يمتد تاريخ الحركة الليبرالية المصرية منذ ثورة 1919 وتأسيس حزب الوفد إلى يومنا هذا، أكثر من 100 عام، نجحت في بدايتها في تنظيم تجربة حزبية تعددية حققت بعض النجاح، ولكنها انتهت بالفشل وأعلن وفاتها بميلاد "دولة يوليو" على يد الضباط الأحرار. ومن حينها والليبراليون في مصر بعيدون عن أي تأثير حقيقي في المجتمع! ما يدفعنا لطرح السؤال الملح وهو:
لماذا يفشل الليبراليون في مصر؟
يعاني الليبراليون المصريون من ثلاث مشاكل أساسية، مشكلة تنظيرية، وأخرى تنظيمية، وثالثة متعلقة بترتيب الأولويات. وليس فقط مشكلة تنظيمية كما يعتقد البعض. نظرياً، يتطلع الليبراليون بعين الإعجاب إلى المجتمعات الغربية ونظم حكمها، ويريدون نقل التجربة الغربية ليس فقط في نظم الحكم الرشيد، ولكن حتى في شكل الحياة وتحرير المجتمع. ليس هناك أوضح أو أدق في وصف هذا التوجه مما أورده طه حسين في كتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر)، الذي يقدم فيه رؤيته للطريق الذي يجب أن تسلكه مصر نحو التحديث والنهضة، بعد توقيع معاهدة الاستقلال الجزئي عن بريطانيا سنة 1936، فيقول: "علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات، علينا أن نسير سيرة الأوروبيين في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحمد فيها وما يعاب!".
وفي هذا التوجه -على نبل مقصده- مشكلة أنه من الصعب التعامل مع تطوير المجتمع، وكأن هناك مساراً ثابتاً بخطة تفصيلية للتقدم والحضارة والحكم الرشيد، علينا فقط أن نتّبعه، وسوف يصبح كل شيء على ما يرام، ليس من المنطق أن تنتزع تجربة حضارية من سياقها التاريخي والجغرافي بكل تفاصيلها، لتفرضها في واقع مغاير دون أي اجتهاد فيما يجب عليك أن تتبناه وتطبقه تفصيلياً. عليك أن تنظر لتلك التجربة وغيرها بعين ناقدة، لتتعلم منها وتطور أفكار ومبادئ وسياسات تشكل بها مشروعاً سياسياً وحضارياً، يتمكن من العيش والاستمرار في بيئة هذا المجتمع. حينها تستطيع الجماهير أن تتبناه وتتفاعل معه وتطوره، وهذا هو الأساس في نجاح أي مشروع سياسي جماهيرياً. أما فكرة الاستعلاء على الجماهير، ومحاولة فرض رؤية معينة عليهم لم يشاركوا في صياغتها ولا تطويرها فتتناقض مع جوهر فكرة الديمقراطية والتنظيم المجتمعي، الذي يزعم الليبراليون الترويج له.
فلنأخذ مثالاً على ذلك فكرة الحرية، يتفق قطاع عريض من المصريين على اختلاف توجهاتهم حول موضوع الحريات السياسية، فالجميع يتطلع إلى الحق في أن يختار حكومته بانتخابات حرة ومحاسبتها بآليات شرعية منضبطة، وكذلك الحق في التنظيم السياسي والاجتماعي، فإذا تجاوزنا هذا إلى الحديث عن الحريات الفردية كالحريات الجنسية على سبيل المثال، تكون تلك نقطة خلافية مثيرة لجدل واسع حول حدود هذه الحرية وفلسفتها. إذ تصطدم مع تقاليد المجتمع وموروثاته الثقافية والدينية، فهذا شيء لا تستطيع فرضه على المجتمع، ولكنه شيء يتطور ويتحدد بتفاعلات المجتمع مع الأفكار وتطورها وحواراته الداخلية.
أما فكرة التمسك بالكتالوج الجاهز بكل ما فيه، والمبادئ التي لا تتجزأ فهي أيضاً نوع من فقر الخيال والاستسهال، وهم -أي الليبراليون- لا يختلفون كثيراً في تلك الجزئية عن الإسلاميين عندما يبشرون ويحلمون بحكم الخلافة الإسلامية، وهو مسار آخر منتزع من سياقه، غير قابل للتطبيق في المجتمع المعاصر بكل تعقيداته.
المصيبة السياسية هي أنه لا أحد يريد أن يرهق نفسه قليلاً بالتفكير للخروج بمشروع سياسي واجتماعي واقعي يُترجم مبادئهم وأفكارهم، إسلامية كانت أم ليبرالية، يبدأ بما هو موجود من الواقع ويبني عليه.
غياب التنظيم
نأتي للمشكلة الثانية، وهي التنظيم، فمنذ تأسيس دولة الضباط الأحرار في يوليو وما تبعها من إغلاق للمجال العام في مصر، لم ينجح، وربما لم يحاول الليبراليون الاشتباك مع الجماهير وخلق قواعد تنظيمية لهم. ففي الوقت الذي استفادت فيه التيارات الإسلامية، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين من مساحة العمل العام المحدودة التي فتحها السادات في نهاية حكمه، واستمرت في ظل نظام مبارك، واتسعت أكثر بعد 2005، فقاموا بخلق قواعد تنظيمية وشعبية مكنتهم من الوصول للحكم بشكل مؤقت بعد الإطاحة بمبارك، فشل الليبراليون في ذلك، فلجأ بعضهم إلى التواجد على هامش السلطة، والبعض الآخر اكتفى بخطاب نخبوي عن الكتالوج الذي يجب أن نتبعه، والتغيير الذي يجب أن يحدث دون أن يوضحوا لنا بدقة كيف السبيل إلى هذا التغيير على أرض الواقع.
نجاح الإسلاميين في خلق قواعد شعبية لهم في نفس المجال العام المحدود طوال 30 عاماً من حكم مبارك يقيم الحجة على غيرهم ممن فشلوا في ذلك! فعندما جاءت فرصة تاريخية لإعادة تنظيم العملية السياسية مع ثورة يناير، لم يكن لدى الليبراليين أدوات فعالة للتأثير في مجريات الأمور، نظراً لضعف مشروعهم وقواعدهم الشعبية. فالتواصل الجماهيري وبناء الدعم الشعبي هو الطريق الصعب الذي يجب عليهم أن يسلكوه، والثمن الذي يجب أن يدفعوه إذا كانوا صادقي العزم فيما يدعون إليه، والأهم إذا كانوا يرون في أنفسهم نداً مكافئاً يستطيع أن يحكم الدولة، وينظم شؤون المجتمع، لا وصيفاً هامشيأ على جانب السلطة.
أزمة ترتيب الأولويات
أما المشكلة الثالثة فهي أزمة ترتيب الأولويات، ففي مجتمع يقع ثلثا سكانه حول نطاق الفقر ويعاني من مشكلات عميقة في التعليم والصحة والبنية التحتية، فضلاً عن غياب الموضوعية والتفكير العقلاني وانتشار الجهل وضعف كفاءة مؤسسات الدولة في تقديم الخدمات للمواطنين، ينشغل الليبراليون بقضايا ليست ذات أولوية في هذا الواقع المعقد، فعلى سبيل المثال، في خضم ثورة يناير وما تبعها، شغل الليبراليون -ومعهم الإسلاميون أيضاً– الفضاء العام بالحديث عن الهوية والدستور، فاهتموا بكتابة مبادئ ولم يهتموا بالتفكير في كيفية إنفاذها في الواقع. ففي عام 2014 قدمت لجنة كتابة الدستور واحداً من أفضل الدساتير المصرية في مجال الحقوق والحريات، وتحصين النصوص المتعلقة بتداول السلطة، والحد الأدنى من مخصصات الموازنة العامة للتعليم والصحة والبحث العلمي. بينما في واقع الأمر ضربت الحكومة عرض الحائط بكل هذا، فانتهكت الحريات وانتهت لاحقاً بتعديل الدستور لتلغي المواد المتعلقة بمخصصات التعليم والصحة والبحث العلمي وتداول السلطة.
اهتم الليبراليون بكتابة مبادئ دستورية ولم يفكروا في كيفية ضمان تنفيذ وتفعيل تلك المبادئ.
مثال آخر، وهو الحديث عن موضوع المثلية الجنسية وحقوق المثليين، وهو موضوع يشغل اهتماماً واسعاً في الدوائر الغربية، فنجد بالتبعية تلك القضية مطروحة للنقاش محلياً، فيفرد لها بعض الليبراليين اهتماماً ومساحة كبيرة من النقاش العام، ليأتي هنا السؤال الملح: هل هذه هي أكبر مشكلة تواجه المجتمع المصري؟
هل قمنا بحل جميع مشاكل الفقر والجهل والتعليم والصحة والبنية التحتية والفساد والاستبداد، وأصبحت تلك هي مشكلتنا الملحة التي يجب أن نُفرد لها مساحات واسعة من النقاش والجدل العام!
عندما قامت الثورة الفرنسية -منذ أكثر من 200 سنة- لم تضع على رأس أولوياتها حريات المثليين، بل تطرقت المجتمعات الغربية لمناقشة هذه القضية بعد 200 عام من الثورة الفرنسية، ليصلوا إلى تصورهم الخاص عن تلك القضية بعدما أجابوا عن مشكلات الحكم الرشيد والفقر والتعليم والصحة والبنية التحتية، فهم قد قاموا بواجباتهم في هذا، فأصبحت لديهم رفاهية مناقشة القضايا الأخرى الأقل أهمية بالمقارنة، فهل يقوم الليبراليون المصريون أولاً بالإجابة عن الأسئلة الملحة؟
في الواقع الذي تعيشه مصر حالياً يصعب على الليبراليين أو غيرهم التصدي لمشكلة التنظيم، ولكن يبقى لهم مشكلتا التنظير وترتيب الأولويات، والتي يجب أن تقع على رأس اهتماماتهم ونقاشاتهم العامة، فبعد الفشل المدوي والممتد عبر البلاد العربية لمشروع جماعات الإسلام السياسي، وانصراف قطاع كبير من الجماهير عنهم بعد أدائهم المتردي في الحكم والفضاء العام، ثم ضجر الجماهير من فقر النظام العسكري في تحقيق التنمية واحتياجات المجتمع، وبحث الجماهير العربية بشكل عام عن بدائل أخرى بعد الإخفاقات المستمرة لأنظمة ما بعد الاستعمار، تصبح الحاجة والفرصة ملحة أكثر من أي وقت مضى لإجابة جديدة وتصور جديد! هذه الإجابة قد تخرج من عباءة بقايا المشروع الإسلامي أو العسكري أو الليبرالي، أو ربما مزيج منهم… ولهذا حديث آخر!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.