إن مُحاولة إدخال اللغة العامية إلى المقررات الدراسية في المغرب أو في العالم العربي عامة، هي محاولة تُحاول تسطيح العقل الإنساني بجعله مجرد متلقّ سلبي، لا يستطيع نقد التصورات والمقررات الدراسية المطروحة على مسامعه.
إننا في عصر آلي، يحاول ميكنة العقل البشري. استراتيجية لتحويل الإنسان إلى مجرد آلة يمتلك ذكاء آلياً، لا يتجاوز تفكيره الواقع الآني، إلى المستقبل، الذي يعني التحرر من الظروف والقيود ويفتح آفاقاً وإمكانيات لا يتصورها العقل الآلي. لن أستمر في سرد ودحض مثل تلك المقترحات بدون أن أطرح تحليلي المنطقي لخطورة إدخال العامية إلى المقرر الدراسي، ليس في المغرب فقط وإنما في أي مكان أينما وُجد.
ما هي العامية؟
لا يستطيع الإنسان أن يفكر أو أن يتبع أنماط تفكير معينة أو أن يخلق تصورات عن الحياة داخل المجتمع دون أن يكون هناك نوع من التواصل المفهوم بين مكونات المجتمع. لهذا تُشكل اللغة نقطة مهمة في بناء المجتمع واستمراريته. فلا يمكن أن نُهمل الأهمية التي تتخذها اللغة في المجتمع الحالي والتاريخي والمستقبلي، وإنما يجب التركيز عليها لفهم مجموعة من الظواهر التي تعجز بعض التحليلات الكلاسيكية عن سبر أغوارها.
إن اللغة ليست ثابتة في الزمان كما ليست كذلك في المكان، فهي كائن تاريخي يتطور بتطور المجتمع وتغيره. فالمصطلحات قد تعني شيئاً الآن ومع مرور الوقت قد تعني شيئًا آخر. على سبيل المثال، فالقرصنة التي نقصدها الآن ليست هي القرصنة التي كانت متداولة باعتبارها مصطلحاً في القرن الخامس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. وكلمة الأيديولوجيا التي قصدها نابليون ليست هي التي قصدها كارل ماركس ولا لينين ولا التي نقصدها نحن الآن.
ليس هذا فقط بل إن اللغة تأخذ أشكالاً في البناء الاجتماعي، فاللغة المتداولة في الأحياء الشعبية ليست هي اللغة المتداولة في الأحياء البورجوازية ولا هي اللغة المتداولة بين الفنيين أو بين المثقفين. ولا أعني هنا الاختلاف بين أنواع اللغات، فلا أقصد أن الأحياء الشعبية تتحدث اللغة العربية، بينما البورجوازية تتحدث الفرنسية. وإنما المقصود هو الاختلاف في البناء اللغوي وفي تنوع المصطلحات واختلاف الدلالات.
فالعامية المنتشرة بين العامة هي لغة دالة على الواقع وعلى المحسوس الممكن الحصول عليه، ومصطلحاتها المستعملة هي مصطلحات مادية بكثرة ولا تأخذ سوى دلالة وظيفية ونفعية بعيداً عن أي تصور بعدي. لهذا يكون بناؤها محسوسًا لا يتجرد عن الواقع. فمثلًا مصطلح السيارة في تعريف العامية هي وسيلة تنقل، تتحرك أفضل من وسائل النقل الأخرى، بينما التعريف الفني يُعرفها على أنها آلة تحتوي على أجزاء ميكانيكية ترتبط فيما بينها بشكل آلي تحتاج لطاقة معينة لكي تقوم بتحريك المحرك الذي بدوره يقوم عبر ترابط ميكانيكي بتحريك العجلات.
بالفعل، العامية لا يهمها هذا التحليل الفني، فما يهمها هو أن تعريفها يدل على شيء نراه بأعيننا ونستعمله في حياتنا اليومية، دون أن تتجاوز بالتعبير إلى ما بعد الواقع. وبعد هذا الطرح الوصفي للعامية، فإنني سأطرح هنا مجموع من النقاط الهامة التي تؤكد بأن العامية خطيرة إن تم تدريسها.
الابتعاد عن المفاهيم الإنسانية
إن العامية لا تحاول -كما قلنا- الخوض في المفاهيم البعيدة عن الواقع، والتي لا تأخذ دلالات واقعية نفعية، لا يمكنها أن تستوعب المفاهيم الإنسانية من نوع الكرامة والحرية والإنسانية… فتلك المصطلحات لا تدل على شيء يُرى ويُسمع ويُحس ويُشعر به، إنها هي مفاهيم مجردة، لا يمكن فهمها بالمصطلحات العامية. فالبناء اللغوي الذي تأخذه العامية، والذي يُسيطر على العقول الجماهيرية، لا يعطي فرصة لفهم تلك المفاهيم في عمقها، وهذا ما يُعتبر عائقًا أمام تحصيل العلم والمعرفة، ويمنع الفرد من استيعاب المفاهيم الإنسانية المهمة في الحياة البشرية حتى يُمكن الحصول عليها.
فالكرامة مثلاً، تعني القيمة التي يشعر بها الإنسان حين يُدرك ذاته بوصفه ذاتًا مُفكرة، تختار وتُقرر وتتحمل المسؤولية. إن هذا التعريف لا يمكن للّغة العامية أن تفهمه، فهو لا يحمل أية دلالة نفعية أو وظيفية أو واقعية، وإنما يتجرد من الواقع ويتصور الكرامة دون قيود مجتمعية. لهذا فإن العقل الذي يستحوذ عليه الدلالات النفعية والواقعية لا يمكنه أن يستوعب مثل هذا المفهوم، الذي يعني الكثير في الحياة الإنسانية. فإن لم يدرك الفرد معناها فإنه لن يشعر بوجودها، وإن لم يشعر بوجودها فلن يُحاول للحصول عليه.
البلادة العلمية
لا يمكن للّغة العامية أن تتحرر من الواقع لتصنع مصطلحات غير مادية تسمو على التجسيد والتشيُّو، فالعقل العامي يحصر نفسه فيما يقع تحت إحساسه وجوارحه، ويُكَوِّن حول مكوناته مصطلحات تدل عليها. وما لا يقع في مجال إحساسه لا يهمه. فمثلاً مفهوم السبب والنتيجة، لا يمكن للعقل العامي أن يتصورهما بدون تشييئهما، فهو يعتبر مثلاً أن السبب هو النار، والنتيجة هو تبخر الماء، وهذا التشيؤ هو الذي يجعل العقل العامي لا يستطيع تصور قانون علمي محض.
فالقانون العلمي يحتاج إلى تجرد عن الواقع والابتعاد عن البناء العامي اللغوي، والتسلح ببناء لغوي علمي من أجل صياغته في قوانين علمية محكمة. فمثلاً القانون الثاني لنيوتن ما كان سيُصاغ لو لم يتخلص عقل نيوتن من البناء العامي اللغوي ويتبنى البناء العلمي اللغوي.
بل أكثر من هذا فإن اللغة العامية تخلط بين المصطلحات ولا تعطيها تدقيقاً، لأنها تعتمد على تعريف دال نفعي ووظيفي، فلا يهمها إن كانت تمزج بين المصطلحات دون حصحصتها. فما دام أن اللذين يتحدثان حين يلمحان إلى مصطلح ما ويفهمانه، فلا يُهم ما يعني في عُمقه. فمثلا في المغرب حين يريد أحد ما شراء السمك فإنه يسأل البائع عن الحوت قائلا "كم الحوت؟"، وهذا خلط علمي فادح، فالسمك حيوان بيوض والحوت حيوان ثديي. فإن أردت أن تُصحح هذا الخطأ فإنك ستتعرض للسخرية، لكن العاملة لا تهتم بهذا الفرق، ما دام يفهم البائع المقصود من الكلمة.
هذا يجعل العقل العامي محدودًا في تصوره، وهذا الحد في التصور يؤدي إلى نقص في التحليل والتركيب والتقييم، مما يُعطينا فردًا محدود الإبداع.
الخطاب العاطفي
إن العقل الذي يتبنى العامية له قابلية غريبة ليُصدق أي خطاب كيفما كان، لأنه غير مُسلح بالمصطلحات التي تُمكنه من تحليل الخطاب ونقده، وإعطائه تقييمًا عقليًّا. إن الخطاب الشوفيني أو الدوغمائي، المشحون بتعبيرات حماسية وعاطفية، ويستعمل مصطلحات انفعالية جد دالة، تخترق الصدور العامية بسهولة. هناك علاقة بين التعبير العامي والخطاب الانفعالي، وحلقة الوصل بينهما هو البناء اللغوي العامي، الذي يجد صيغته فيما هو نفعي ودال ولحظي. فالمتلقي المغموس في هذا البناء اللغوي حين يتعرض لهذا الخطاب، يُصبح مسجونًا داخله، وذلك بسبب المصطلحات العامية التي تُغذي عقله، دون وجود مصطلحات جدلية ونقدية تُخرجه من هذا السجن. فهو لا يأبه بما سيحدث، ولكن حين يتحدث الخطاب عما سيحدث، فإنه يُصدقه بدون تردد.
وفي الأخير، فإن البناء اللغوي العامي جد خطير إن لم يتم تجاوزه لتبني بناء لغوي نقدي غني بالمصطلحات المجردة التي تُغذي التحليل والتفسير وتستطيع أن تُعطي تقييمًا منطقيًا أو علميًا لأي سلوك ولأي موقف، دون أن تقع فريسة لمشاعر وانفعالات آنية، ساذجة في أغلب الأحيان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.