على امتداد الأحداث التي شهدتها وتشهدها المنطقة، أثبتت الحرب عدم صلاحيتها كفرضية لتحقيق السلام، وبات من الواضح تماماً أن لا مناص من التسليم بأن "السلام هو الطريق للخروج من حالة الفوضى".
لكن وعلى الرغم من كون السلام هو "الحالة الطبيعية" للمجتمعات وكون العنف غير متأصل في بنيتها، فإن ثمة من يرفض السلام -بل ويرفض حتى مجرد التفكير فيه- ويظهر سلوكاً مناوئاً لكل الإجراءات الرامية لوضع حد للحرب. ويقدم تبريرات ركيكة، لإضفاء نوع من المقبولية على خياره هذا.
وبما ينطوي عليه "رفض التسوية" من تبريرات، تغذيها مصالح الأطراف وحساباتها، فإن ثمة أسباباً ودوافع قصيَّة وخارجة عن سياق (الطرح الاجتزائي، التسطيحي)، تُشخِّص هذا الرفض.
ما لا يمكن تحقيقه بالسلم يمكن تحقيقه بالقوة
عندما تفشل الجماعات المتمردة في الوصول إلى السلطة بطرق مشروعة، فإنها تتحين الفرصة وتنتهز حالة الضعف والتململ التي تعتري السلطة المركزية، فتنقض عليها كفريسة سهلة، وترى أن تضييع هذه الفرصة سيعود عليها بالندم. هذا السلوك الانتهازي يحتم عليها رفض التراجع عن الخطوات التي أقدمت عليها، فيما لو تمكنت من السيطرة على الحكم، وترفض أن تقدم تنازلات بغية التوصل لحل وسط، لأن محاولة تقديم تنازلات -باعتقادها- هي تفريط في المكتسبات التي تحققت في ظل الحرب.
أيضاً، افتقار هذه الجماعات لمشروع حقيقي، وضحالة وضآلة خبرتها في إدارة مؤسسات الدولة، يقلل من رصيدها لدى جماهير الشعب، ولهذا، هي تؤمن بعدم وجود فرصة للوصول للسلطة، إذا ما سلكت المسار الديمقراطي، واشتغلت بآلياته السلمية، وما من وسيلة سوى القوة، للاستحواذ على السلطة، وما من سبيل سوى الحرب، فهي الطريق المختصر حتى وإن طال أمدها، أبد الدهر.
الحرب شريان حياة
تمثل الحرب بيئة مواتية ومناخاً ملائماً لتحقيق مكاسب لم تكن لتتحقق في حالة السلم، فالحرب هي الطريق المختصر نحو الإثراء السريع، سواء بالسيطرة على موارد ومؤسسات البلد، أو بتلقي الدعم والتمويل من قبل أطراف خارجية لها أجندتها الخاصة.
وبالتالي فإن إيقاف الحرب يشكل تهديداً لمصالح الجماعة هذه، التي لا تزدهر إلا في ظل الفوضى والاضطراب، وانتهاءها (الحرب) قطع للشريان المغذي لكيانها.. وكنتيجة طبيعة لهذا، ومن منظور براغماتي، فإن السلام يمثل خسارة فادحة، لا يمكن تحملها أو القبول بها.
نصف ثورة، هلاك كامل
تتوسل جماعات التمرد، مقولة "من يقوم بنصف ثورة كمن يحفر قبره بيده". على اعتبار أن العنف الذي تمارسه ثورة مجيدة، تستهدف منظومة الفساد، وبما هي عليه الثورة من كونها فعلاً وحركة باتجاه الأمام، فإن التوصل لتسوية يعني التوقف عن الفعل الثوري، وتعطُّل المسار الثوري، يعني النكوص والتقهقر، والتفاوض من أجل التوصل لتسوية، ما هو إلا مسمار يُدَق في نعش الثورة، ولتفادي كل هذا، فإن خيار مواصلة النضال، ورفض التسوية، هو المنطقي والمفضل على خيار السلام.
الرابح يأخذ كل شيء
السلام العادل الذي يتقاسم فوائده الجميع، غير مقبول، عند جماعات التمرد، فالمكاسب -هنا- لا تقبل القسمة على اثنين، ذلك أنها تناور (الجماعة) وتتحرك من مبدأ "إما كل شيء أو لا شيء" في موقف ينطوي على رؤية متطرفة تركز على الجانب السلبي لأي موقف، وتتغاضى عن البدائل الأخرى، وإن كانت إيجابية. كما تنظر للحلول الوسط، التي تضمنت إشراك الآخر في عوائد التسوية، تنظر لها على أنها شِراك قاتلة.
وحينما تتحدث الجماعات المسلحة عن (عدم الاستسلام) فهي تعني عدم القبول بالسلام، وعندما تتحدث عن السلام فهي تعني السلام الذي يحقق لها كل المكاسب.
مزيد من المناورة مزيد من المكاسب
حتى وإن أبدت (جماعات العنف) رغبتها في التفاوض، للوصول إلى تسوية، فإنها تماطل وتناور لتحقيق مزيد من المكاسب على الأرض، وتنتهج سياسة "إلقاء اللوم" على الطرف الآخر، وتحمله مسؤولية عدم التجاوب مع دعوات السلام.
وباعتقادها فإن هذا يعطيها مبرراً لممارسة مزيد من الضغط العسكري، وتجريد خصمها من كل نقاط القوة التي لديه، لدفعه إلى الرضوخ لإملاءاتها وأجندتها.
وهي إذ تناور، فإنها تمارس لعبة الإلهاء مع أتباعها، فتقنعهم بأن الطريق إلى النصر ليس مفروشاً بالورود، بل هو درب شائك وطويل، يتطلب تضحية وصبراً، ومن يستعجل حصاد النضال، كمن يستعجل جني الثمار في غير أوان نضجها، وقياساً عليه؛ فإن الجنوح للسلام هو محاولة لجني ثمار غير ناضجة، وغير موجودة أصلاً.. وهي بهذا الإلهاء، تضمن استمرار أتباعها في مواصلة القتال، دونما كلل، ودونما رغبة في التوقف.
لذا؛ فإن تلكؤ جماعات التمرد وعدم تجاوبها مع دعوات السلام، يأتي في سياق الحرص على تعظيم وتضخيم المكاسب، التي لا تتأتى إلا في ظل الحرب.
عاقبة السلام غير مضمونة
السلام خطوة نحو المجهول، تنطوي على خطورة ومجازفة، لا يمكن التنبؤ بنتائجها وعوائدها، وفي أحسن الأحوال، تكون عوائد التسوية أقل من المأمول، ولن تشبع شهيتها مهما كانت ضخمة، إلا لو جُرِّد الطرف الآخر، وتنازل عن ما يمكن أن يحصل عليه من التسوية.
والحالة الوحيدة -ربما- التي تقبل فيها جماعات التمرد بخير السلام، هي عندما يكون ميزان القوى ليس في صالحها. ومن مقتضيات الأمر والواقع والظروف الموضوعية المحدقة بها، فإنها تقبل التسوية على مضض، وتنظر لها كاستراحة محارب، تعيد فيها لملمة شتاتها، واستعادة أنفاسها، إلى أن تواتيها الفرصة، فتتنصل عن الاتفاقات، وتخوض غمار العنف من جديد.
تأثير الراعي الرسمي
عندما يكون طرف ما، مجرد ترس في "ماكينة حرب" يديرها طرف خارجي ويتحكم بسيرورتها، ويستفيد من اشتغالها واشتعالها، فإن هذا الطرف المحلي، لا يملك من أمر السلام شيئاً، فأمره يعود للراعي الرسمي، فهو وحدة من يملك خيار السلام والحرب، وما الطرف المحلي إلا بيدق متحرك على رقعة الصراع.
يتطلب تحقيق السلام قيادة مرنة ومتزنة، تتخذ قرارات شجاعة، وتقدم تنازلات حقيقية، مع إدراك أن لا أحد بإمكانه إلغاء الآخر وإخراجه من المعادلة، وأنه لن تكون الظروف مواتية لطرف محدد، ليستحوذ على كل شيء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.