“عُض قلبي ولا تعض رغيفي” .. ماذا تعرف عن أصل هذه المقولة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/11 الساعة 06:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/11 الساعة 06:37 بتوقيت غرينتش

قال مواطن مجهول يوماً "عُض قلبي ولا تعض رغيفي"، معلناً عن استعداده للتعرض لخيبة أمل في علاقة عاطفية، عوضاً عن التعرض لضيق العيش أو الجوع، مكتفياً بكلمة "رغيف" الخبز لتصف كل ما يرمز لحاله المادي.

هو الخبز إذاً.. كفافنا اليومي من الزاد والصلاة لنحفظ قسطنا الضروري منه لنظل أحياء، وبخير.

ولكن لماذا يكون الخبز دوماً، مهما تبدّلت وتغيرت لغات ومواقع الطالبين؟ 

حينما يُهزم شخص في نزاع أياً ما كان كنهه، وتضيق به الأرض، يحن للخُبز.. لكسرة الدقيق المطهو القادرة على استجلاب شعور الأمن وحفظ القلب على صاحبه.

من عقود كان الخُبز آخر قشة تقصم ظهور الفقراء. وكان الزناد الذي يُنذِر ما أن يُمَسّ، على طوفان هادر، قد يخنع ويتقبل قومه شتى أشكال الظُلم، إلا أن يُنتهك حقه في لقمة منه.

لماذا الخبز إذن؟

قبل أكثر من ١٠ آلاف عام كانت أصول الخبز التاريخية. هذا التركيب المعقد/والسهل في آن، من الحبوب الناتجة عن الزراعة -حرفة الإنسان الأولى- والتي لا تستطيع معدة الإنسان هضمها على حالها الأصلي.

وقبل ذات القدر من السنين، أو أقل قليلاً، تحول هذا المنتوج الغذائي الأول لقيمة روحية ودينية ومعنوية. فقدّم الإنسان الخبز كقرابين للآلهة، وأكرم الناس ضيوفهم بكعك للتو فارق التنّور دلالة على قدرهم عند آل البيت.

في الشرق، يُسمى الخُبز عَيشاً، لأن الحياة بدونه لا تستقيم. وصار العزيز على القلب هو من نتناول معه "عيش وملح"، ومن تقطعت به السُبل وفَقَد رزقه، قد "انقطع عيشه"، ومن نُذكّره بقيمة علاقتنا به نؤكد له أننا قطعنا معه خبزاً، وبالتالي لا يُمكن أن نُخيّب أملهم فينا.

وعلاقة الخبز بالحياة على درجة من المتانة والعُمق جعلت الشعوب البدائية تنسج منها أساطير خرافية، كتشبيه العجين برحم المرأة الحامل الذي يكبر شيئاً فشيئاً إلى أن ينضج فيقدم الحياة. بينما اعتبرت الشعوب الحضارية الحديثة، في وعي جماعي ضمني في ربيعها أن "العيش" مكمل "للحرية"، من أجل "العَيش بكرامة".

ولأن الخُبز حياة، أو نحو ذلك، سيطر الحُكام على شعوبهم من خلاله قبل أي شيء.

بدورها أيضاً أمَهَلت الشعوب حُكّامها بقدر توافره في متناول كدّهم.

 فكان رغيف الخبز الأبيض الهش أمارة على الرفاهية والدلال. بينما كان الداكن منه نصيباً للأفقر حظاً والأقوى سعة على احتمال ظروف المعيشة، حتى ساد الظن بأن أمعاء الفقراء فقط ما يحتمل هضمه. وكان برهاناً على القوة، والاستعداد لمُكابدة الحياة الواقعية.

"يا رغيفنا، يا أب الّلقمة الطّيّبة، لولاك ما طابت المائدة، يا خبزنا اليوميّ الكريم، كُن إنساناً أكثر من الإنسان، وتكرّم على من حرمهم الدّهرُ من لُقمتك، وعلى من اشتاقوا كثيراً إلى طلعتِك وإطلالتِك". يقول رياض معلوف، واضعاً الخبز بمثابة المُخلّص، بمثابة الجائزة التي تُكلل سُبلَ الساعين للوجود بكرامة.

ولكن بتوافر الخبز، هل تهنأ وتُلبّى مساعي البشر للثراء والنمو؟

هل الكفاف منه..  كافٍ؟

بالرغيف -منذ الرواية الأقدم وحتى الآن وعلى الأرجح غدا أيضاً- يُتحَكَّم في المصائر والرقاب. فمن امتلك القمحة ساد بطنه.

في الأدب والعلوم الإنسانية، كان للُّقمة قيمتها فقط عندما يكون الإنسان جائعاً. بخلاف الخبز، إلام نجوع أيضاً؟

 إن اقتصر الخبز على ذاته فقط، ضاع كما ضاعت قبله حقوق، وتجرأ عليه من تجرأوا على الأنفُس التي تبتغيه.

قد يكون البداية فحسب، وما إن يُلبّى، تئزّ أمعاؤنا بعده للُقمة العلم/الفهم/القرار والاختيار والتجربة.

"ليس بالخبز وحده يعيش المرء"، يقول "لوركا". "إن جُعت وخرجت معوزاً للشارع لن أطلب رغيف خبز، وإنما سأطلب نصف رغيف وكتاباً.. على الجميع أن ينعموا بثمار العقل البشري لأنه في حال العكس سيتحولون لآلات في خدمة الدولة، وعبيد في تنظيم اجتماعي مختلّ".

وعن السُلطة، احتلال/وحُكّام، جلّهم أو أقل قليلاً، رأى "محمود درويش" أنهم "يغتصبون الخبز والإنسان"، حينما بلغ الظلم الزبى. فالخُبز عِرضٌ يُنتهك، والجوع امتهان. فما كان الحق في الخبز/العَيش سوى سوط، على مر التاريخ، يلجم الأفواه قبل البطون الخاوية، ومع كل رغيف يؤكَل بلا وعي، يتبدد الحق، بخاراً في الهواء.

بالرغيف، نعيش جميعنا قابضي كفّينا صلاةً لدوام الكفاف منه، سواء محظوظ اختار خبزه أبيض بضاً، أو معوز اضطُر لرغيفٍ أكثر دكَنَاً من مستقبله. لكن من يلتحف برغيف حافٍ، لا يغمسه في قرار يملكه، تضرَّمَت روحه جوعاً للحياة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نيللي عادل
هذا الهواءُ ليس رطبًا.. لكنّه الحنينُ في قلبك
صِحفية ومُترجمة مُهتمة بالآداب والفنون وعلم النفس.. وأكتُب الشِعر أحيانًا
تحميل المزيد