ظلام دامس يغطي المكان، ووسط هذا الدجى يسطع نور ويظهر تدريجياً، وكأنك داخل رحم أمك، وها أنت تخرج إلى الحياة، هذا الرحم هو قاعة السينما، والنور الساطع هي شاشة العرض، أما الحياة فهو الفيلم الذي ستشاهده.
قد تجد هذا المجاز مبالغاً فيه، لكنك لن تشعر بفحواه إلا عندما تطأ قدماك قاعة السينما أو العرض، فبعد جلوسك على مقعدك بتلك القاعة ستبهرك الأضواء الساطعة التي تخرج أمامك، ممثلون وممثلات تتدفق منهم حزمة من المشاعر داخل الشاشة، لتصل بذلك إلى فؤادك، إنه سحر السينما، الذي يُنسيك جلوسك بالقاعة، ويسافر بك إلى عالم من صنع مخرج الفيلم، كما قال المخرج البولندي رومان بولانسكي: "وحدها الأفلام الجيدة تُنسيك أنك جالس في دار السينما".
السينما.. سحر بلا حدود
لا يتوقف هذا السحر فقط عند تلك الحدود، بل هناك من المخرجين مَن لعب الذهاب للقاعات السينمائية دوراً مهماً في تكوينهم الأكاديمي، قبل أن يحترفوا مهنة الإخراج، وكانت تلك القاعات بمثابة جامعة خاصة لتعلُّم أساسيات الفن السابع، كما قال المخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو: "عندما يسألني الناس هل ذهبت إلى معهد للسينما أخبرهم أنني ذهبت إلى السينما".
وفي المغرب، وبالضبط في حقبة الستينيات إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، كان يُعد الذهاب إلى السينما من بين الطقوس الاعتيادية التي يُمارسها المغاربة في أجواء احتفالية تغمرها السعادة والبساطة في العيش، وخاصة في نهاية الأسبوع، والعطل المدرسية، وكذا في الأعياد الدينية والوطنية. كما أن قطاع القاعات السينمائية اعتُبر تجارة مربحة، وفي هذا الصدد يقول الكاتب والإعلامي سعيد فردي: " كان الاستثمار في مجال القاعات السينمائية عملية مربحة جداً، تمكن العديد من مستغلي القاعات من تحقيق الثراء منها، لكن منذ تسعينيات القرن الماضي ظلت هذه التجارة تتراجع، وأضحى الإقبال على مشاهدة الأفلام في القاعات السينمائية يتضاءل، وبدأ عدد القاعات يتقلص سنة بعد سنة، إلى أن أضحى حالياً لا يتجاوز الأربعين في مختلف المدن المغربية".
ربما قلة القاعات السينمائية ببلادنا من بين أسباب عزوف المغاربة عن ارتيادها، لكن هل هذه الأسباب كافية لجعلك ترفض طلب المشاهدة السينمائية داخل صالات العرض؟
شبح الفراغ يُخيّم على القاعات
يرى الكاتب والمحرر السينمائي أيوب واوجا، أننا في تربية أبنائنا نهمل جانب الذوق الفني والثقافي، فالمؤسسات التعليمية بالمغرب التي تدرس مادة التربية الفنية ضئيلة، وإن وُجدت تلك المدارس فالمقرر الدراسي الخاص بتلك المادة يقتصر على الرسم فقط، وتعلم تقنياته، بدلاً من تدريس تاريخ الفنون السبعة، خاصة السينما، باعتبارها فناً شاملاً لكل الفنون، ما ساهم في اندثار العادات التي تُرسخ عشق السينما، وأضاف أيوب: "الشعب الذي لا يتذوق الفن لا تنتظر منه اعتبار الذهاب إلى السينما روتيناً أسبوعياً كما كانت تفعل الأجيال السابقة، والتي بدورها لم تجد حينها بدائل أخرى قبل ظهور التلفاز، وفي وقتنا الحالي فقد أسهم الإنترنت، والهواتف الذكية، وكذلك المنصات الرقمية الخاصة بعرض الأفلام في ملء هذا الفراغ".
ويُعلّل أيوب نفور الناس من القاعات السينمائية بعوامل عدة، أبرزها قلة دور السينما والعرض ومواقعها الاستراتيجية التي تكلف الكثيرين عناء التنقل، وارتفاع سعر التذاكر، الذي يتراوح بين 60 و70 درهماً، لا يحفز الناس على مداومة فعل الذهاب إلى السينما.
"تعزِف الأغلبية عن الذهاب إلى السينما في المغرب لأسباب مادية، فمنطقياً سعر تذكرة الدخول يساوي ضعف المبلغ الذي ستعبّئ به رصيدك من الإنترنت الخاص بهاتفك أو حاسوبك ومشاهدة فيلمك المفضل من بيتك دون أن تحرك ساكناً".
هذا ما جاء على لسان الكاتب في مجال السينما وسيم أبرون، مؤكداً أن المنصات الرقمية مثل "نتفلكس" و"HBO" اغتالت القاعات السينمائية، وأغلب مستعملي تلك المنصات من الشباب. كما أرجع وسيم هذا النفور إلى ضعف التسويق والدعاية، وحمّل مسؤولية ذلك إلى مجموعة من الأطراف، أولها قاعة العرض أو السينما نفسها، التي لا تقوم بإعلانات ممولة لتلك الفيديوهات التشويقية الخاصة بالأفلام المعروضة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها، وتكتفي بإلصاق الإعلانات الورقية في مدخل قاعة العرض.
أما الأطراف الأخرى المتورطة فهي الصحافة باختلاف أنواعها ووسائل الإعلام السمعية البصرية، فقليلاً ما نجد تعريفات بالأفلام الرائجة في قاعات السينما المغربية، أو إجراء مقابلات ولقاءات مع المخرجين لتعميم وترسيخ الثقافة السينمائية لدى الشباب.
واعتبر السيناريست والمخرج السينمائي الشاب مهدي عبوبي الإنتاجات التلفزيونية المغربية سبباً رئيسياً في أزمة الذهاب إلى السينما، لما تعرضه من أفلام يخيل للمشاهدين أنها تعكس واقع الفن السابع، فهذه الأفلام التجارية تعتبرها فئة كبيرة من المجتمع بديلاً لإشباع رغباتهم الفكرية والفنية.
كما يعزو مهدي السبب الثاني -الذي كان بمثابة طلاق طويل بينه وبين القاعات السينمائية في مرحلة من عمره- لسلوكيات بعض الأشخاص داخل القاعة، حيث قال: "عندما كنت في الحادية عشرة من عمري اصطحبني والدي بمعية إخوتي إلى سينما "مبروكة" بمراكش، لم أنَم ليلتها بسبب سعادتي التي تجاوزت حينها سعادة المبشرين بالجنة، دخلنا القاعة، جلست في المقعد وكأني فوق عرش ألكسندر الأعظم، انطفأت أضواء القاعة لتنوب عنها أنوار شاشة العرض، لم أتذكر تفاصيل الفيلم سوى أنه كان باللغة الفرنسية، فتفاصيل القاعة وجمالها أنساني كلَّ شيء، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فخلال عرض الفيلم تلقيتُ صفعةً من الخلف، من طرف مراهقَيْن كانا يجلسان وراء مقعدي، كبتُّ الدموع في عيني بغية عدم إزعاج الجمهور، وعند انتهاء الفيلم أضيئت مصابيح القاعة، وعند نظري للخلف لم أجد المراهقين، فتحول ذلك اليوم من أسعد أيام حياتي إلى أسوئها".
السينما.. فضاء لإرضاء الرغبات الجنسية
"لم تكن القاعات السينمائية حكراً فقط على الفئة المهتمة بالمجال السينمائي، رغم أن ما يعرض في شاشاتها موجه بالدرجة الأولى للمهووسين بذلك الفن، ولم يسبق لدار عرض أو سينما أن وضعت لافتة في مدخلها، كتب عليها (خاص بالمشاهدين فقط)".
هكذا تكلم المخرج الشاب "قاسم السقلي" ليؤكد أن السينما فضاء حر، لا يقيد المشاهدين بأخلاقيات معينة، فأغلب الأشخاص داخل القاعة اتجهوا صوبها للإفلات من رقابة المجتمع، وأيضاً لإرضاء نزواتهم في بعض الأحيان، وأضاف قاسم: "من بين الأمثلة التي سأعزز بها كلامي، الفيلم الإيطالي (سينما باراديسو)، الذي قام بكتابته وإخراجه المخرج الإيطالي (جوزيبي تورناتوري)، حيث تناول هذا الفيلم مختلف الأشخاص الذين قد تجدهم بالقاعات السينمائية، فالذين يجلسون بالصفوف الأمامية هم الفئة المهتمة بالفيلم، تشاهده بأعينها، وأفئدتها وعقولها، أما مقاعد الصفوف الخلفية فيملأها المدخنون والمخمورون، أما فئة العشاق فهي كالشظايا في زوايا القاعة، تمارس الحب. فمن خلال هذا الفيلم الذي تدور جل أحداثه داخل قاعة للسينما يريد المخرج إيصال جمالية القاعات السينمائية باختلاف جمهورها، فكل واحد منهم تحكمه إرادته داخل تلك القاعة، وبهذا ندرك أن السينما للجميع، ولا تقتصر على نوع معين من الأشخاص".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.