باكراً صباح اليوم كان عليّ أن أستخرج بعض الوثائق، التي تستدعي مني الذهاب لإحدى المصالح الحكومية، التي تعتبر بالنسبة لي مركز تعذيب لكل من يرميه قدره باللجوء لها، استيقظت باكراً جداً لألحق أن أسجل اسمي في قائمة الحاضرين؛ ليتسنى لي أن أقدم على طلبي.
سجلت اسمي فأخبروني أن عليّ الانتظار لنحو ساعة ونصف، فهربت من المكان سريعاً قبل أن يتملكني شعور القهر من البيروقراطية التي تقتلنا ببطء شديد.
مررت على أختي لأقلها من عملها، حيث إن وجودها معي في المصلحة ضروري، ولأني أعلم جيداً أنني لن أجد مكاناً لأركن فيه السيارة، فقررنا أن نبحث عن مكان أبعد قليلاً، وإذ بنا في شارع بيتنا القديم، في وقت واحد، قلت أنا و أختي "ياااااه بيتنا القديم أهه وأحلى أيام عمرنا".
ابتسامة المشتاق ارتسمت على وجوهنا، لا أعلم هل كان اشتياقاً للمكان أم الزمان أم لأنفسنا حينها. قالت لي أختي: لقد كانت تلك الأيام أسعد أيام حياتي يا ليتني كنت أعلم ذلك، لكُنا أستغللناها واستمتعنا بها لأقصى حد. وقد كانت محقة، تلك السعادة التي كنا نشعر بها حينها لم أشعر بها منذ أن رحلنا عن ذلك البيت، ومنذ أن تركنا براءتنا وطفولتنا هناك.
نظرت لتلك الشقة الصغيرة التي كانت تحتضننا أنا وإخوتي ووالدي، هذا البيت الذي شهد على ميلادي وإخوتي وعلى خناقاتنا ولهونا وفرحنا وبكائنا، هذه البلكونة التي كانت بالنسبة لي نافذة على العالم، كنا نراها كبيرة جداً، نتسابق فيها ويلعب فيها أخي بالبلي، ونتحدث من خلالها مع جيراننا الذين كانوا بمثابة عائلة ثانية لنا.
أتذكر حضور أصدقائنا من البيوت المجاورة صباحاً للعب على السلم، تخيلوا أن سلم البيت لم يكن قط للصعود والنزول بالنسبة لنا، لقد كان ملتقى الأصدقاء، حيث نتفق على الغديوة والعشيوة التي يجلب كل منا طبقاَ فيه أي شيء يؤكل ونتناوله بشهية مفتوحة، كانت ضحكاتنا وصراخنا تملأ البيت، والحمد لله لم يشتكِ أحد.
أتذكر وقتها أن قنوات التلفزيون 3 قنوات فقط، وكنا ننتظر الكرتون دبدوب بكل شوق. كما كانت تحضر لبيتنا جارتنا طنط نبيلة التي تشبه القمر لتشاهد المسلسل مع والدتي، وبعده مباشرة نشرة الأخبار التي كنت أمقتها حينها، والآن زاد مقتي وكرهي لها.
أتذكر زيارة خالي وزوجته وأبنائهما لنا، وكيف لهذا البيت الصغير جداً يسع هذا العدد، بل كنا نراه كبيراً لدرجة أن أقاربنا اعتادوا البيات عندنا. حينها كنا نجتمع مع أبناء أخوالي ونستعد لأن نستمع لأختي المبدعة، وهي تقص علينا إحدى قصصها التي ألفتها، كنا جميعاً نجلس في اشتياق وسعادة ونحن نستمع لها وهي تتفنن في وصف الحدوتة وأبطالها وكنا نردد "احكي لنا يا رانيا"، ونغنيها بصوت عال حتى تبدأ هي بالسرد. كانت تلك القصص من أمتع ما سمعت رغم أنها من تأليف طفلة لا تتعدى العشر سنوات.
أتذكر جارتنا طنط ليلى التي لم تتزوج ولم يرزقها الله بأبناء، تلك السيدة التي تعلمت منها الكثير، كانت بمثابة أمي الثانية، وكثير من الناس كانوا يعتقدون أنها أمي لحبها الكبير لي ولملازمتي لها طول الوقت، كانت كريمة بشكل لم أشهده قط، بيتها مفتوح لكل محتاج، عفيفة وشريفة وحافظة لكتاب الله، أتذكر الكفتة التي كانت تعدها لي، والتي لم أذق في حلاوتها في أي مكان في العالم، وكانت تلح عليّ أن أتعلم منها الطريقة قائلة: "اتعلمي الطريقة علشان لما أموت تعمليها وتدعيلي"، وأتذكر تعبها في تحضير وجبات وتوزيعها على الطالبات المغتربات اللاتي كن يقطن العقار المقابل لها.
أتذكر قلبها النقي وروحها الحلوة وحياتها التي بدت للغريب حياة هانئة، ولكنها في حقيقة الأمر كانت وحيدة تعافر في هذه الحياة بكل طاقتها في مجتمع لا يقبل المرأة العازبة.
توفيت طنط ليلى وأنا كنت في بلد آخر بعيدة عنها.. لم أسامح نفسي قط أدعو لها في كل صلاة، وكما قالت، لقد ندمت أنني لم أتعلم منها كيفية عمل الكفتة خاصتها، ولكني متأكدة أنني حتى لو كنت تعلمتها فلن أستمتع بطعمها طالما ليست من يديها. كان بيتها أثرياً على الطراز القديم حيث كانت الشرفات عالية والسطح بعيد، مررنا بجواره، إذ تحول لعمارة صامتة لا تحمل ذكرى لأحد، ولكنها ارتكزت على أحلى ذكرياتنا. رحمك الله يا حبيبتي ورزقك من كرمه.
أتذكر والدتي وهي عائدة من العمل منهكة لتجدني أنا وأختي وقد اجتهدنا في تنفيذ مصيبة ما، إما أغرقنا الشقة بالماء على أمل أن ننظفها فتعود هي مرهقة وتشمر عن ساعديها وتبدأ في إصلاح ما أفسدناه، أو تجدنا أفرغنا الثلاجة من الفاكهة وصينية القرص التي سهرت في إعدادها لا تجد فيها قرصة واحدة، فلقد وزعناها على المارة في الشارع من البلكونة. أدعو لله لك دائماً يا أمي، لقد تحملت الكثير والكثير بارك الله في صحتك وعمرك وأسعد قلبك.
أتذكر ذلك الشارع الذي كنا نسهر فيه حتى منتصف الليل نلعب مع البنات جيراننا في أمان تام، أتذكر تجمعنا أول يوم رمضان ونحن نحمل الفوانيس قبل أذان المغرب ووقوفنا في دائرة في انتظار سماع مدفع الإفطار، وتسابقنا للوصول لبيوتنا بعد انطلاق المدفع، كانت من أحلى أيام حياتي تلك الأيام، حيث كنا ننتظر فوازير نيللي ثم ألف ليلة وليلة ومسلسل ليالي الحلمية وغيره من المسلسلات الرائعة التي كانت تعرض في الشهر الكريم، أتذكر المسجد العباسي المقابل لبيتنا وهو مكتظ بالناس أثناء صلاة التراويح، فلقد كان معروفاً بجمال صوت الشيخ ودعائه الطويل، كانت الناس تأتي من بعيد فقط للاستمتاع بالخشوع في الصلاة خلف هذا الشيخ، رحمه الله.
أتذكر والدي وهو عائد من العمل يحمل ما لذ وطاب من الفاكهة، كان محباً للحياة، دمه خفيف وعصبي جداً، أعتقد ورثت منه العصبية ولكني أيضاً ورثت منه الكرم.
أتذكر لجوء أبناء قريتنا لأبي في كل صغيرة وكبيرة وكان لا يخذلهم أبداً، كانت الناس قيمتهم في شخصهم وليس ما يملكونه. هذا ما علمه لنا أبي رحمة الله عليه.
أتذكر أخي الصغير الذي لم أنسه قط ونحن نحمله وهو في عمر السنة ونضعه على سور البلكونة والناس في العقار المقابل يصرخون خوفاً عليه، أتذكر كم كان عاشقاً للضحك وطيب القلب، أتذكر حنيته على القطط وحبه للتكنولوجيا وذكاءه الخارق في تفكيك وتركيب أي جهاز. أتذكر حب كل أطفال الشارع له وحياءه من الفتيات، أو أتذكر أنني لم أسعد قط منذ أن فارقنا للأبد، رحمك الله يا حبيبي وجمعنا وإياك في الجنة.
وصلت للمصلحة وأنا وأختي في حالة من النوستالجيا والإحساس بالاشتياق لتلك الأيام ولبيتنا وأحبائنا ولأنفسنا آنذاك.
في بيتنا القديم كانت الفرحة حقيقية والسعادة من القلب والأحباب متجمعين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.