قصة الحب في ديار الخذلان‎

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/13 الساعة 10:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/13 الساعة 11:14 بتوقيت غرينتش

تجولتُ في ديار الخذلان فوجدت الحب منزوياً عابساً يشكو ظلم البشر، يلفظ أنفاسَه الأخيرةَ ويُحتضر. اصطدمتُ به دون قصد فكلّفني أن أوصل هذه الأمانة، وأدافع عنه حتى آخر رمق.

قال لي: إنني تعبتُ من ظلمِ الأنام.. تعبت من سوء استخدامي، ومن الافتراء عليَّ، وتشويه معالمي. يقولون عني عذاب، ونار وارتياب. يقولون إنني أعمى، ويتهمونني بالضعفِ والعجز والوهم والسراب. هم لا يعرفونني ويخلطون دوماً بيني وبين أشباهي، ومن يحاولون ارتداء لباسي، واستعارة أوصافي.

لا يميزون بيني وبين من يحاولون تقليدي حتى يُذاع صيتهم، ويشتهر. لكنني بريء من كل التهم، بريء من الغش والاحتيال والكذب. بريء من التصنع، والتلون، والتسلط، وإلحاق الأذى والضجر.

يتغنون بي في كل وقت، طفلهم قبل كبيرهم، يحفظون اسمي عن ظهر غيب..

يسارعون في إظهار اعتناقي؛ ليصطادوا القلوب، ويعيثوا فيها الخراب، ثم يهجروا، ويسببوا لي اللعن والكدر. يقولون عني إنني ضرورةٌ واحتياج فيوزعونني في طرودٍ على كل عابر، فتربح على أكتافي المتاجر، وتنثر باسمي الشموع والورود، على أيدي من لا يزالون بمهد المشاعر نائمين، وعن الأخلاق صائمين. على أيدي ذئاب البشر ممن على القلوب يتطفلون، وعلى نزف جراحِهم يعيشون.

يتنقلون من زهرةٍ إلى زهرة بسرعة البرق، يسرقون شذاها ويرحلون. يحفظون كلاماً جميلاً منمقاً وأشعاراً، وفي كل عملية سطوٍ على  قلب ذات اللحن يرددون. أصابوني بالحمى والمرض وأقعدوني طريح الألم، من كثرة ما باسمي يتلاعبون. أنا واسعٌ وفضفاض لا أنشأ فقط بين أنثى وذكر. فحبُّ الذات أولاً ضرورة حتى لا يُلحق صاحبها بها الضرر، وحبها بمعرفة احتياجها يكون، وعدم إلحاق الضرر بالآخرين حتى مثله لا ينالُها.

حبها الحقيقي يدفع صاحبها للعطاء ليسعدها، ويغذيها بالخير والأمل، فمن لا يعرف كيف يحب ذاته ويقدرها بالمعقول كيف سيحب غيره ويصون!

أنا لي أركانٌ وشروط ولا آتي على عجل، فالجنين ينمو بأحشاء أمه تسعة أشهر حتى يكتملَ نصابُ حبه في قلبها، فكيف أولد أنا في طرفة عين، أو ما بين زر إعجابٍ وحظر!

أنا أولد بالمواقف وعِشرة الأيام والسنين، بفضلي يغضُّ الطرف عن العيوب، وتتحول إلى ميزات. أُعَمقُّ الأواصرَ ما بين القلوب، وأحطم الحقد والضغينة، وأقضي على ما في المجتمع من آفات. باسمي تُبرمُ المواثيقُ المغلظة، وتقام البيوت، ولا تهدم أبداً إن كانت مدَّعمة بيَ الأساسات.

وحب الوطن فرضُ عين وواجب، وكرامة ولولاي أنى يكون!

أنا إن ولدتُ لا أدفنُ أبداً، أنمو ولا أتحور. أنا تماماً كعلاقة الأم بالولد مهما جفا أو قسى عليها لا تفتر أو تتبدل. لا يصبح روادي الحقيقيون أبداً أعداء، وإن تفارقت دروبهم يصونوا الود، ويبقوا له أوفياء. أما ما يولد ما بين الصباح والمساء فأنا منه براء، كما ما يولِّد الضغينة والأحقاد بين القلوب.

الحب عصيٌّ على النسيان، يكفر بالعبث والخراب، ولا يعرف الكتمان.

أنا كتابٌ مفتوح، واضحٌ وصريح، لا أنمو بالخفاء، ولا أتسلق في العلن سلالم الرثاء.

أطرق أبوابَ الناس جميعهم فمنهم من يرحب بي ويتشبث، ومنهم من يطردني، ومنهم من يفتح لي على استحياء. أنا بينكم لن أعود حتى أبصر صفاء القلوب؛  لأعود بين الأهل والخلان، والإنسانية جمعاء. أسيطر عليهم وأسخرهم لخير الخطوب. أما بين العاشقين فلا أؤمن أبداً بالتعددية، والتفرع والاستنساخ، ولا أنصاف المشاعر وأنصاف العشاق. إما أن أكون الكل أو لا أكون. يقتلني الشكُّ والظنون، وتحييني الثقة والوضوح. منهجي التوحد في المحبوب، وبه الاكتفاء.

أنا كلما وجدتُ باسمي خيانةً أنسحب، أبكي بعيداً وأنتحب.

أنتظر أن يعود الصواب لأجد لي أي مكان..

لا يهمني العيش في القصور ولا الجواهر والمال فأنا أسكن القلوب التي يُجملها الحنان، ولا أمنح عضويتي إلا على أساسِ الصدق والإيمان.

وما سوى ذلك أنا لست مسؤولاً عنهم من قريب ولا من بعيد، ولا عما يرتكبونه من حماقات. فأنا ما يريح القلوب ليس ما يتعبها، وما يمنح معنى للحياة لا يُفقدها. من سكن دياري فهو آمن، ومن تلاعب بي، واستغل اسمي، وانتحل شخصيتي فهو آثم.

أنا كالدين لا إكراهَ فيه، من دخل فيه من أبنائي البارين يعيش في نعيم مقيم، 

أما الجاحدين مبارك عليهم جحيمٌ من قلق وأرق، وتصفية حسابٍ للقدر لا يدرون متى يكون. فالعبث بالقلوب جريمةٌ لا تغتفر، تستوجب التوبة النصوح، وقد أعذر من أنذر، فاسمعوا قولي جيداً، والسلام على من عقل منكم وتدبر.

وفي رعاية خالقي أترككم فهو الحب الثابت الأكبر.

ها أنا قد أبلغتكم رسالة الحب، اللهم فاشهد.

فأطيعوا أمره، وأدوا حقه حتى يعود لديارنا وبه نسعد.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

وجدان شتيوي
كاتبة رأي فلسطينية
كاتبة في العديد من المواقع الإلكترونية مثل دنيا الرأي، ومجلة هاشتاغ وإشراقات، والمجلات الورقية مثل مجلة فلسطين الشباب، ومشارِكة في العديد من الكتب المشتركة الصادرة عن دار زهدي للنشر مثل ساعة الرمل وشؤون صغيرة وذاكرة الخريف وألف كاتب ولاجئ. عملْتُ سابقاً مدرسة للغة الإنجليزية في معاهد تدريسية، وباحثة في جهاز الإحصاء الفلسطيني، وأعمل حالياً مديرة مركز تعليمي.
تحميل المزيد