يدور منذ سنوات في عدد من الدول العربية نقاش قديم متجدد حول الاختيار الصعب بين الديمقراطية والحرية من جهة، وحكم الفرد والاستقرار من جهة أخرى. وحينما أقول الاستقرار أعني الاستقرار الاقتصادي والأمني الذي يظهر للعامة توفّره في الأنظمة العسكرية التي ليس لديها من يعارضها في تطبيق سياساتها، تنموية كانت أم تخريبية.
فبالنسبة للكثيرين ممن تربّوا في كنف الحكم العسكري، تعني لهم الديمقراطية وما تولّده من أجواء تتسم بالفوضى في كثير من النواحي نموذجاً غير محبب، خاصة إذا صاحبته صعوبات اقتصادية وأمنية.
هذا النقاش يعتبر إلى حد ما جديداً في عدد من دول الربيع العربي، لكنه قديم في بلدي السودان، لفترة تزيد عن نصف قرن من الزمان. وكان أول من ناقشه بإسهاب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، محمد أحمد المحجوب، في سفره الضخم "الديمقراطية في الميزان".
حيث حاجج فيه الذين يميلون ناحية الحكم العسكري، بسبب الفوضى التي تحدث في فترات الحكم الديمقراطي التعددي، بالقول إن العيب ليس في الديمقراطية، وإنما في بنية الأحزاب الموجودة في السودان (ودول العالم الثالث عموماً) من ناحية، وفي الشعوب نفسها (لجهة استعدادها النفسي والعقلي لتقبل وممارسة الديمقراطية) من ناحية أخرى.
يعتبر السودان أوضح مثال في المنطقة على جدلية الأفضلية بين حكم العسكر وبين الديمقراطية، فهذا البلد عانى من الانقلابات العسكرية والثورات والديمقراطيات القصيرة، أكثر من غيره من دول المنطقتين العربية والإفريقية، حيث بلغ إجمالي سنوات الحكم العسكري في السودان منذ الاستقلال حوالي 54 عاماً، بينما لم تتجاوز سنوات الحكم المدني الــ11 عاماً منذ الاستقلال، مع ملاحظة أنه كانت هناك ثلاث حكومات ديمقراطية أعقبتها ثلاثة انقلابات عسكرية، وكان المبرر المتكرر في الانقلابات العسكرية الثلاثة انفراط الأمن، والتدهور، وعدم اتفاق المدنيين على طريقة مُثلى لإدارة البلاد.
لكن ما يحاول العسكر دوماً تجاهله هو حقيقة أن الوضع الذي تسلموا فيه الحكم عبر انقلاب دائماً ما يكون أفضل من الوضع الذي يغادرون فيه السلطة مكرهين بعد ثورة الشعب عليهم.
فالرئيس الأسبق جعفر النميري غادر السلطة بعد الثورة عليه في 1985، والوضع الاقتصادي والأمني في أسوأ حالاته، حيث انتشرت حينها مجاعات في غرب وشرق البلاد، وتدهور الوضع الأمني في جنوب السودان باندلاع تمرد، والأمر نفسه ينطبق على البشير، الذي خلعه كبار جنرالات جيشه من الحكم بعد وصول المظاهرات التي استمرت لأشهر إلى عقر دارهم في قيادة الجيش، بعد تدهور اقتصادي وصل إلى مرحلة الانهيار وإفلاس خزينة الدولة.
المدافعون عن الحكم العسكري دائماً ما يحاولون تبرير انحيازهم للدكتاتورية بـأن الأحزاب الموجودة في الساحة السياسية السودانية لم تصل بعد إلى مرحلة النضج التي تمكّنها من إدارة الدولة. وقد يكون هذا الأمر صحيحاً بصورة جزئية، لكنهم يغفلون عن السبب الذي يجعل هذه الأحزاب فاشلة وغير ناضجة، وهو عدم توفر الفرصة الكافية لإدارة البلاد وممارسة فن الحكم، فحكومتا 1956 و1986 المنتخبتان لم تكملا الثلاث سنوات، قبل أن يطيح بهما العسكر، كما أن الحكم العسكري كان يأتي في الغالب مدفوعاً (من الخلف) بأحزاب أيديولوجية تتآمر على الديمقراطية، لينفرد بعدها العسكر بالحكم.
وإذا ما تجاوزنا السودان إلى غيره من الدول العربية والإفريقية، فسنجد أن المشكلة هي نفسها من جهة تمسك العسكر بالسلطة حتى آخر العمر، بل والسعي لتوريث السلطة لأبنائهم، وهي آفة كبيرة تجعل من هذه الجمهوريات الفاشلة أنظمة شبه ملكية، وهي في هذه الحالة لا تخضع للتطور الطبيعي الذي شهدته مناطق أخرى في العالم من التحول من الحكم الملكي المطلق، مروراً بمرحلة الحكم العسكري، وانتهاءً بالديمقراطية التعددية. وقد حدث هذا في دول أوروبية كفرنسا وإيطاليا وألمانيا، ومؤخراً إسبانيا والبرتغال، والأمر نفسه قطع مراحل بعيدة في الكثير من دول أمريكا اللاتينية.
لكن التجربة المدهشة التي لم يتوفّر للكثيرين في المنطقة العربية فرصة التعرّف عليها عن كثب هي تجربة التحول الديمقراطي، الذي جاء كنتيجة للتنمية الاقتصادية لدول شرق آسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية، تبعتها بلدان في جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وسنغافورة. والقاسم المشترك بين تجارب هذه الدول هو أن نظام الحكم فيها تحوّل من الدكتاتورية العسكرية إلى الديمقراطية المستقرة في فترة قصيرة، وبعد حدوث تطور اقتصادي ملحوظ، وهما أمران تفتقدهما دول المنطقتين العربية والإفريقية.
تجربة بلدان شرق آسيا (اليابان وكوريا وتايوان والصين) سبقت تجربة بلدان جنوب شرق آسيا لأسباب ذاتية متعلقة بالنموذج الياباني، الذي بلغ مراحل متطورة في النهضة الزراعية والصناعية والعسكرية في أواخر القرن التاسع عشر (بعد زيارة الجنرال البحري الأمريكي ماثيو بيري إلى اليابان لإجبار قيادتها على فتح موانئها أمام السفن والبضائع الأمريكية في 1853). حيث انفتحت اليابان بعدها على الولايات المتحدة وأوروبا لتستحوذ على التكنولوجيا المدنية والعسكرية، بعد إنهاء سيطرة العسكر على الحكم وإعادته للإمبراطور، وتقوية الجيش والاقتصاد في 1968، فيما أُطلق عليه حينها إصلاحات (Meiji Restoration).
التطور الاقتصادي والتكنولوجي العسكري الياباني الناتج عن الانفتاح نحو الغرب والاستحواذ على التكنولوجيا قاد اليابان لتقليد الدول الغربية، والتوسع واستعمار شبه الجزيرة الكورية وأجزاء من الصين في مطلع القرن العشرين. وبالرغم من الدمار والاتفاقية المذلّة لليابان مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنها نهضت بعد أقل من عقدين من الزمان، بفضل السياسات الإصلاحية في ملكية الأراضي، والسعي الحثيث لامتلاك التكنولوجيا الصناعية الحديثة، بجانب إصلاح نظام الحكم ليكون ديمقراطياً برلمانياً، تكون الأمور فيه تحت سيطرة رئيس وزراء منتخب، بدلاً من الملكية المطلقة التي تميزت بها اليابان في السابق، وكان إنشاء الحزب الديمقراطي الليبرالي (DLP) في العام 1955 بداية للممارسة الديمقراطية في البلاد.
كان لرئيس وزراء البلاد يوشيدا شيغورو، الذي أسّس ما سُمي بعقيدة يوشيدا (Yoshida Doctrine)، التي تركّز على التنمية الاقتصادية والصناعية، أساس نهضة البلد، دور كبير في التأسيس لنظام حكم يقوم على أساس نموذج الدولة التنموية (developmental State Model)، وساعد البلاد في النهضة بسرعة غير متوقعة.
حيث ركّزت عقيدة يوشيدا على التنمية الاقتصادية، وتركت شؤون الدفاع عن البلاد للولايات المتحدة بموجب اتفاقية العام 1951. والعامل الآخر الذي ساعد اليابان هو المساعدات المالية الأمريكية الشبيهة بخطة مارشال للقارة الأوروبية، حيث تلقّت اليابان خلال الفترة من 1945- 1951 حوالي 15 مليار دولار من الولايات المتحدة. أكثر من 77% منها في شكل منح.
سنُواصل في المقال القادم الحديث عن تجربتي كوريا الجنوبية وتايوان في التنمية الاقتصادية، والتحول من اقتصادات زراعية إقطاعية إلى اقتصادات تعتمد على الصناعة والتكنولوجيا واقتصاد المعرفة، وكيف كان التحول السلس في نظام الحكم من عسكري إلى ديمقراطي تعددي سبباً في نهضة البلدين في فترة قصيرة ومن دون صدامات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.