصم. وفي مثل تلك الظروف تنتعش وتزدهر الفلسفة، إذ تتغذى على الاضطرابات، في الوقت الذي يتلقط الاستقرار المزعوم أنفاسه الأخيرة، تلك  فرصة لكتابة سرديات جديدة للواقع وتغيير مجرى التاريخ. إن ظهور سقراط صعب إذا لم تهتز مكانة الإمبراطورية الإغريقية، ساد قبل ظهوره التجانس والوحدة في بنية المجتمع ككل، هيمنت سردية واحدة، جامدة. في وضع كهذا، لم يكن مرجحاً ظهور سقراط، حيث وجد الإغريق راحتهم مع الإجابات والتفسيرات البسيطة عن العالم وتماهوا معها. 

احتاج ميلاد الفلسفة لفاجعة الحرب اليونانية، لتهتز الثوابت وتلقى الأحجار في البرك، فُيدفع بالناس دفعاً للبحث عن آفاق لم يحلموا ببلوغها.

بمعنى آخر، تنهض الفلسفة من سباتها، غالباً، حين تنهار ويظهر زيف أو عدم جدوى المنظومة الاجتماعية أو الفكرية أو العقائدية أو السياسية في المجتمع. حين تصبح حياة الناس اليومية موضعاً للتساؤل والشك، حين تصبح دلالة الكلمات القديمة تعكس مفردات جديدة محل للنقاش وإعادة الصياغة، فتقوم الفلسفة كذات فاعلة، تهدم القديم، وتقيم على أنقاضه بنياناً يخدم حاجات المجتمع الفعلية. وهذا يعني أن دورها أكبر من الأخذ والرد؛ فالطريقة التي نُخضع بها الحياة للفهم والشرح توأم ملتصق بالطريقة التي نحيا بها.
وللفلسفة غايات أخلاقية واجتماعية، يعجز العلم عن توفير تلك الغايات للإنسان، إن لم تجهض غايات الفلاسفة، واستطاعت الولوج لجمهور البشر، نستطيع توقع نمو فاعلية المجتمع. فلا يتوقع للعلم ولا يقدر أن يستبدل الفلسفة وإن اعتلى هو منصة العالم الحالي وحده.
أقر المنظر السياسي الأمريكي، فريدريك جيمسون، بالإمكانية اليوتوبيّة للكوارث الكبرى، حين تجد البشرية نفسها في مواجهة حقيقة أن الجميع يبحر في وجه العاصفة في ذات المركب المثقوب. وإن كان سؤالنا الحالي عن كيفية توظيف الفلسفة لمسعى الإنسان بحياة طيبة، كيف تخدم الفلسفة تطلعاتنا للغد؟ هل حقاً للفلسفة المقدرة على عزاء النفس البشرية؟

فإننا نحتاج قبل الإجابة أن نبحث داخل شقوق بنيان عصرنا، فالإنسانية تعيش في ظل خطر محدق هدد ويهدد وجودها. شبح الخوف والقلق الذي خيم على القرن العشرين -على حد وصف كامو- عاد ليكسر شوكة الذات الحالمة بالارتقاء فوق العالم، والمُتيقنَة من سيادتها على نفسها في القرن الحادي والعشرين. 

وما زالت متاعب الأمس تشبه متاعب اليوم، وما زال إنسان القرن الحادي والعشرين يعاني من متاعب القرون البعيدة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد