السلم والسلام مفهومان مركزيان في دعوة الإسلام ورسالته للإنسانية، فقد دعا الله تعالى ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- إليهما، ورفعا من شأنهما، ففي 25 آية من آيات القرآن الكريم تحدثت عن السلم والسلام، وكل آية تحمل رسالة سلام للبشرية، وتحض المسلمين خاصة والناس عامة على ضرورة التواصل والتعايش والتسامح.
وجاءت دعوة المؤمنين إلى الالتزام بأحكام الإسلام جميعها، قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} (البقرة: 208)؛ ونقرأ في صفة القرآن الكريم بأنه: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} (المائدة: 16)، ونقرأ أيضاً دعوته سبحانه لعباده المؤمنين أن يجدُّوا في العمل، ويكدوا في السعي من أجل دار باقية، لا من أجل دار فانية، ويقول في وصف تلك الدار: {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25)، علاوةً على أن (السلام) اسم من أسماء الله تعالى.
ويرتبط بمفهومي السلم والسلام مفاهيم أخرى، كالمساواة وإصلاح ذات البين، العدالة، العفو..، وكلها كلمات وردت في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة، جاءت في سياقات متعددة لإرساء الطمأنينة وقيم التعايش والتسامح بين الناس. فقد شُرع الصلح لإحقاق الحق وإصلاح المعوج، وتحقيق إصلاح ذات البين، فلو أن شخصاً صالح آخر على تحريم حلال أو تحليل حرام فهذا لا يجوز فقد نهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحلّ حراماً".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة وإصلاح ذات البين وخلق حسن". وعن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصوم والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة".
إن حسم الخلاف بين طرفي النزاع عن طريق الصلح أدعى إلى الإنصاف وأدنى إلى تحقيق العدالة، حيث إن المتخاصمين أعلم من غيرهما بمعرفة استحقاق كل منهما فيما يدعيه، أو فيما يدعي عليه؛ لأن كلاً منهما يعلم في قرارة نفسه أين الحق، ولمن هو الحق المتنازع عليه.
وهذا المعنى قد أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي روته أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بيّنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطاماً في عنقه يوم القيامة"، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله: "أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه".
أولاً: معالم وقيم السلام والسلم والمصالحة الوطنية في ليبيا:
1 ـ يتبادر إلى بعض الأذهان أن مشروع السلام والمصالحة الوطنية الذي نريده هو معالجة لما حدث أثناء ثورة السابع عشر من فبراير، متناسين أن هذه الثورة وما حدث فيها نتاج منطقي للظلم والفساد والاستبداد الذي عشعش طوال الأربعة عقود الماضية، ولم يكن وليد اللحظة، ولا يمكن اختزاله في حادث معين أو قضية بعينها.
لقد شوهت المنظومة الاستبدادية قبل الثورة الليبية تاريخ وجهاد الأبطال الذين صنعوا الاستقلال وشوه نضالاً وحراكاً ثقافياً واجتماعياً كان من أسس هذا الاستقلال، وشوه النظام نخبة ثقافية وأودعها السجون حقبة السبعينيات، واستولى على أموال الموسرين بحجة تصفية البرجوازية وصادر الممتلكات الخاصة وحارب الناس في قوت أولادهم، وانبرى يطلق الأوصاف المقيتة لكل معارضيه، وأدخل البلد في حروب لا طائل من ورائها ذهب جراءها آلاف الضحايا من أبناء هذا الشعب، وجني الوطن من ورائها فقداً لعدد كبير من أبنائه بالإضافة إلى قائمة طويلة من اليتامى والمتضررين.
ولم تكن هذه الانتهاكات تنفذ من رأس النظام مباشرة، بل استخدم فيها أذرعاً من أبناء الشعب، معتمداً في التغرير على تجاذبات قبلية وجهوية، وأطماع شخصية استجاب لها السذج وضعاف النفوس، ومعتمداً على الضيق في فرص العمل والكسب الذي نتج عن سياساته المتقلبة ونظرياته المزعومة، حتى ألجأ قطاعاً عريضاً من الموظفين والعاطلين والشباب بل وحتى من المتقاعدين والنساء المطلقات إلى العمل ضمن جهاز الأمن الداخلي في كتابة التقارير والوشاية بالمواطنين من أجل لقمة العيش، ليحصد الوطن جراء ذلك جرحاً غائراً بأياديه! فمن من وقع عليهم الانتهاك هم من أبنائه، ومن مارس هذا الانتهاك من أبنائه أيضاً، وقد يتذبذب البعض بين الصنفين حيناً من الزمن.
إن الانتهاك لدى البعض لم ينتهِ بمجرد موت رأس النظام وهروب أعوانه المقربين وكتائبه بل كل من مارس الانتهاك بطريق مباشر أو غير مباشر لا بد أن يقع في دائرة استرداد الحقوق!
وليس المقام لمناقشة هذه الرؤية ومدى أحقية هذا الرأي، ولكن يجب التأكيد على أن مشروع المصالحة الوطنية الليبية لا بد أن يكون البلسم الذي نعالج به بعد توفيق الله سبحانه وتعالى هذه الجروح ونزيل به الألغام الاجتماعية التي خلفها نظام الظلم والفساد والاستبداد بين أبناء المجتمع الواحد.
2 ـ كما هو معلوم، فإن الانتهاكات التي مارسها نظام معمر القذافي، مارسها بأذرع من أبناء هذا الشعب، واعتمد فيها على تجاذبات قبلية وجهوية كغطاء تضيع به حقائق الأشياء وبشاعة الجرائم. والحقيقة أن التجييش القبلي والجهوي والمناطقية، ما انفك متكأً لكل ناعق يحاول بإثارته تحقيق مطالبه الشخصية، حتى أصبحت القبيلة والمنطقة لدى البعض سبباً يعلق عليه ضعف ما يرفع من شعارات، والصهوة التي يمتطيها لتحقيق مطامعه الشخصية، فيرفع شعار القبيلة وما لاقته من تهميش، أو يرفع شعار الجهة وما لاقته من تهميش، فقط ليجمع حوله المناصرين.
من هنا نقول: إن مشروع السلام والمصالحة الوطنية يجب أن ينحى إلى إبراز القضايا خاصة وعامة قدر الممكن، بحيث لا تكون القضية قضية قبيلة معينة ضد قبيلة أخرى، أو قضية جهة ضد جهة أخرى، أو منطقة ضد منطقة أخرى، بل قضية فرد أو أفراد ضد فرد آخر أو أفراد آخرين.
إننا يجب أن نجرد القضايا من البُعد القبلي والجهوي لأنهما بعدان تستثار فيهما الحميات والنعرات التي تحجب حقائق الأشياء وتشوش على صوت العقل والمنطق والإنصاف. يجب أن ينحى مشروع المصالحة إلى تحديد المسؤولية الفردية فيما وقع ويقفل الطريق على كل ما من شأنه أن يخرق النسيج الاجتماعي للمجتمع الليبي.
3 ـ ما حدث خلال الأربعة عقود التي سبقت الثورة الليبية يفوق الوصف، وبعض الجرائم لا يتخيلها العقل السوي وتأباها النفوس المتزنة، وإلا ما ذنب أطفال صغار يحرمون من حقوقهم المدنية ويحرمون حتى من لقمة العيش لجرم اقترفه أبوهم أو أحد أفراد أسرتهم، هذا إذا سلمنا بالجرم! ما ذنب أسرة يهدم عليها بيتها وتشرد في الشارع بلا مأوى ولا حتى سقف يظلهم لمخالفة اقترفها أحد أبنائهم، هذا إذا سلمنا بالمخالفة! كيف يستسيغ المنطق أن يمثل بجثث المعارضين وتنبش قبورهم!
ولكن على بشاعة ما حدث وفظاعته فإن سفينة الأمان في المجتمع يجب ألا تخرق بأيادي العابثين، والمصالحة الوطنية يجب ألا تخول أحداً -كائناً من كان- أن يسترد حقه أو مظلمته بشكل فردي، مهما كان حجم الظلم الذي وقع عليه، بل لا بد من أطر قانونية تنصف المظلوم وتجبر الضرر وترد الحقوق، حتى لا يتحول المجتمع إلى ثقافة الغابة التي يأخذ فيها كل حقه بيده.
بل إن مشروع المصالحة يجب أن يذهب أبعد من ذلك، بأن يعتبر كل فعل يمارس بذريعة استرداد الحقوق خارج الأطر القانونية جريمة يعاقب صاحبها مهما كان بشاعة الظلم والانتهاك الذي وقع عليه. وهذا ليس استخفافاً بالانتهاكات ولا تهميشاً للمظلومين، بل حتى لا يتحول المجتمع إلى مجتمع أدغال. ولأن ظاهرة استرداد الحقوق بشكل فردي ودون أطر قانونية، إذا فتح بابها، فإن المئات ستسول لهم أنفسهم الاعتداء على الأعراض والممتلكات بحجة استراداد الحقوق، وحينها يفقد الأمن الذي هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة، ونقع في عين ما كان يعاب على النظام البائد.
4 ـ إن ما وقع من انتهاكات لم يقتصر على الضرر المادي من الاستيلاء على الأملاك إلى الحبس والتشريد وحتى القتل، بل هناك انتهاكات معنوية تمثلت في تشويه الأفراد والأفكار، ومشروع المصالحة الوطنية يجب أن ينحني إلى تبيين الحقائق كأساس تقوم عليه المصالحة، ثم يأتي بعد ذلك مسألة جبر الضرر وهذا جبر أن تتحمل فيه الدولة المسؤولية، لأننا سنواجه قضايا متشابكة خصوصاً في مسألة الأملاك.
لابد أن تجذر لشيئين لا ينفك عنهما مشروع المصالحة الوطنية، هما القدرة على العفو والتحل به، وهذا ليس ضد جبر الضرر في شيء، بل هو أمر لا بد منه لطيّ صفحة الماضي وعدم العودة إليها بتاتاً، وهنا يجب التأكيد على أن مصلحة الوطن تتطلب قدوات تنبري تؤصل لهذا الشرف العظيم من أنفسهم وأموالهم كما فعل ذلك رسول الله -صلى عليه وسلم- يوم فتح مكة، حيث وضع الثأر لدم ابن عمه، ووضع ربا عمه العباس رضي الله عنه. والأمر الآخر نبذ عقلية ونفسية الانتقام، لأنها نار إذا ما اشتعل أوارها لن تبقي أخضر ولا يابساً.
إن ثورتنا الوطنية المجيدة لم تقم لتنتقم طائفة من طائفة أخرى ولا قبيلة من قبائل أخرى ولا منطقة أو جهة من مناطق وجهات أخرى، هذه الثورة ليست لتغيير السلم الاجتماعي لينخفض أفراد ويصعد آخرون، ولا لتغيير الخارطة الاجتماعية لتذل قبائل وتعز قبائل أخرى، بل إن الثورة جاءت لتبيين الحقائق ورفع الظلم وأسبابه ومظاهره، الثورة لينعم كل مواطن ليبي بحقوقه على أي بقعة من تراب هذا الوطن، ليتحصل كل مواطن ليبي على الرعاية الكاملة وحقه في الحرية والعيش الكريم، ليس لأنه ابن قبيلة معينة، وليس لأنه ابن مدينة معينة، وليس لأنه قام بدور معين، بل لأنه مواطن ليبي فحسب. وهذا لا ينفي أن نعترف لأهل الفضل بفضلهم، ولكن لا نريد لهذا الفضل الذي قام به البعض تجاه وطنهم وشعبهم أن يتحول إلى قيد تقمع به الحريات وتهدر به الحقوق وتجنى به المميزات.
إننا لا نريد أن ندفع ظلماً بظلم آخر، ولا نريد أن ندفع انتهاكاً بانتهاك آخر ولا نريد أن نسترد حقوقاً بمنع حقوق الآخرين. إننا نريد أن نجذر لمجتمع يقوم على العدل ونبذ الظلم، نريد أن نجذر لمجتمع يحترم الحقوق وينبذ الانتهاك، نريد أن نبني مجتمعاً يقدس الحريات العامة وينبذ مصادرتها، وبالتالي فإنه من الأهمية بمكان ألا يتحول الضحية في وقت مضى إلى جلاد، ولا نريد أن يتحول المجني عليه إلى جانٍ، نريد لثقافة الانتهاك أن تختفي من عقول الأجيال القادمة، ولهذا فعلينا أن نحذر ونحن نسترد الحقوق ونرفع المظالم من أن نؤصل للانتهاك والظلم في صورة جديدة وبأيادٍ أخرى، فسلمية الوسائل وقانونية الإجراءات وتغليب العفو والبعد عن الانتقام هي السمات الحقيقية لهذه المصالحة الوطنية.
5 ـ إن المنطلق الذي ننطلق منه في مشروع المصالحة الوطنية هو أهميتها لكي تتعافى الأجيال القادمة من ويلات الظلم والانتهاك، وأهميتها من أجل المحافظة على اللحمة الوطنية، وأهميتها لطيّ مرحلة الماضي وعدم تكرارها في صورة أخرى من أجل ذلك فإن الدولة المتمثلة في السلطات التشريعية والتنفيذية يجب أن تتحمل المسؤولية في عملية الجبر وتتحمل المسؤولية في عملية إعادة التأهيل. إننا سنواجه قضايا متشابكة تتجلى فيها الحقيقة وتعجز أداة الانتهاك عن الجبر أو أن تكون الحقوق المسلوبة انتقلت إلى طرف ثالث ورابع بصورة قانونية وقامت عليها أنشطة ومشاريع تستفيد منها أطراف أخرى كقضايا العقارات مثلاً، وهنا لا بد أن تكون الدولة كما أسلفت هي الطرف الرئيس الذي يقع عليه المسؤولية لأهمية طيّ هذه الصفحة للوطن. ومن ناحية أخرى أن قضايا الانتهاك وتناولها عبر مشروع المصالحة الوطنية الغرض منه هو سلّ السخائم والأحقاد ليعيش المجتمع حياة اجتماعية صحية وبقدر ما في هذا المشروع من اجترار للماضي البغيض إلا أنه من الأهمية بمكان، الأمر الذي يحتم المحافظة على سرية ملفاته والتعامل معها بمنتهى الحرص والسرية من ناحية ارتباطها بالأشخاص، وهذا لا يمنع شفافية الأداء بالقدر الذي يمنع الإهمال أو الفساد. ومسؤولية الدولة في إعادة التأهيل ومسؤولية الدولة في سرية هذا الملف بحيث لا تتناوله وسائل الإعلام إلا بالنذر الذي يبرز العمل فيه دون التطرق إلى أسماء الأشخاص ولا القضايا المتعلقة بهم.
ثانياً: أهداف مشروع السلام المصالحة الوطنية (المرحلة الانتقالية)
مشروع السلام والمصالحة الوطنية مشروع يعكس أولاً وآخراً رقي هذا الشعب وعظمة القيم الإسلامية التي يستند إليها، وهو علاوةً على ذلك سيحقق إن شاء الله الأهداف التالية:
• إرساء السلم الاجتماعي.
• إرساء ثقافة الاحتكام إلى القانون.
• الحفاظ على اللحمة الوطنية.
• إعادة التأهيل والتعويض المعنوي.
• تجنيب الوطن ويلات الانتقام.
• نشر ثقافة العفو والتسامح.
• نشر ثقافة الشفافية.
في النهاية يمكننا القول: إن مشروع السلام والمصالحة الوطنية الذي ندعو إليه مُستمد من كتاب الله تبارك وتعالى والمنهج النبوي الهادي، والتجربة التاريخية الإسلامية والإنسانية الطويلة، فهو من أولويات العمل الوطني والمرحلة الانتقالية في حياة الليبيين شرق وغرب وجنوب البلاد، وهي مسؤولية كافة أبناء الأمة في كل الأوطان، وأساسها العدل والإنصاف والحوار البناء القائم على إعادة الحقوق إلى أصحابها وردّ المظالم، وتعويض المتضررين والاعتراف بحق الضحايا، وتكريس الإحساس بالمواطنة تحقيقاً للسلم والصلح الأهليين.
وبهذا المعنى فهي ضرورة دينية وإنسانية وأخلاقية لا يستغني عنها أبناء الوطن من أجل تأكيد التلاحم بينهم، وترسيخ بنية الوحدة الوطنية، وإشاعة أجواء المحبة والانسجام بين مكوناته المختلفة لأجل الانتقال إلى مستقبل أفضل يسوده الأمن والاستقرار والازدهار والسلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.