أنذر إيران بالحرب وأهان أمريكا في حضور الإمارات والبحرين.. كيف كشفت تهديدات قائد جيش إسرائيل هشاشة بلاده؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/04 الساعة 12:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/04 الساعة 12:37 بتوقيت غرينتش
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي إلى جانب نتنياهو، أرشيفية/ Ynet

قبل أسبوع، عُقد مؤتمر أمني مهم في معهد دراسات الأمن القومي بدولة الاحتلال (INSS)، والذي يحضره دائماً كبار مسؤولي الجيش، ويلقي به رئيس الأركان خطاباً حول الوضع الأمني للدولة، بالإضافة إلى بعض المسؤولين المهمين من الدول الكبرى للتعبير عن مساندتهم لـ"إسرائيل"، وقد جدّ على هذه النسخة حضور وزراء خارجية عرب، من الإمارات والبحرين، في ضوء اتفاقيات التطبيع الأخيرة.

الحدث الأهمّ على الإطلاق، بجانب الحضور العربيّ الرسميّ لهذه النسخة، كانت تصريحات رئيس أركان جيش الاحتلال، أڤيڤ كوخاڤي، أهمّ رجل في الجيش على الإطلاق، والتي ألمح خلالها إلى نيّة "إسرائيل" التصرّف، بشكل أحاديّ، مع طهران، إذا عادت إدارة بايدن الجديدة إلى الاتفاق النوويّ الذي أبرمه أوباما وألغاه ترامب لاحقاً.

بالنسبة لكوخاڤي، فإن هذا الموقف الجديد لا يعني تململ "إسرائيل" من موقف حليفتها الكبرى، الولايات المتحدة، حول معالجة الملف الإيرانيّ فقط، وإنما يعني أيضاً، اتخاذ وضع عسكريّ وسياسيّ مغاير، لما كان في السابق من تماهٍ شبه كامل بين مواقفها ومواقف واشنطن، حيث ستكون مضطرّة للإعداد لمرحلةٍ تشبه فلسفة مرحلة ترامب في نية انسحاب واشنطن من المنطقة، ولكن مع دعمٍ أقلّ في مرحلة بايدن، قياساً على ما قدّمه ترامب لـ"إسرائيل" من خدمات، بالإضافة إلى تفاهمٍ عال وغير مسبوق بين المستوى السياسيّ والعسكريّ في الاحتلال، تجاه إيران.

هذا ما عناه كوخافي بالتحديد في خطابه بالمعهد الأمنيّ. "إسرائيل" غاضبة، وبمقدورها الاعتماد على نفسها. ضرورة الاعتماد على نفسها ليست وليدة اللحظة، فقد بدأت منذ حقبة ترامب الذي أعلن الانسحاب من سوريا والعراق والمنطقة برمتها، ولكن ما استجد أن دعم ترامب السياسي لـ"إسرائيل" لن يكون موجوداً في عهد بايدن ما يعني مرحلة جديدة من العلاقات التاريخية مع أمريكا. "إسرائيل" كانت تعول على واشنطن، ولكنها كبرت وتعيد رسم خريطة حلفائها في المنطقة بعيداً نسبياً عن الحليفة الكبرى. 

ومع ذلك؛ فإن مضامين هذا الخطاب، ورسائله، كانت رعناء، وغير مسؤولة، وغير قابلة للتنفيذ، كما وصفها معظم المجتمع الأمنيّ والسياسيّ في "إسرائيل"، فلماذا حدثت هذه الفجوة؟

رسائل كوخاڤي

هناك 3 مقدمات ضمنية انطلق منها كوخاڤي في خطابه الذي ناهز الساعة أمام المعهد الأمنيّ الأهمّ في "إسرائيل"، وهي أنّ هناك نية حقيقية لدى الإدارة الأمريكية الجديدة للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وأن الخطوط العامة للسياسة الخارجية الأمريكية الجديدة لن تتماشى مع تصورات "إسرائيل" عن الوضع الأمني المثالي في المنطقة تجاه تقويض الخطرين السنّي، السلفي الجهادي والإسلام السياسي، والخطر الشيعي، وأن هناك ارتياحاً عاماً في إيران من وصول بايدن إلى السلطة، ومن ثم فإنه، وإن كانت هناك نية للحرب، فإنها ستكون من "إسرائيل" التي جعلتها سياسةُ واشنطن المرتابة الوحيدة من التهديدات الإيرانية.

بناءً على هذه المقدمات الثلاث وما قد يدخل في مضمونها، فقد وجه رئيس أركان الجيش "الإسرائيلي" خطابه إلى العالم، والبيت الأبيض، والمنطقة على التوالي، عن أن بلاده نجحت في تكوين تحالفاتٍ صغيرة في منطقة الشرق الأوسط، بدايةً من مصر واليونان في جنوب شرق البحر المتوسط، إلى الثلاثيّ السنّي، السعودية والإمارات والبحرين، في البحر الأحمر والخليج العربي، لمقابلة التحالفات الإيرانية التي قررت واشنطن تجاهلها في الدائرتين الأمنيتين الثانية والثالثة، العراق واليمن، ثم الدائرة الأقرب في لبنان وسوريا وفلسطين.

منذ عام 2013 تقريباً، يتّبع الجيش "الإسرائيلي" وفق كوخاڤي، مبدأ الحرب بين الحروب: "مبام"، وهي النظرية التي ارتضتها "إسرائيل" لعدم توريط نفسها أو حلفائها في المنطقة بحرب شاملة، بحيث تمنع فقط، أي تموضع عسكري خطير من أعدائها بالقرب من مجالها الحيوي، عبر استهداف شحنات السلاح والقيادات الميدانية، أولاً بأول.

 وقد أسفرت هذه الخطة عن ضرب 500 هدف تقريباً عام 2020 في النطاقات المجاورة، بما في ذلك ما حدث في غزة نوفمبر/تشرين الثاني، نهاية 2019، حيث اغتيال بهاء أبو العطا وشن عملية ناجحة ضد مطلقي الصواريخ من الجهاد الإسلامي، وصولاً إلى عملية كوماندوز بحرية ناجحة خارج الحدود ونطاقات العمل المعتادة، ديسمبر/كانون الماضي.

ولكن هذه الاستراتيجية لن تبقى ملائمة للعمل في المنطقة في ظل التهديدات الجديدة المرشحة للظهور بالتزامن مع تولي إدارة بايدن للسلطة، وعلى رأسها العودة غير الاضطرارية للاتفاق النووي مع إيران.

فقد أثبت توجه ترامب، بالخروج من الاتفاق النووي، وممارسة أقصى ضغط اقتصادي وسياسيٍّ ممكن عبر سلاح العقوبات، بجانب الضربات "الإسرائيلية" – عن بعد – إلى المنشآت والشخصيات الرئيسية، نجاحَه ليس في تعطيل البرنامج النووي وحسب، ولكن في خنق النظام نفسه اقتصادياً واجتماعياً، لذلك فإن هذه العودة المرتقبة إلى الاتفاق، حتى وإن كان اتفاقاً محسناً، ستمنح إيران أمرين مرفوضيْن "إسرائيلياً": الوقت اللازم للمضي قدماً في البرنامج النووي تحت مظلة الشرعية الدولية، والدعم الاقتصادي الذي سيساعد النظام على التحرك بأريحية داخلياً وخارجياً.

وبناءً عليه، فإن "إسرائيل" باتت مضطرة لتطوير خططها العسكرية الحالية، لتتواءم مع احتمال قيامها بتوجيه ضربة عسكرية مركزة لإيران بمفردها، ومن الآن فصاعداً، على سكان دوائر المواجهة الكبرى، وبالأخص في غزة ولبنان، الاستعداد لترك منازلهم القريبة من مناطق وجود المسلحين، لأن القانون الأخلاقي القاضي بمنع استهداف المدنيين في الحرب، لا يسري على هذا الوضع، إذ إن السماح بإطلاق الصواريخ من هذه المناطق المكتظة بالسكان سيؤدي إلى وقوع ضحايا مدنيين في "إسرائيل" أيضاً، وهو ما يعني أن المسؤولية الأخلاقية تقع على عاتق من بادر باستخدام المدنيين دروعاً بشرية أولاً، لا على من يريد حماية نفسه.

إهانة للولايات المتحدة

بالنسبة لكثير من المتخصصين، والكُتاب البعيدين نسبياً عن الاستقطاب السياسي في "إسرائيل"، فإن خطاب رئيس الأركان في هذا التوقيت، حيث يتودد كل قادة العالم، بما في ذلك قادة الدول الاستبدادية، لرئيس أمريكا الجديد، ويعملون على إعادة ترتيب تحالفاتهم على أساس تجنب التصعيد معه أو إغضابه، وبهذه الطريقة الفجة، علنا، يعد إهانةً واستهتاراً غير مبرر بالدولة التي طالما وقفت مع الاحتلال.

يقول عاموس هرئيل في صحيفة "هآرتس" نصاً: "يجب ألا يُعطي أرفع ضابط بالجيش الإسرائيلي تعليمات علنية لحليفنا الرئيسي، في مؤتمر ومسرح، هو الأهم سياسياً منذ مؤتمر هرتسيليا. في عام 2015، حيث وقع باراك أوباما الاتفاق النووي مع إيران، كان هناك تقدير موقف داخلي في الدولة، بضرورة عدم التصعيد مع واشنطن، حتى لو كان الاتفاق سيئاً".

وبحسب عاموس جلعاد من "يديعوت أحرونوت" في نفس السياق، فإن التقدير "الإسرائيلي" بضرورة تجنب خسارة الولايات المتحدة، حتى لو كان الاتفاق غير مناسب عام 2015، جاء كرد فعل على غضب الولايات المتحدة من ضغوطات نتنياهو المشابهة على الإدارة الأمريكية وقتها، ومن ثم، فإن البلاد تعيد الآن تكرار نفس الخطأ، ولكن على مستوى أعلى، من السياسي إلى العسكري، ناهيك أصلاً عن وجود مبالغات في الارتياب من الأثر الإيجابي للاتفاق المحتمل على برنامج إيران النووي، إذ، كما تساءل جلعاد: لماذا ستتآمر هذه الدول الكبرى كلها من أجل مساعدة إيران في الحصول على قنبلة نووية؟

يمكن فهم حجم هذه المجازفة، عندما ندرك أن هذا التصعيد الرسمي العلني، ضد الولايات المتحدة، جاء إيذاء ملف، هو من صُلب مشروع بايدن الرئاسي قبل أن يصل إلى السلطة، ما يعني أنه لا مجال كبير للتراجع من الإدارة الأمريكية أمام هذا التصعيد، وإذا كانت الإدارة الأمريكية لن تتراجع، أو لا تملك التراجع، في نفس الوقت الذي تمارس أنت فيه، كمسؤول رفيع وقائد للجيش أقصى وأسوأ ضغط ممكن، فإن هذا لا يمكن اعتباره إلا "وصفة متعمدة لإفساد العلاقات مع واشنطن"، كما قال هرئيل.

وحتى ندرك حجم الأزمة التي خلفها هذا الخطاب في أروقة السلطة بدولة الاحتلال، فيكفي أن تعلم أن قادة أكبر المراكز السياسية والأمنية، حتى تلك المقربة من نتنياهو والتي تتصل وثيقاً بالجيش، لم يستطيعوا لجم ألسنتهم عن انتقاد هذا الخطأ الجسيم، على أمل تدارك الأمر، ونقل رسالة ضمنية إلى واشنطن بأن هذا الموقف لا يعبر عن وجهة نظر حكام "إسرائيل" بالكامل.

فقد انتقد يوسي كوهين، مدير الموساد، علناً، تصريحات قائد أركان الجيش، واصفاً إياها بالرعناء، وطار على الفور إلى الولايات المتحدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفق الخارطة العقلانية المطروحة لإدارة هذا المأزق، الخاص بنية أمريكا العودة إلى اتفاق دولي لا يعجب "إسرائيل"، والتي تحدث عنها مسؤولون رفيعو المستوى، مثل وزير الخارجية غابي أشكنازي بعد تصريحات كوخاڤي قائلاً: "من الأفضل إجراء محادثات هادئة في الغرف المغلقة، لا أريد أن يقال إننا نملي على الأمريكيين سياسة مضادة عبر الإعلام".

ما يمكن لـ"إسرائيل" التأثير فيه، وما يجب عليها فعله في هذا الوضع، وفقاً لهذا الخط الهادئ، هو أن تظل أقرب ما يكون من الولايات المتحدة، أقرب حتى من ذي قبل، لا أن تبتعد عنها كما ستؤدي سياسة كوخاڤي الجديدة، ومن خلال هذا التقارب ستتمكن "إسرائيل" من صياغة اتفاق جديد، معدل، تضمن من خلاله تقويض مشروع طهران النووي، وتحصل في المقابل على تعويضات أمنية سخيّة من شقيقتها الكبرى التي لم تبخل عليها بشيء من قبل تقريباً.

أما هذا الموقف الانتحاري البعيد عن السياسة، لن يؤدي إلا إلى نبذ دولة الاحتلال، وتعظيم مكاسب إيران على المستوى السياسي، والمضيّ قدماً في الاتفاق النووي، دون مشاركة "إسرائيل" في صياغته، وإجبارها على التفكير في الحرب بمفردها، وخسارة مساعدات أمنية هي في أمسّ الحاجة إليها لتنفيذ الخطط القائمة على الأقل، مثل طائرات التزود بالوقود جواً، وطائرات النقل العسكري، خاصة بدائل طائرات "اليسعور" التي كثرت حوادثها مؤخراً، ولم تستطع قيادة الجيش توفير بدائل لها حتى الآن، كما يقول هرئيل وآخرون في نفس الاتجاه.

هروب إسرائيل إلى الأمام

مما لوحظ أيضاً في خطاب كوخاڤي الأخير هو مخالفته المتعمدة للعرف المهني السائد في هذا المقام، كلمة رئيس الأركان أمام معهد دراسات الأمن القومي، والتي اعتاد الرأي العام فيها سماع وجهة نظر قيادة الجيش عن الوضع الآنيّ للعلاقات المدنية والعسكرية في الكيان.

 فقد يكون صحيحاً أن هناك طارئاً خارجياً يستدعي الاستنفار، ولكن إذا كان هذا الطارئ متزامناً بالضبط مع مؤشرات داخلية خطيرة إلى حد كبير، وإذا كان المتحدث جاداً في التصدي لهذه المستجدات، فإنه من الأفضل أن يتم عرض التحديات، الداخلية والخارجية، معاً في نفس التوقيت.

كان هذا على الأقل التقليدَ المؤسسي الحاكم لهذا النوع من الخطابات حتى عهد غابي أشكنازي قائد الأركان سابقاً، والذي كان حاضراً في القاعة التي ألقى فيها كوخاڤي كلمته بصفته عضواً في المعهد، حيث كان أشكنازي يرى وقت تقلده المنصب أن التحديات الخارجية لا يمكن التصدي لها إلا بجبهة داخلية قوية، ومن ثم كان حريصاً على إبراز وجهة النظر الفنية حيال تطورات العلاقات المدنية العسكرية.

أما كوخاڤي، فقد تعمد مخالفة هذا العرف، والقفز إلى الأمام، بالرغم من التقارير الأخيرة التي تتحدث عن تراجع في الوضع الاجتماعيّ للجيش، واضطرابات في التقاليد المؤسسية الحاكمة للعلاقات العسكرية داخل مؤسسة الدفاع نفسها.

أهم المؤشرات التي تجاهلها كوخاڤي، متعمداً، كانت تقرير معهد الديمقراطية الرسمي عن تراجع ثقة المجتمع المحلي في الجيش، بسبب عدم قدرته على حسم الملفات الداخلية التي تتقاطع مع صميم عمله، مثل الموقف من تجنيد اليهود الأرذوكس (الحريديم) الذين يريدون اعتزال الحياة العملية، والتفرغ للعبادة وتفصيل المجتمع على مقاسهم، بما في ذلك الامتناع عن الخدمة العسكرية.

وبالإضافة إلى تقارير رسمية عن تراجع "الدافعية القتالية" لدى العنصر البشري الجيش، جراء الهزائم الأخيرة واستبسال الخصوم في المواجهات مع تقدم تقنيات الحرب الهجينة؛ فإن كوخاڤي تعمد أيضاً تجاهلَ أزمة مدير القوى البشرية في الجيش مع كل من الشرطة العسكرية والقضاء العسكري، على خلفية تساهل الشرطة العسكرية في التجاوز التأديبي ضد الجنود، ما يضاعف الضغوط النفسية عليهم، في نفس الوقت الذي يتقاعس فيه القضاء العسكري عن حماية الجنود من الشرطة، خاصة بعد واقعة إعادة ضابط شرطة عسكرية مفصول إلى العمل، رغم سياسته الضاغطة على جندي منتحر ببئر سبع مؤخراً.

تقديم الخطاب الفني لقائد الجيش بهذا الشكل الذي يركز على التهديدات الخارجية، خاصة تلك القادمة من إيران، بالمماحكة مع الولايات المتحدة، دون أي اهتمامٍ بالإشارة إلى موقف الجيش من الوضع الداخلي المضطرب، جعل بعض المراقبين في الداخل "الإسرائيلي" يشكون في النوايا الحقيقية لكوخاڤي من هذا الخطاب: هل نحن أمام تحليل فني موضوعي من قائد عسكري أم أن للخطاب أبعاداً سياسية غير ظاهرة؟

السياسة الداخلية

إذا كان الأمر هكذا، توتير مفتعَل للعلاقات مع الحليف التاريخي ومداراة للمشاكل أسفل البساط، فقد تتساءل: ما الذي يدفع قائداً عسكرياً بهذا الحجم إلى هذا التصرف؟ هل من المعقول أن يحظى شخص، يخطئ في تقدير أبسط الأمور، بثقة المستوى السياسي، والحربي، والمجتمعي، لحماية أمن أكثر دولة تقول إنها تشعر بالخطر دوماً؟ 

هناك تياران يحاولان تفسير هذا السلوك، التيار الأول، هو تيار فني بحت، موجود ولكن صدى تحليله يكاد يكون غيرَ مسموع، يقول إن هذه المجازفة التي قام بها كوخاڤي ناتجة عن استشعاره المسؤولية الحساسة لمنصبه، وخوفه من النقد التاريخي، أن يأتي جيل بعد سنوات قليلة من الآن ليقول إن سلفنا فرطوا في معادلة أمن، طالما سعى الآباء المؤسسون لحمايتها: "إسرائيل" وحدها القوة النووية والصاروخية في المنطقة.

بينما يولي التيار الثاني أهمية لعامل الوقت، ولكن من جهة معاكسة. فإذا كان هذا الوقت الذي ألقى كوخاڤي خطابه فيه متزامناً مع تنصيب إدارة أمريكية جديدة تريد التصالح مع إيران، فإنه ذات الوقت أيضاً الذي تنتظر "إسرائيل" فيه انتخاباتٍ برلمانية رابعة، بعد فشل الانتخابات الثلاثة الماضية في إفراز أغلبية واحدة للهيمنة على الكنيست، أو التوافق على تحالفات مستقرة لإدارة العلاقة بين الحكومة والكنيست والمجتمع.

بهذا الخطاب الجديد، أهدى كوخاڤي رئيسَ الوزراء "الإسرائيلي" نقطة انتخابيةً نوعية، فبعد سنوات طويلة كان نتنياهو يغرد فيها وحيداً عن ضرورة الحرب ضد إيران، والجيش يرى أن ذلك غير ممكن دون أمريكا، بات الجيش نفسه يقول إن الخطط ستكون جاهزة، في انتظار موافقة المستوى السياسي فقط، وهو ما سيساعد نتنياهو انتخابياً، خاصة بعد إطلاقه خطة جديدة لإنعاش الاقتصاد، وانسحاب موشيه يعالون من السباق السياسي، وتراجع جدعون ساعر خصمه من الليكود في معظم استطلاعات الرأي المحلية، وتفتت تحالف اليسار الذي أفرز جانتس.

ومن طريق غير مباشر، فإن هذا التصعيد قد يعطي المفاوض الأمريكيّ مساحةً كبيرة للضغط على إيران، كما تقول أدبيات السياسة، باعتباره تفاوضاً على طاولة قابلة للاشتعال، مما قد يحسّن كثيراً من تفاصيل الاتفاق الذي وافق عليه أوباما وانسحب منه ترامب. هنا، يكون كوخاڤي، يمارس أعلى مستوى ممكن من السياسة، ضد الولايات المتحدة نفسها.

أما كوخاڤي فسوف يستفيد من هذه الخطوة التي راهن خلالها على نتنياهو، في زيادة فرص التجديد له قائداً لأركان الجيش بعد نهاية مدته العام القادم، كما سيحصل على مزيد من الدعم المادي العاجل للجيش، بقيمة ملياري شيكل، بعد أن حصل على أكثر من 3 مليارات شيكل مؤخراً، للمضيِّ قدماً في طموحاته المهنية: خطة "تنوڤا" التي تقوم على الارتقاء بالجاهزية العملياتية للجيش لذروتها، والتوسع في استخدام النيران ضد الخصوم، بأسرع وقت ممكن، على جبهات متعددة.

الحرب غير مطروحة

ما يرجح أن كلمات كوخاڤي أمام المعهد الأمني كانت نتاجاً لتنسيق ثنائي بينه وبين نتنياهو في الأساس، هي التصريحاتُ الرسمية التالية للخطاب مباشرة من قلب الحكومة، حيث قال نتنياهو إن ما عرضه كوخاڤي في الكلمة يمثل وجهة نظره منذ زمن، فيما قال رئيس كوخاڤي المباشر، بيني غانتس، زعيم حزب أزرق أبيض (كحول لاڤان) ووزير الحرب، إن كوخاڤي لم يطلعه على مضمون الكلمة التي سيقولها في انتهاك واضح للأعراف المؤسسية وتعبير عن الطريقة العشوائية لإدارة الملفات في البلاد.

وزير الحرب نفسه شن هجوماً شديداً على الجيش عقب الكلمة، ألمح فيها إلى أن الجيش الإسرائيلي صار أسيراً لسياسة نتنياهو، وقال إنه تحول إلى حفنة من المغفلين، وإن هناك حاجة ماسة إلى تغيير الوضع الحالي، لأن إسرائيل تقف على الحافة، وليس أدل على ذلك من سوء إدارة أزمة كورونا، وعدم حسم ملف تجنيد اليهود المتدينين في الجيش، حيث يقف نتنياهو حجر عثرة أمام إجبارهم على ذلك.

أما عن الحرب ضد إيران فمن المفترض نظرياً ألا يتعارض عملُ كوخاڤي لصالح نتنياهو، عبر الإيحاء بوحدة المستويين السياسي والعسكري لأول مرة بهذا الشكل لدعمه انتخابياً، مع إمكان الحرب المنفردة على إيران؛ ولكن لا يبدو أن أحداً في إسرائيل يأخذ هذه التهديدات على محمل الجد، إلا نتنياهو وكوخاڤي، باعتبار جدية كلامهما.

فقد جاءت تصريحات وزيري الخارجية الإماراتي والبحريني نفسهما مخالفةً إلى حد كبير لمضمون تصريحات كوخاڤي، وكانت أقرب إلى فكرة ضرورة أن تتضمن المفاوضات القادمة حلاً للبرنامج الصاروخي ومراجعة مجمل السياسات الخارجية الإيرانية، لا البرنامج النووي فقط، مع الترحيب بـ"الجزرة" ممثلة في حزم تحفيز اقتصادي لإيران، حتى لا يؤدي الخنق الشديد إلى إجبار طهران على تصدير التوتر إلى الخليج الهش أمنياً والذي يعتمد اقتصاده على مجالات حساسة كالعقار والنفط والسياحة.

وفي "إسرائيل"، لا زال المحللون الأمنيون يعتقدون أن الجيش لا زال بعيداً عن شن حرب بمفرده ضد طهران، نظراً لتوسع الدوائر الإيرانية، وعدم الرغبة في إغضاب الولايات المتحدة، فضلاً عن الأمر وحده لا يتعلق، ولم يكن يتعلق قط، بقدرة "إسرائيل" على الضرب، بقدر ما يتعلق، دوماً، بالقدرة على استيعاب رد الفعل الإيراني. وبحسب هرئيل، فإن رسائل كوخافي الانتحارية في ذروتها، تحمل مضامين مسيئة للاحتلال، خاصة إذا ما نظرنا إليها من زاوية عدم وجود خطط جاهزة لقصف إيران بعد كل سنوات التهديد السابقة، وأن هذه الخطط الجديدة تحتاج دعماً رسمياً عاجلاً بمليارات الشواكل.

اللافت أيضاً في هذا السياق، أن المؤتمر شهد نموذج محاكاة لحرب محتملة بين أذرع إيران، وحدها دون تدخل إيران، من جهة، ودولة الاحتلال من جهة أخرى، كانت نتيجته أن هذه الأذرع نجحت في قصف مناطق البحر الأحمر من غرب العراق بصواريخ دقيقة أدت إلى إيقاع خسائر بشرية كبيرة في الاحتلال.

تبع هذا القصفَ رد إسرائيلي مركز ولكن على لبنان ضد منظومة تطوير دقة الصواريخ التابعة لحزب الله، الذي صعّد بدوره تدريجياً إلى أن قصف قصفاً خلف عدد قتلى كبيراً، ما أجبر الاحتلال على احتواء التصعيد خوفاً من تفاقم الوضع دون تحقيق نصر سريع وحاسم، أو كما قال عاموس يادلين مدير المعهد: "بالتفكير العقلاني، لا يهتم أي من الطرفين بالحرب، فالجميع يدرك التكلفة الباهظة لمخاطرها مقابل القليل من الفرص لتعزيز المصالح الحيوية".

في ضوء هذه القراءة، يمكن القول إن الهدف الرئيسي لكوخاڤي من خطاب الحرب هذا تحقق: دعم نتنياهو انتخابياً، وضخ مستقبلي لمزيد من الأموال لدعم خططه العملياتية، أما الحرب نفسها، فكما قال قادة الحرس الثوري الإيراني من قبل، ستكون أبرز مؤشراتها: سحب المعدات العسكرية وإعادة تموضع المواقع الاستراتيجية بعيداً عن مديات الصواريخ الإيرانية، وليس الإعلان عن ميعاد مسبق لها وجلب مزيد من القطع العسكرية. 

وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن رسائل الإدارة الجديدة تجاه الخطاب الأخير ليست واضحة بعد، فمن ناحية، لم يحدث أي اتصال تليفوني بين بايدن ونتنياهو إلى الآن، بالرغم من تواصل الأول مع كثير من قادة العالم، ولكن قائداً عسكرياً رفيع المستوى وصل إلى الاحتلال بعد الخطاب بروح يغلب عليها الود وتجاهل كلام كوخاڤي، وهو ما يرجح أن الولايات المتحدة، على المستوى العسكري، ستواصل ابتلاع أخطاء ابنتها المدللة، أما سياسياً، فلن يكون أمام نتنياهو طريق مغاير لما فعله مع أوباما: تحسين شروط الاتفاق، والحصول على معدات متقدمة، والعمل العسكري المنفرد سراً عن بعد، ضمن خطة "الحرب بين الحروب".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد