فرنسا ومأزق تدبير قضايا الحريات الدينية والتعددية الثقافية.. متى ينتقد النموذج العلماني نفسه؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/15 الساعة 09:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/15 الساعة 09:29 بتوقيت غرينتش
الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون

"إعادة التفكير في الدين  هي أيضاً إعادة التفكير في العلمانية ومزاعم امتلاكها الحقيقة، ووعودها بالمنافع الداخلية للخارجية" (صبا محمود: هل النقد علماني؟ التجديف والإساءة وحرية التعبير)

 يعد النهج الذي سار عليه الرئيس الفرنسي فيما قدمه بخصوص الإسلام، في تصريحه المثير الذي اعتبر فيه أن الإسلام يعيش أزمة، وما تبعه من إجراءات التشديد بشأن الرموز الدينية الإسلامية التي يرى فيها تهديداً لقيم الجمهورية، أحد أشكال التدبير العنيف (والحاد) فيما يتعلق بالسياسة الدينية في العالم في العقود الأخيرة، أي منذ ما سمي الحرب على الإرهاب في فرنسا وتقسيم العالم على أسس دينية وثقافية مغلقة يستحيل معها مد الجسور لفضاءات إنسانية رحبة تبعد كل عناصر النزاع والاختلاف الحاد.

ليس خافياً أن هذا التوجه الجديد القديم لفرنسا مع المكون الإسلامي يمكن أن يخلف ارتدادات داخل المجتمع الفرنسي خصوصاً وعلى المستوى الأوربي بشكل أعم، وهو ما يستدعي الانتباه إلى أن الموضوع قد يكون عرضياً من جانب، من حيث التنافس السياسي مع اليمين المتطرف على أرضية انتخابات يتمدد فيها اليمين وتستثمر فيها الشعبوية التي غزت العديد من الدول، لكن النظر الفاحص في التجربة الفرنسية، يجد أن ما يجري إفرازاً لجذور ممتدة تتجاوز اللحظة الراهنة إلى لحظات تماسّ فرنسا مع باقي الثقافات زمن الاستعمار، حيث يحتوي التاريخ على ذاكرة سيئة للاستعمار الفرنسي مع الثقافات المغايرة، ومنها الثقافة الإسلامية منذ دخول خيل نابليون باحة الأزهر (ينظر كتاب "ودخلت الخيل الأزهر" للكاتب الصحفي جلال كشك)، حيث عملت جنود نابليون بقصد على الإمعان في إذلال مؤسسة الأزهر وشيوخها الذين تبنوا خيار المقاومة والرفض للمد الإمبريالي.

 وهو الأمر نفسه عمل عليه "ليوطي" لاحقاً في المغرب، حينما جمع علماء القرويين بدار المقري بفاس وصار ينثر أعقاب السجائر وهو يحدثهم كما يحكي ذلك "عبد الله كنون"، في تجلٍّ لبعض أشكال الإهانة التي عمد إليها الاستعمار وبقيت مترسخة، حيث ترفض فرنسا الاعتذار عن ماضيها الاستعماري، ما يعني أن فرنسا غير مستعدة لقراءة حقبة من التاريخ بنظرة مغايرة كما فعلت دول أخرى، بحيث يدفع إلى مصالحة كبرى بين الشعوب والثقافات، ويزيل عناصر التوتر والنزاع الكامنة في ذاكرة الأجيال.

ليس غرضنا هنا الاستهلال بمقدمة تفسيرية تعرض أحد الأسباب الكامنة لتوتر الحالي في السياق الفرنسي، إنما التنبيه إلى أن نهج الدولة الفرنسية في تدبير مسألة التعدد الديني والثقافي بطرق تنزع إلى الإكراه بأدوات السلطة، ما قد يجعل ظهور الموضوع بين كل لحظة وحين تعبيراً عن أن المشكلة قد لا تتصل أساساً بالأقليات المنحدرة من أصول إسلامية، إنما قد تكون داخل النموذج العلماني الفرنسي الذي تذهب به شموليته إلى رفض التعددية، وهذا ما يجعل السؤال حول واقع الحريات الدينية في فرنسا مشروعاً، وطبيعة القلاقل التي يمكن أن يحدثها على مستوى الأقليات والتنوع الديني والثقافي، حيث إن عدم مراجعة المقولات التي تشكلت عليها العلمانية الفرنسية وتصدير المشكلات إلى الأقليات والآخر الديني والثقافي، قد يؤجل الأزمة داخل النموذج ذاته لكنه لا يحلها، كونه منغلقاً على نفسه بسبب رداء القداسة الذي تلبسه.

 إن طبيعة التحولات الكبرى والأفكار الجديدة بشأن التعددية تفرض تلك المراجعة والنقد في اتجاهات متنوعة، بالإضافة إلى أن العلمانية نفسها من خلال رؤى مختلفة هي عملية نقدية، تتطور من خلال النقد الدائم، وإذا حادت عن مقوم النقد ووضعت نفسها في تناقض ضدي مع المسألة الدينية كما نراه في السياق الراهن مع ما تطرحه الإساءة للأديان والرموز الدينية والتجديف، تكون قد أعادت إنتاج المقولات الكبرى التي قامت عليها.. أو لنقل إنها ستنزع نزعة شمولية تؤدي إلى الكثير من الاضطرابات تنتج عن عدم تفكير مختلف في القضايا ذات الصلة بالهوية والتنوع الثقافي والديني بعيداً عن الصدام.

لقد شكلت استثارة الإساءة للرموز الدينية والإمعان في استعمالها أو توظيفها أداة فعالة تخفي خلفها الكثير من الريبة والعديد من الأسئلة حول مقاصدها، خصوصاً حينما يتم افتراض تعارض بين الأسس القيمية والدينية التي توجه معتقد شريحة من الأقلية المسلمة في فرنسا، والخلفية الأيديولوجية التي قامت عليها جمهورية فرنسا، أي العلمانية والفصل الحاد بين الزمني الدنيوي والديني المقدس.

 يتضح أكثر حينما يتم التعبير عن اللجوء إلى أدوات الإكراه في تقرير قضية المعتقد بدعوى عدم التوافق مع قيم الجمهورية، والذي إذا تم في المجال السياسي، فإنه يزيد من حدة الاستقطاب في الأحياز الثقافية والقيمية التي يكون التوسّل بأدوات الإكراه فيها منذر بمخاطر اجتماعية وسياسية وثقافية على المدى الاستراتيجي البعيد، لأنه لم يتم التوسل بالمداخل الناجعة في القضايا ذات الصلة بالثقافة والعناصر التي تشكل هوية الأفراد والجماعات، أي التوافقات الكبرى المنبثقة عن حوارات ثقافية واجتماعية تستند إلى أسس غير مصطبغة بصبغة التوتر والنزاع وأدوات القهر، ما يغذي الشعور لدى الأقليات بأن هناك إرادة مبطنة تسعى إلى التذويب القسري لهوياتهم الخاصة في هويات وطنية كبرى، قد تتعارض في بعض الجوانب مع جملة من الرموز والمعتقدات التي تشكل كينونتهم، وما يقدمه النموذج الفرنسي، ليس مجرد مثال قد يولد شعور الخوف عند الأقليات بوجود نزعة كامنة خلف السياسة التي انتهجها ماكرون، إنما هو ومعه اليمين المتطرف يشكلان نموذجاً يعبر عنه نفسه في السياق الأوروبي الذي أضحى يشكل باعثاً للخوف لدى الأقليات. وهذا ما يطرح التساؤل عن مستقبل المخاض الراهن ومخلفاته على المدى البعيد.

يمكن القول إن الاتفاق المعلن بشأن الميثاق الذي عرض مؤخراً، قد يحقق بعض الغايات والأهداف السياسية التي شكلت دافعاً للرئيس الفرنسي ماكرون لنهج هذا الخيار الحاد والعنيف على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي أو من خلال المؤسسات والقانون، لكنه قد يخفق على المدى البعيد، لما سيتركه من ندوب على مستوى الوعي بخصوص الحريات الدينية للأقلية المسلمة داخل فرنسا، كما سيرسخ حالة من الانعزال وعدم الشعور بالاعتراف في دولة تتناقض مع مبادئها الكبرى بشأن حرية التعبير والاختلاف، وذلك يعود بالأساس كما أسلفنا بخطاب وأدوات غير ناجعة فيما يتعلق بالرموز والقيم الثقافية، التي يحدث فيها توافق بالتراكم الممتد في الزمن، وليس بالإكراه من خلال ما توفره السلطة.

 يزيد من حالة من القلق في السياق الراهن، زرع حالة من الفوبيا في المجتمع الفرنسي من الإسلام على أرضية السياسة والإعلام من خلال الاستناد على خطاب أكاديمي ينظر للآخر في تنافٍ مع الذات، ما يدعو إلى العمل على الإخضاع القسري لمنطلقاته الدينية للتحديث، باعتبار مشكلة عدم الاندماج في الأصول الثقافية والدينية للأقلية المسلمة، وليس في سياسات الاستبعاد الاجتماعي والتهميش التي تنهجها الدولة، بالإضافة إلى النزعة الشمولية التي تتسم بها العلمانية اليعقوبية بفرنسا مع الرموز الدينية والثقافية المخالفة.

ونحن إذا نظرنا في المسألة من وجهة نظر مختلفة، في سياق ما يظهر من دعاوى متضاربة بين رأي يعتبر المساس بالرموز الدينية إهانة للمقدسات، ومن يعتبرها ضمن حرية التعبير، نؤكد مع صبا محمود، كون "إعادة التفكير في الدين هي أيضاً إعادة التفكير في العلمانية ومزاعم امتلاكها للحقيقة، ووعودها بالمنافع الداخلية للخارجية" (ينظر الكتاب الجماعي.. هل النقد علماني؟ التجديف والإساءة وحرية التعبير)، ومن ثم فإنه إذا تم التسليم لماكرون بكون الإسلام يعيش أزمة، فإن العلمانية الفرنسية نفسها تعيش في أزمة، وبحاجة إلى تكييف ومراجعة لمقولاتها من خلال الاستفادة من باقي التجارب العلمانية ذات الطابع المرن، والنظر في التحولات الطارئة بشأن الظاهرة الدينية، لكن حديث ماكرون عن أزمة الإسلام وما تبعه من إجراءات، هو ليس حديث مفكر أو مثقف في ندوة أو مقال أو كتاب يمكن التسليم به أو رفضه بحسب ما توفره مختلف حقول المعرفة من أدوات الحجاج، لاسيما أن الضرورة تقتضي تجديد الخطاب الديني ليساوق العصر ومقولاته، إنما هو رأي رئيس دولة ينظر إليه كونه يرسم معالم سياسة تتعلق بالدين تستلهم جذورها من الأطروحات المشبعة بنزعة الإقصاء كما هو كامن في وجهة نظر جيل كبيل وبعض المستشرقين الذين شكلوا ظهيراً للاستعمار الفرنسي أو النخب التي تقدم فرضيات التناقض والصدام عوض إمكانات التعايش والاندماج.

في الواقع، تعد القراءات المختلفة التي تنظر بعقلانية للمكون الإسلامي وثقافة الآخر، مستحضرة جملة من العناصر الثقافية والتاريخية في علاقة فرنسا مع الأقلية المسلمة التي تشكل كتلة حرجة، وكذا السياسات المنتجة للإقصاء والتهميش، صوتاً ذات أهمية علمية وراهنية سياسية واجتماعية في الواقع الفرنسي والأوروبي عموماً، كما هو حال فرانسوا بورغا وأوليفيه روا وغيرهما من النخب والمؤسسات الأكاديمية التي لم تتأثر بنزعة اليمين المتطرف أو الشعبوية التي وجدت لها صدى في الواقع الراهن، وهما معاً يحرّضان على مزيد من التقاطب الحاد الذي يهدد واقع المسلمين ومختلف الأقليات في السياق الأوروبي. ذلك الصوت العقلاني هو الذي يمكن من تجاوز منظور الصدام والاختلاف الحاد والاستثمار الإعلامي والسياسي في حالات متطرفة شاذة لا تعبر عن أصول الثقافة الإسلامية في التعايش والاختلاف، كما أنه يمهد للنقد داخل النموذج العلماني الفرنسي نفسه، ويجعله منفتحاً وأكثر مرونة في العلاقة بالتعدد الثقافي والديني.

ختاماً:

إن تجاوز واقع الاضطراب الذي يتغذى على الفوبيا المنتشرة، رهين بتوفير مُناخ ثقافي وإعلامي وسياسي، يعالج إشكالات التهميش والاستبعاد الاجتماعي، ومن تم الاعتراف بالتعددية والتنوع واقعاً، وهذا بحاجة إلى ممارسة نقد للنموذج العلماني الفرنسي الذي يعاني من تضخم موضوعات الهوية بصبغة أيديولوجية تفترض التنافي، لذلك فإن التطرف في معالجة المسألة الدينية داخل السياق الفرنسي منذ الثورة، جعل نزعة الشمولية مصاحبة له منذ النشأة، وهو ما يجعله يتمنع عن أي نقد ذاتي، في حين أن التحول يفترض النقد من الداخل. كما أن الخطاب الديني في السياق الأوروبي بحاجة لتحديث مقولاته وفق السياق الثقافي الأوروبي، وهو ممكن بالنظر إلى أن الإسلام ليس رسالة طائفية، إنما يحتوي على بذور وقيم لها القدرة على التكيف وخلق جسور في سياقات كونية منفتحة، أو بعبارة أدق في المجتمعات الليبرالية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يحيى عالم
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
تحميل المزيد