ما معنى الحياة، وما الهدف من وجودنا هنا في هذا العالم، وماذا يحدث لروحك بعد أن تصعد إلى ربها؟ هل السعادة تكمن في الوصول إلى أحلامك وتحقيق الذات فقط؟ ماذا بعد؟ هل يستحق الأمر كل هذه الحرب؟ ماذا لو أنك وصلت إلى شغفك وأصبح هو عملك، هل ستظل شرارتك نحوه كما هي أم أنه سيتحول إلى مجرد روتين تفقد لذّته؟
أحياناً ما يحدث أن تسعى وتحارب لتصل إلى ما تتمنى، لا ترى عيناك سوى لحظة الوصول إلى الحلم ونشوة الانتصار على كل من قال لك إنك لن تنجح، لكن عندما تصل تُفاجأ أن الأمر لم يكن كما تُريد، رغم أنك لم ترتكب خطأً واحداً. هناك شيء يجعلك تشعر بالنقصان، والخيبة، ألم يكن هذا شغفك الذي سعيت من أجله؟ لماذا تشعر أن روحك ضائعة الآن، وأنك لست في المكان المُناسب؟
يمر الإنسان بهذه الدوامة كل يوم.. لكن هل تخيلت أن تكون هذه المشاعر والحيرة والتساؤلات الفلسفية المحبوسة داخلك مُجسدة في فيلم كارتون؟
نحن أمام فيلم "Soul" للمخرج العبقري "بيتي دوكتر"، وإنتاج شركة "بيكسار"، التي صنعت بكل سلاسة من تساؤلات الإنسان التي تُطارده طوال حياته فيلماً ليلامس روحه.
تظن من الوهلة الأولى أنه مجرد فيلم للصغار، ليُبسّط لهم فكرة الحياة والشغف والموت، لكن تُفاجَأ أنك أمام فيلم للبالغين أيضاً، يجيب عن تساؤلات الأرواح الضائعة في منتصف العُمر بعد أن تتجاوز سنوات الشباب، وتجد أنك أصبحت من الكبار، الذين تمنيت أن تكون منهم، وألا عودة من الطريق الآن يجب أن تجد شغفك لتركض وراءه.
فيلم له رسالة، جاء من واقع حياتك، وتوغّل فيها أكثر وأكثر ليجسدها في شخصية كارتونية بطلها أسمر للمرة الأولى.. شخصية عندما تراها تقول: "يا للهول! هل جو جاردنر يشبهني إلى هذا الحد؟"
في أول الفيلم يأخذك في رحلة مع شخصية "جو جاردنر" الذي يعيش حياة روتينية مملة، لكن لديه حلم يطارده، ويريد أن تتهيأ الفرص له من أجل أن يصل إليه، فالإنسان الذي يعمل ما يُحب يصبح لديه سبب للاستيقاظ من أجله.
لكن جو لم يكن لديه السبب، يستيقظ ليجد نفسه يفعل الأمور نفسها كل يوم، يدرس الموسيقى للأطفال، لكن ليس هذا ما ولد من أجله، فهو يرى أنه وُلد من أجل أن يصبح عازف موسيقى لا شيء آخر، لا يتخيل نفسه سوى في هذا المكان، يعزف أمام الجماهير، وعندما ينتهي يصفقون له، فتزداد نشوته ويرتفع أدرينالين السعادة في جسده، فيشعر أنه أخيراً وصل إلى ما يريد، ما ولد حقاً من أجله، لكن ليست كل الأحلام تتحقق؛ مثله مثل الكثير من البشر الذين بداخلهم شغف لشيء آخر اضطر لقبول ما في يده تجنباً للضغوطات، وخوفاً من المجازفة والركض وراء المجهول وترك الفرصة المضمونة، وتحقيقاً لرغبة والدته التي ترى عزف موسيقى الجاز حلماً سخيفاً لا يضمن له مستوى معيشياً مُريحاً يكفي من أجل دفع فواتيره بعد أن تموت.
حاولت الدُّنيا أن تُصالح جاردنر عندما جاءه اتصال من أحد طلابه القدامى يزف إليه النبأ السعيد، أنه يمكنه أن يعزف بجانب "دورثيا ويليامز"، أشهر فنانة في نيويورك، طار وقتها من الفرحة فقد جاءته الفُرصة دون أي سعي، دون أي حرب، ظل يقول وهو يهرول في طريق العودة إلى المنزل: "سأموت كرجل سعيد إذا كان بإمكاني أن أعزف مع دورثيا وليامز"، وفي أثناء سيره كان جسده يمشي على الأرض، لكن روحه كانت في السماء تكاد تلمس النجوم من فرحته، لم ينتبه "جو" أن هناك ما قد يمنعه من الوصول إلى حلمه، وسقط في بالوعة أمامه في يومه السعيد الذي لطالما انتظره، وكأن الدُّنيا اختارت أن تُسعده للحظات، وتخطف منه ما تمنى، وتصدمه بحقيقة: "أن الموت محطتك النهائية المؤكدة قد تقف عقبة بينك وبين حلمك"، فقد انفصلت روحه عن جسده، وبدأت رحلة البحث عن الشغف أو كما يسميها الفيلم " الشرارة".
ما هي شرارتك؟
الإنسان من المفترض أن يكون لديه سبب للاستيقاظ كل يوم، لكن جو لم تكن لديه تلك الشرارة، فكانت الحياة الروتينية تخنقه من كل اتجاه، كان يبدأ يومه وهو يشعر أن هناك شيئاً ناقصاً، هناك جانب مفقود يجعل سعادته غير مكتملة، تسير روحه هائمة ضائعة لا تعرف طريق الشغف.
استيقظ جو ليجد نفسه في طابور طويل يُسمى "طابور الموت"، المحطة الأخيرة التي لا يريد أي شخص منا أن يصل إليها دون أن يكون قد حقق نصف أحلامه على الأقل، ظلّ يصرخ: "لن أموت يوم حصولي على الفرصة، لن أموت اليوم، حياتي بدأت للتو".
في رحلة البحث عن شغف "جو جاردنر" يكتشف أن كُل روح لديها "شرارة/spark" بريق، تمنح روحها شكلاً خاصاً ليجعلها تلمع وسط الكثير من الأرواح لتختارها وتقع في حُبها، وهناك أيضاً داخل تلك الأرواح أشياء بسيطة تجعل صاحبها يتراقص بداخله من السعادة، وشخصيته تتشكل قبل أن تولد مستقلة حُرة، فهُناك الشخص الفضولي، المرح، البسيط، الانطوائي، الاجتماعي، وهكذا.
وجد جو لنفسه مخرجاً حتى يعود لجسده، وهو أن يساعد إحدى الأرواح لتجد شرارتها وتكتمل علامتها، لتنزل إلى عالم الأرض وتبدأ حياتها، تلك الروح كانت "22" العنيدة، المرحة، الشقية أيضاً التي لم ينجح أحد معها، فشل معها العديد من الشخصيات مثل: الأم تيريزا ومحمد علي والعالم نيكولاس كوبرنيكوس.
حاول معها جو وجعلها تجرب الكثير من الأشياء المثيرة لكنه لم يفلح، دخل معها في مغامرة وتحدّ حتى نجحا معاً في النزول إلى الأرض، لكن حدث ما لم يكن متوقعاً! سكنت روح "22" في جسد جو في المشفى، وأصبح هو في جسد قط وبدأت المغامرة، تعرف فيها جو جاردنر على نفسه لأول مرة بعين الروح "22".
هل حقاً تعلم من أنت؟
كانت هذه الروح مرحة تركت نفسها حرة تفعل كُل ما تريد لا تهتم بنظرة الناس لها وأصدقاء جو بالتحديد، نجحت في الحصول على إعجاب الناس وخطفت أنظارهم في صالون الحلاقة، وتحدثت معهم في مواضيع مختلفة، مواضيع لم يتطرق لها جو من قبل، تذوقت "قطعة البيتزا" لأول مرة وأحبتها، كانت شخصيتها عكس شخصية جو تماماً، فهو منطوٍ، وإذا تحدث كانت مواضيعه فقط عن الموسيقى وشغفه بها، لم يعط أحد فرصة للتعبير عن نفسه، كانت الروح "22" تكره الأرض قبل أن تنزل إليها، لكن عندما عاشت فيها واختلطت بالناس في شوارع نيويورك وشعرت بلذة الحياة رفضت العودة، وهربت من جو الذي اعتقد أنها أحبت الحياة فقط لأنها تسكن في جسده، تحب ما يحبه، وتكره ما يكره، لكنها سقطت وعادوا إلى عالمهم مرة أخرى، وألقت الشارة في وجه جو ليعود إلى الأرض ويحقق شغفه بالعزف مع دوريثا ويليامز.
عندما عاد وحقق حلمه وعزف وصفق له الجمهور خرج وهو يقول "ماذا سيحدث بعد ذلك؟"، فالإنسان الذي يضع السعادة هدفاً أمامه لا يكتفي، يريد المزيد، لكن كانت المفاجأة لا، ليس هناك المزيد، قالت له دورثيا: لا شيء، نعود غداً ونكرر نفس الأمر.
what's wrong?
= it is just I have been waiting on this day for my entire life, I Thought I would feel different.
وهنا كانت رسالة الفيلم، عندما قالت له حكاية السمكة "سمعت قصة عن سمكة، هذه السمكة كانت تسبح برفقة سمكة كبيرة، وقالت لها: أحاول العثور على ذلك الشيء الذي يدعى المحيط، ردت السمكة الكبيرة: المحيط؟ إنه ما أنتِ فيه الآن، فردت السمكة الصغيرة هذا ماء أنا أريد المحيط.
أدرك جو الخطأ، وتذكر كل ما عاشه مع الروح "22" وحبها للحياة وسخريته منها، واتهامها بالأنانية، وقرر العودة لهذا العالم مرة أخرى، ليعتذر منها ويخبرها أنه أصبح يقدر قيمة كُل شيء، بعدها قامت الأرواح الملائكية بمنحه فرصة أخرى للعودة إلى جسده وحياته، لكن عاد الآن وهو شخص مختلف تماماً، عرف أخيراً أنه كان في حرب لا تستحق.
" السعي إلى الكمال.. يفقدك سعادتك"
قال "مون ويند" الذي يُجسد شخصية الحكيم لجو جاردنر جملة: إن الحياة ممتعة، ولكن الهوس بهذه المُتعة هو ما يجعلنا ننفصل عن الحياة.
الحياة كمعنى تكمن في إحساسك بالتفاصيل، هذا ما جعلتني الكورونا أشعر به؛ أصبحت أقدر أنني أستيقظ كُل ليلة ومن أحب سالمين، لم تطُلْهم يد الفيروس اللعينة.
نظرت إلى يومي العادي وأصبحت أشكر الله عليه، أدركت أن كل شيء في يومي يمكن أن تكون فيه شرارتي.
نظرتي تغيرت تجاه كل شيء، لم أعد أبحث عن شيء أعظم مما في يدي، تركت السعي وراء الكمال، وأدركت أن السعادة في التفاصيل البسيطة؛ في ضحكة من القلب، جلستك مع صديقتك، عناق والدتك لك عندما تهاجمك نوبات الحزن، شعورك بالفرح عندما تجد أن والدك عاد من العمل وهو يحمل لك في يده ما تحب، الجلوس معهم على مائدة طعام واحدة وأنتم تضحكون على مسرحية العيال كبرت مثلاً.
السعادة في قهوتك المفضلة بعد يوم طويل، أن تجد فيلمك المفضل يُعرض في التلفاز، أن ترتدي بيجامتك التي تحبها، أن تجرب شيئاً جديداً على روحك، وتدرك أن الأمر كان يستحق المحاولة، أن يساعدك أحدهم فيرزقك الله بمن يقف بجانبك في محنتك، ويرد لك الخير الضعف، عندما ينقذك الله عندما تظن أنها النهاية، أن يدعو لك شخص لا تعرفه، أن تتعاطف مع من حولك، أن تضع عطرك المُفضل، أن تكون النجاة لأحدهم، أن يختارك لتشاركه فرحته بالإنجازات الصغيرة التي يقوم بها، أن تدرك أن الكنز ليس في الوصول ولا في سعادتك المؤقته، إنما الرحلة نفسها في استمتاعك بكل لحظة سعيدة تعيشها، حتى اللحظات الصعبة والمحن ولحظات الفشل، أن تعطي كل لحظة وكل شعور حقه.
So what do you think you will do, how you gonna spend your life?
= I am not sure but I do know I am gonna live every minute of it
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.