في غرفة الأخبار، وبينما أستعد للراحة قليلاً من ضغط العمل، أشار لي زميلي بنشرِ خبرٍ عاجل، كان الخبر يشمل اسم مريد البرغوثي، لم أتفحص بقيّته، لم أتوثّق منه، لم أكُن أريد أن يكون صحيحاً، لكنه صحيح على كل حال، ذهبتُ إلى صوغ الخبر، كتبتُ "وداعاً مريد البرغوثي"، لكنني انتبهتُ وعدلته في اللحظة الأخيرة، كتبتُه ببطءٍ شديد "وفاة مريد البرغوثي". كانت تلك لحظةٌ تمنيتُ فيها لو كنتُ عاطلاً عن العمل.
في الحياة تبدو بعض القصص خياليةً جداً، لا تنزل إلى مستوى الواقع، تظل حولها هالة مقدسة، ويبقى بريقها هو ذاته كلما نظرت إليه، لا يخفى ولا يبهت، تشعر تجاهه أنك في حرَم شريف، تخلع نعليك، تحمل قلبك بين يديك، تنظر في إجلالٍ وإكبار إلى ذلك الصرح العظيم، تحس وأنت ترى هؤلاء الأبطال أنك في فيلم طويل، فيلم سيترك بك أثراً عميقاً، لكنك لن تصدق المخرج حين يقول لك إنه بُني على أحداث حقيقية.
من هؤلاء الحقيقيين الخياليين كان مريد البرغوثي، حين قرأتُ له أول مرة ذهبت أتحسس الخبر، هل ما زال الرجل حيّاً؟ لم أدرك محمود درويش، ومات ناجي العلي قبل أن أولَد، ورحل غسان كنفاني بينما كان أبي طفلاً في الثالثة من عمره، لم أعايش حياةَ أحد هؤلاء الذين تكتَب قصائدهم على الجدران، ولم أحضُر حياة بطلٍ من قبل، ولم أرَ تعليقاته ولا نصوصه المباشرة. كنتُ قارئاً شغوفاً بموتى، كنتُ محبّاً مفتوناً براحلين، هل بقي منهم أحد؟ الإجابة كانت: "تبقى واحد فقط"، وكان ذلك الواحد هو مريد البرغوثي.
على مكتبي، أو مكتب الغرفة التي أتقاسمها مع صديقي في شقة شباب يسكنها ثمانية غرباء في آنٍ واحد، كان مريد البرغوثي حاضراً، بصورته وصوته وروحه، كنتُ معه في دير غسانة حين وُلد، وسافرتُ معه إلى عمان قاصداً القاهرة، ابتسمتُ حين دخلتها معه وأنا قد تركتها للتوّ قبل أشهر، وأُبعدت معه، ووجدته نذيرَ شؤم أن الإبعاد طال سبعة عشر عاماً، قلتُ متى يستطيع مريد العودة؟ ومتى أستطيع أنا؟
كان كتابه "رأيتُ رامَ الله" صديقي الوفيّ، الذي عشتُ معه ليلةً واحدةً، وافترقنا وما افترقنا، فكان أنيس الغربة التي رآني فيها منذ البداية، كان يحكي لي حكاية المجرّب للمبتدئ، حكاية الإنسان الذي عاش طوال حياته متغرّباً بعيدًا، للإنسان الذي يخشى المصير ذاته، لكنني حين بكيتُ وأنا أقرأ اطمأننتُ أن طول الأمد لا يقتل الغصة، وأنا لستُ ممن يحبون أن تزول غصة غربتهم ولو ماتوا فيها بعد خمسين عاماً.
طمأنّني عمي مريد من حيث لا يحتسب، قلتُ ياااه، كل هذا الوقت ولم تتبلد يا رجل؟ كل هذا الوقت وما زلتَ قادراً على البكاء؟ ما زال قلبُك تواقاً مشتعلاً؟ ما زالت النار تأكل جلدك المكرمش؟ كيف تعيش بذلك الورم منذ عقود؟ إما أن تموت أو يموت، أما أن تعيشا معاً فذلك شيء مخيف، وذلك شيء مطَمئِن، مخيفٌ لأنني أخاف أن أظل للأبد غريبًا، ومطمئنٌ لأنني لن أنسى طوال غربتي أنني غريب. الشعورُ بأنك مواطنٌ في غير وطنك أمر مثيرٌ للقلق.
من هنا عرفتُ مريداً، كان بالنسبة لي صاحب مقهى، بشعره الأبيض الكثيف على جانبي رأسه، وبملامحه الصريحة، أجلس عنده، أسحب كرسيّاً ويظل يحكي لي عن الغربة التي تجرّع أشد كؤوسها مرارة، خصوصاً حين تكون الغربة عن بلادٍ أتيت إليها مغترباً، فتتغرب مجدداً "مِن بره بره"، لتشعر بالوطن يبتعد أكثر فأكثر، وهناك على مرمى حجَرٍ ترى زوجتك الشابة الصغيرة، بين يديها رضيعكما، وأنت ذاهبٌ بعيدًا، إلى أين؟ لا تعلم، كل المعلومات المتوفرة أنها غربةٌ أخرى.
أعود لما قبل الغربةِ الثانية فأتخيله واقفاً على سلم كلية الآداب بجامعة القاهرة، يلقي قصيدته بلسانه العربي الفصيح، على زملائه الذين يحبون فيه فلسطينيته أكثر من شاعريته، ومن الطلاب طالبة تمر بتلك الندوة المقامة "على الواقف"، فتخطفها كلمات الطالب الفلسطيني الشاعر، كان وسيماً بشعرٍ مرتب مفروقٍ من الجانب، وكانت مختلفةً بشعرها القصير وضحكتها الخجولة وفستانها البسيط، فيما بعد صارا "مريد ورضوى"، تلك الثنائية التي لم تنفصل من اليوم الذي ارتبطا فيه، لا فيما بينهما ولا في عقولنا، كان الشيء المختلف في تلك العلاقة، أننا جميعاً كنا المأذون والشهود والمعازيم، وكانت بصمة كل منهما في كتب الكتاب، على صدورنا، وكان كل ما كتباه حتى النفَس الأخير، صيغةَ العقد.
عرفنا رضوى بعيوننا، بين سطورها وكلامها وسردها، لكننا عرفناها من الداخل بعيني مريد، ذلك الرجل الذي سكنَ في أوردتها، فتحت له فؤادها، دخل، وأغلقه وراءه، وقضى عمره يصِف لنا كيف تبدو هذه السيدة من الداخل. يصف لنا ضحكتها، ويقص علينا حكايتها، ويلقي معنا قصائده لها، فكان يصحبنا متكرّماً علينا إلى قصة حب خالدة، من "بتاعة زمان".
وبينما كنتُ أقرأ للسيدة رضوى عاشور، كنتُ أتخيلها في صورةٍ خاصة، أراها جالسة إلى مكتبها، وعلى الضفة الأخرى منه مريد، تكتب وتقرأ له، يثني عليها فتكمل، تنهي فصلاً فيتفحصه، يراهن بأن الرواية "هتكسر الدنيا"، تراودها لحظات اكتئاب ما قبل الولادة، فيعطيها كفه تعضّ عليها بالنواجذ حتى يقيَها الصراخ ويشاركها آلام الوضع، يقنعها بأن رأس المولود خرج إلى الدنيا، حزقَتين ويخرج كاملاً، طلقة أخرى ويكون لديهما ولدٌ جديد، تلِد رضوى لنا غرناطة، وكنتُ أحسب أن المدنَ هي التي تلد بشراً، حتى رأيتُ رضوى فعرفتُ كيف لامرأة أن تلد مدينة، أن تبعث مكاناً وزماناً وبشراً من جديد. وتلد لنا رضوى فرَجاً وأطيافاً والكثير من المدن والأشخاص، ولادةً لن تشك للحظةٍ في أنها ليست حقيقية، كل هذه السطور لم تأتِ عبر القلم، وإنما بطلَقات الولادة، دون نقصان، كل طلقةٍ تنطح الأخرى.
كان مريد بطلَ العمليات جميعها، يجفف عن وجهها سيول العرَق، ويرفع عن عينيها خصلاتها، ويشد فوق يديها، يراها تبكي فيقول: "عودي يا ضحكتها عودي"، يشعر بها تتألم فيحتضنها، يعينها على ولادةٍ أخرى بعد سنوات، لا بأس، لا يجب أن ينتهي الأولاد. كان الإبعادُ مانعاً من أن ينجبا لتميم أخاً أو أختًا، لن يتحملا مشقة أن تنبت وردةٌ أخرى بينهما دون أن يرياها بعيونهما معاً، فاختارا أن ينجبا أولاداً آخرين، قادرين على إزعاج السلطات، لهم صفات الثائرين وحناجرهم، وفيهم عبَق يخطف النوم من مضاجع الرتَب.
حتى ماتت رضوى، فرأينا ذلك الرجل الكبير، هذا الجبل الصامد، مكباً على وجهه، يغمس رأسه في الخشب يريد أن يخترق نعش رضوى إلى صدر رضوى، لكنها ماتت، والخبرُ نزل في الجرائد، وقد صلوا عليها الجنازة للتوّ، عودتها أملٌ ساذج، لكنه لم يكن يمانع أن يكون ساذجاً حتى اللحظة الأخيرة من حياته، يقول لها في كل ليلةٍ: "عودي يا ضحكتها عودي"، كأن حدث موتها برمته ليس إلا "تكشيرةً" منها، يرجوها أن تفكّها.
يذهب مريد ومعه روح رضوى، الليلة سريرها مختلف، لكن روحها كما هي يقظة حتى الفجر، يشعر بأنفاسها على وسادتهما، كعادتها، دافئة لم تتغير، ويقرص جلده حتى يفيق من الكابوس الذي يصوّر له رضوى نائمةً وحدها في سرير بعيد بمقابر القطامية، والعجيب أنه يفيق من الكابوس، فيراها نائمةً إلى جواره، لم ينقص منها شيء.
وعلى ذلك السرير ظل مريد ممدداً، ينظر إلى رضوى حيناً، ويقرأ كتاباً حينًا، ويكتب كتاباً حيناً، ويتلو عليها قصائده، يغنيها لها بصوته الذي لا يتحمله غيرها، يرفع خصلات شعرها عن عينيها كما تعوّد، يقبلها فوق جفنيها، يعود للكتاب الذي بين يديه، والكتاب "أثقل من رضوى"، يتأمل سطوره مبتسماً، يحسد نفسه على نومه بجوار معجزة.
يشد مريد الغطاء فوق جسم رضوى جيداً، ويشده فوق قدميه، وما زال "سرسوب هواء" يتسرب إلى السرير فيشعره بالبرد، يشد الغطاء أكثر، لكن سرسوب الهواء يتسع، يخشى على رضوى من البرد لكنها دافئة كأن البرد يستثنيها من الغرفة، يشد الغطاء أكثر، يضع الكتاب جانباً ويلجأ إلى حضن رضوى، يأوي إلى الكهف الذي عاش فيه طوال عمره، يشعر بالدفء يسيطر على الأمور من جديد، يطفئ الأباجورة، يقبل خدّ رضوى، ويلقي بأنفاسه على حضنها، فيخلد لنومٍ طويل.
"السمكة حتى وهي في شباك الصيادين.. ستظل تحمل رائحة البحر"، كانت هذه أكثر ما علِق بذهني من كلمات عمي مريد في "رأيت رام الله"، متحدثاً عن ثنائية الوطن والغربة، وإنني منذ قرأتها محتفظ بها في صدري، لكنني اليوم أجدها بمعنى مختلف، حين نام قائلها، وهي أن هؤلاء الأبطال مهما ناموا، مهما غادروا غرفَنا إلى غرف أخرى، مهما مضوا من وادٍ إلى وادٍ، يظلون يحملون رائحة الحياة، تلك التي ينتمون إليها بكل حواسهم.
نامت رضوى منذ ست سنوات، وكان مريد منذ ذلك الحين مفنجل العينين يقظاً، يفكر بهديةٍ لرضوى حين تصحو، وكان لا يؤمن بعيد الحب، لكنه قدَراً رُتب له أن يقابلها في ذلك اليوم، ولم يجد بجواره شيئاً يصلح لأن يُهدَى، لا وطناً ولا تأشيرة سفر، بحث بجيوبه لم يجد إلا مفتاح بيتهما، وبقية حياته، فوضع المفتاح على الكومودينو بجوار الأباجورة، أغمض عينيه، انزلق في السرير بجوارها، ومضى إليها يهديها بقية حياته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.