إنّ وعي الإنسان مرتبط بتساؤله عن وجوده المفرد وعن الوجود المطلق وعن الوطن. يقول هيدغر: "الإنسان كائن، وهو باعتباره كذلك، له مكانة في كلّيّة الكينونة كالحجر والشّجرة والنّسر" بذلك يصبحُ سعيُ الكاتبِ التّعبيرَ عن وجوده في مسالك معيّنة، اختياراً واعياً مرتبطاً بمحاولة الإعلان الحرّ عن الذّات، كما بمحاولة تفسير ارتباطه بالأرض وبالحياة عموماً التي هي الكينونة الكبرى وفيها تتوالد وتموت الذّوات الفرديّة كلّها. من هنا تصبح محاولات بعض الكتّاب ربط أعمالهم الأدبيّة بكلّ ما في الوطن، محاولاتٍ واعية للتّجذّر والانتماء والتّملّك ما يعطيها الأحقيّة التاريخيّة.
ارتبطت أعمال روائيّة بالنّباتات، منها رواية ألبيرتو كامو الإيطاليّ "اسم الوردة" التي صدرت عام 1980 بالإيطاليّة ثمّ ترجمت إلى لغات عديدة وتحوّلت إلى فيلم عام 1986. ورواية آن ميثر "دموع الورد" الصّادرة عام 2008. وفي اللغة العربيّة هناك رواية مروة عبيد "أيّام الزّهور" وكتاب محمود درويش "كزهر اللوز أو أبعد" ولا ننسَ رواية أحمد خالد توفيق "أسطورة النّبات" وهي " الرّواية رقم 15 من سلسلة ما وراء الطّبيعة التي تصدرها المؤسّسة العربيّة الحديثة ضمن روايات مصريّة للجيب للكاتب أحمد خالد توفيق تعد السّلسلة أول سلسلة روايات عربيّة في أدب الرعب." السّؤال الذي تثيره مثل تلك العناوين أو المضامين في غيرها من الأعمال الأدبيّة هو: هل يمتلك الشّجر والعشب تلك الكينونة التي تسمح للكاتب بالتّعبير به عن قضاياه؟
في الجزء الثُاني من سيرته الذّاتيّة "سأكون بين اللّوز" يحاول حسين البرغوثي أن يؤصّل لوجوده كفلسطينيّ من خلال مقارنة مع وجود الإسرائيليّ في فلسطين، مازجاً بين ذاته وبين النّباتات المتأصّلة في أرضه، وفي رواية خالد حسيني "عدّاء الطّائرة الورقيّة" يقارن الكاتب بين وجوده كأفغانيّ ووجود طالبان في أفغانستان مستعيداً الكثير من المشاهد والأماكن التي ارتبط وجودها بوجود الشّجر في أفغانستان ما قبل طالبان.
في الدّير الجوّانيّ فوق الخرائب ينظر البرغوثي إلى مستعمرة تثير تساؤلاتٍ عن ذاكرة المكان المثقلة بالتّاريخ والفارغة منه في الوقت عينه، فهي بالنّسبة إلى الفلسطينيّ محمّلة بصوت الحكايات الشّعبيّة الغريبة كحكاية والدته عن الأفعى الزّعرة التي تطير فوق الجبال، بينما هي بالنّسبة إلى مستعمر جاء من روسيا أو إستونيا "لن يرى حتماً الأفعى التي تطير وتزغرد فوق الخرائب/ لن يلمس التّاريخ ولو كان عرّافاً… ولو كان إلهاً" تستفيق الذّاكرة في مقارنة لا تنفكّ تتوالد منها تساؤلات عن الحاضر المعيش، فيظهر الحقل المعجمي للطّبيعة وللنّفس ممزوجين معاً (الإنسان ظلّ خفيف ومقمر/ رفعت يدي مثل الشّجر العالي من هذا المرج الواسع، كي أبدو كزيتونة لا ككهف/ يعرف رائحة وطعم كلّ نبتة في الجبال/ عليّ لا يعرف إلّا البراري" ليعود شريط حياته إلى حيّز مكانيّ مرتبط بشجر اللوز الذي بدأ يزهر، وذاكرة بدأت تتساقط منها الذّكريات لشدّ ما تنسى "بين ظلال اللوز المقمرة/صرت أنسى بسبب العلاج الكيماويّ/ وكلّ لوزة عندي أنثى عارية في موسم حجّ وثنيّ.
حدّقت في هذه الفراشات مقتنعاً لسبب غامض، أنّها ولدت كي تقول لي سراً قديماً من أسراري الأولى" وتتوالى الذّكريات وتلتصق بالأرض وشجر اللوز، إذ يعرف أيّها يزهر أوّلًا "أمّا أنا فكنت أشعر بأنّ كلّ ورقة في الجنائن وكلّ نوارة بسوم صفراء وكلّ نملة ونحلة وحشرة في صباح دافئ ليس إلا ورقتي الأولى، فمصيري يولد والأرض ترسمه" تمتدّ الأرض في زيتها الذي هو امتداد زيتونها الذي هو امتداد الجبل "وإذا كان الزّيتون يمتدّ في زيته، فإنّ الجبل يمتدّ في زيتونه وهو ليس إلّا الكاتب نفسه متماهياً مع أرضه ونباتاتها "أسئلة الجبل عن نهاياتها الممتدة في نباتاته وغريرياته وغزلانه وأفاعيه وناسه/ لقد مرض الجبل بالسّرطان/ وسأسكن في أحلام هذا الجبل وسيحلم بي حتماً وسأحلمه/ لن يستطيع أحد ولا حتّى مستحضر أرواح أن يخرجني من حلم الجبل أو أن يخرجه من حلمي/ فليكن في أقصى روحي دير جوّاني ما وحكاية قدّورة بابه/ ذهني يشبه هذه القاعة ويحتاج أمكنة واسعة مقمرة ومفتوحة على درب النّباتات على المعمار الآهي نفسه/ أم أنّه العصف الذي تنحلّ فيه الرّوح والرّؤيا وتنحلّ فيه البلاد؟/ حتّى أنا نفسي بدوت إشاعة في أذن المكان أكثر منّي وجوداً صلباً/ سأنضج عمّا قريب، مع اللوز والرّمان والورد.
إنّ تتبّع النّغم المؤسّس للكتابة، يسمح لنا بفهم خلقِ الرّموز والدّلالات، لأنّ ذلك النّغم المُنشِئ لها هو الغاية نفسها، أي إنّ اللجوء إلى الشّجر والعشب إنّما بمثابة رمز لكينونة الكاتب نفسه وهو يتماهى مع كلّ حيّ في أرضه، حتّى وإن حمل في وجوده احتماليّة الموت، فهناك في النّبات دورة حياة لا تفنى… وهذا هو الإحساس العميق بمعنى الوطن.
قد لا نجد مقدار التّأصيل أو التّماهي نفسه في رواية حسيني، إلّا أنّ التصاق أسماء الشّجر في بعض المقاطع التي يتكلّم فيها بحنين يشعرنا أنّ ذلك لم يكن عبثياً، إنّما جاء في مسالك مُحكمة ليعبّر عن أصالة الأرض وانتمائها إلى أهلها، وهو بمعرفته تلك الأشجار والنّباتات، خاصّة لناحية ارتباط وجودها بالماضي حيث السّلام الذي يفتقر إليه الحاضر، يعبّر عن كلّ أفغانيّ أصيل كما عن أحقيّة أهلها بها وأحلامهم بزوال شبح طالبان من يومهم، يقول: "زرع بابا وعليّ حديقة صغيرة من الخضراوات: بندورة، نعناع، فلفل وصفّ من الذّرة/ على الطّرف الجنوبيّ من الحديقة في ظلال شجرة الإجاص كان بيت الخدم/ أنا أقطع شجيرات الورد باتّجاه قصر بابا/ هكذا أصبحت الشّجرة رسمياً ملكنا/ كنّا نتسلّق جذوعها أنا وحسّان ونسرق رمّاناتها الحمراء/ نجلس لساعات تحت تلك الشّجرة" ترتبط الذّاكرة بالشجر وبالوطن؛ إذ هو ملاذ أهله وملكهم الجماعيّ الذي فيه يمارسون الحرّيّة في العيش ببساطة، وحين يُسلب منهم تخونهم أشجارهم فلا تثمر ولا يبقى في الوطن أيّ مظهر للحياة ولا يعود للحرّيّة معنى ويتحوّل الفرد الباحث عن ذاته وطناً قاحلاً لا يقدّم لناسه سوى الموت "لقد أيبست موجات الجفاف التلّ ولم تعد الشجرة تثمر منذ سنوات/ أحلم أن تزهر زهور لولا في شوارع كابول من جديد/ كانت رؤية الأشجار ثانية أمراً طيّباً بعد تلك الرّحلة الشّاقة/ يزرع المزارعون قصب السّكر، فتعبق المدينة بالرّائحة الحلوة أغلقتُ عينيّ وبحثتُ عن الحلاوة. لم أجدها" في الماضي " كانت قمم الأشجار تلوح من جدران كلّ منزل" وكان الأفغان يحيون برضى. تكاد لا تخلو صفحة في الرّواية من ذكر اسم لشجرة فهناك النّسرين والزّنبق والرّمّان والتّين والعنب والكركديه والأكاسيا وأشجار اللهب. كأنّ ذاكرة الوطن هي ذاكرة الشّجر فيه.
يكثّف البرغوثي والحسيني الحاضر المتخبّط بوجود دخيل هو الإسرائيلي أو طالبان، في مقارنة مع الماضي الجميل، بهدف بعث الحياة في واقع منشغل بالموت، فيغدو توظيف الأشجار نوعاً من التّمسّك بالحياة عبر صيرورة كائن متجدّد أصيل وثابت، قد يلحقه اليباس أو الجفاف، لكنّ تاريخه قادر على العودُ الأبديّ، حيث يمكن لكلّ من يتماهى معه أن يكون كلّ تلك التّفاصيل الصّغيرة للوطن، أي إنّ توظيف الأشجار هو من باب" أنا وطني ووطني أشجاره وأشجار وطني أبديّة وهكذا أنا ووطني باقون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.