تقول أمي: "ثَمة غُرف مغلقة داخل النساء كافةً، مَطبخ للحُب، غُرفة نَومٍ للحُزن وحَمّامٌ للامبالاة..
يأتي الرجال أحياناً بالمفاتيح ويأتي الرجال أحياناً بالمطارق" – ورسان شاير
مساكين الذين لم يُحبِّوا، أكثر منهم مَسكَنةً الذين لم يُحَبَّوا، وكلها أشياء خارجة عن الإرادة. لأن الحب ليس قراراً، نحن لا نتحدث هنا عن وظيفة أو لون فستان ولسنا في لجنة تحكيم لأحد برامج الطبخ. الحب شيء نقع فيه لا نخطط له ولا نتعمده، فكل نفس بشرية تطمح للحب وتسعى له، بل إن علماء النفس فسروا معظم تصرفات البشر الاجتماعية بأنها نداء للحب والاهتمام، وبالتالي من لم يحب على الإطلاق لم يفعل هذا لأنها مسابقة، بل لأن الحظ لم يواتيه، وطوبى لمن عرفوا الحب مِراراً، إنه أجمل خطأ يمكن تكراره، وأجدر صواب باليقين والثقة.
لكن، هل سيأتي اليوم الذي يُدرك فيه الإنسان:
أن كل ما يحدث صُدفة يُسمى "إعجاباً" ليس كما نُسميه خطأ "حُب من أول نظرة" فقط لأننا نعاني من جفاف عاطفي، أمّا ما يحدث بإرادتك فهو ما يُسمي "حُباً"؟
وأننا لسنا في زمن تحدث فيه المعجزات لأجل الحب ومهما احترزت في اختيارك لن تستطيع تقدير نتائج العلاقة، فقد تكون النتيجة مُرضية جداً وقد تكون مخيفة جداً، وهذا لن يعرفه ما لم يخضه.
وأن لا أحد يتخلى عن الأشياء التي يتوق إليها وطال انتظاره لها إلا بعدما جرحه الحفاظ عليها فقرر أن يزهد فيها كي لا يعضه الندم طويلاً!
وأن العلاقة إن انتهت سريعاً وحُكم عليها بالفشل لا يجب أن يتسرع في لوم الآخر، بل يقول لنفسه لو كنت أنا الشخص المناسب في ذلك الحب لما انتهت تلك القصة بهذه السرعة؟
وأن قرار البدء في علاقة من جديد لا بد أن تحكمه قاعدتان كي ينجح، الأولى "لا أحد يأخذ مكان أحد" والثانية "لا بد أن تتوقف تماماً عن المقارنات".
وأن قرار الحب يُبنى على المعرفة وهذا ما يجعله فعلاً إرادياً تاماً، تعرف الشخص أولاً ومِن ثَم تحبه، فإرادة الحب غامضة، عادة نحن لا نشعر بها، تعمل مثلما يعمل العقل الباطن بطريقة متوارية ولكنها مفصلية في الشعور، فلا حب بدون إرادة وقرار.
وأن مَن يُحِبه سيتمكن يوماً ما من تجاوزه، وأن الحب يبقى ويصمد كلما غذاه الطرفان وأنه يموت إذا امتنع أحدهما أو كلاهما.
وأن شخصاً ما في هذا الوجود سوف يعرفك، سوف يميزك من آلاف الوجوه، سيطرق بابك لا ليسرقك مِن ذاتك، بل ليُدلّلها. ليكون هو الهاجس والطيف والإلهام الذي يراقبك ويمنحك القوة والإصرار والحس والعمق والمعنى. سوف يثق بروحك وقلبك، أن تتسامى به وفيه عن حياة قليلة وأحلام بسيطة إلى حياة لا تدرك من أين تمشي لها وكيف تحبس أنفاسك وأنت تلاحقها، وتصير غاياتك كلها حياة بوسع قلبك الذي تحبه فيه. وأن العشق الذي لا يجعلك متسامياً لهو مجرد إعجاب مادي قصير الرؤية والروح وأنت بدورك ستنضج مع الحُب.
وأنه لا يمكن لعلاقة قوامها الحب فقط أن تنجح وأننا بحاجة إلى مَن يفهمنا أضعاف حاجتنا لمَن يحبنا فحسب.
هل مِن المُمكن يا الله؟
عليك أن تخسر ما تحبه كي لا تخاف من الخسارة بعد
حين تحب أحداً ثم يزهد فيك فهذا يعني أنك توقفت عن كونك كل ما يريده، توقفت عن إبهاره، ولم تعد جذّاباً كفاية، قد يحدث هذا من التعوّد، وقد يحدث بسبب ظروف عصيبة يمر بها أحد الطرفين، الأسباب كثيرة، عندما يكون الحب كبيراً ينجو، وعندما لا ينجو فهذا يعني أن طرفاً ما نزع يده من الآخر. وما إن يحدث ذلك إلاّ وتخوّفك من خيبات أخرى يزداد وهذا طبيعي. فكل ما يؤلم يوجب الحذر، ولكن الأشد ألماً والذي قد ندركه في وقت متأخر جداً هو تضييع العمر والقلب في أنصاف الحلول وأنصاف الحياة وأنصاف الحب، لا ترضى بأن تكون الشخص الذي في كل مرّة عليه أن يسد الثغرات من أجل عدم الخسارة، أحياناً يتعين عليك أن تخسر ما تحبه كي لا تخاف الخسارة بعد، سوف تربح نفسك كاملة ومتطلبة وأكثر خبرة ودراية.
التجاوز نسبي ولا يمكن إجبار أنفسنا عليه
إن انتهت القصة سيتطلب الأمر بعضاً من الحكمة لتجاوزها. التجاوز يأخذ وقته ومجراه الطبيعي في كل إنسان، ولا يمكن إجبار أنفسنا عليه، كل حب ينتهي بطريقة ووقت مختلف حسب طبيعة هذا الحب ومدى رؤيتنا وتصوّرنا للمحبوب، فقد نكون نحب أحداً ما لكننا لا نحترمه كفاية ونعتقد أن به الكثير من العيوب، وهذا يسهل نسيانه، أما الرائعون تماماً أولئك الذين يملكون جمالاً وفرادة، فغالباً نأخذ في نسيانهم وقتاً طويلاً، فأهم شيء في التجاوز طريقتنا في التفكير في الآخر، فالتجاوز نسبي جداً، ويختلف من إنسان لآخر ولا يمكن تعليمه ولا الإرشاد إليه.
الحب حَرَكة والخلو منه جمود
أخيراً.. الحُب في زمن الكورونا مثله في كل الأزمنة؛ عاجل وضروري كنداء استغاثة، رائع وسحري مثل شخص وحيد يلمع ويتوهج وسط حشود مظلمة وبلا نهاية، مهدّئ ومريح كأيادي الأمهات على جباه محمومة، مهم وأساسي كوثيقة استقلال.
إن الحُب يقترف نفسه ولا أحد يصنع حُباً بيديه، إنه اختبار حيّ ومستمر لوجودك في هذا الآخر، يجعلك منتبهاً ومتيّقظا دوماً، تقسو عليه لأنك تريده، وتحنو عليه لأنه فيك، وتبتعد عنه لأنه معك، وتعود إليه لأنك له.
الحب هو عيش الحياة بوعي مضاعف، وعيٌ متنبئ وشكّاك ومُستهام ومنهك ومقاوم. الحب هو أن تتعب دون أن تستسلم، وأن تمرض دون أن تنكسر وأن تضع الماضي كله في جيبك كورقة قديمة لتسلم عليه، أن تحب عينه اليمنى وحدها واليسرى وحدها، إنه السؤال الكبير الذي لا يبحث عن إجابة، بل يشق طريقه ويبتلع كل الإجابات البديهية يبصقها في جوانب الطريق ويمضي.. يمضي بسرعة كحريق فاتن، فالحُب حركة والخلو منه جمود.
دمتم بحب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.