تكسبه الحكمة والطمأنينة في عالم مُقلق ومادي.. ماذا تضيف الفلسفة الرواقية إلى إنسان القرن الـ21؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/04 الساعة 14:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/04 الساعة 14:54 بتوقيت غرينتش

يتزاحمُ تاريخ الفلسفة بالمذاهب والاتجاهات المتعددة، وينطبعُ كل مذهب بخصائص عصره، ويمثلُ ما وصلَ إليه التطورُ الفكري في مرحلة تاريخية معينة. إذاً الفكر مرآة للواقع، صحيح أنَّ الفكرة تبدو أكثر تطوراً من المرحلة التي حملت نواتها الأولى، لكن هذا لا يعني انفصالها من بيئتها، من الوضع الراهن، فالفلسفة في كل الأحوال لا تنهضُ إلا من الواقع.

والسؤال الذي يفرضُ نفسه هو: إذا كان كل مذهب فلسفي انعكاساً للوعي  بمتطلبات حلقة تاريخية، وإرهاصاً بشكل المرحلة اللاحقة، فبماذا تفيدُ العودةُ إلى المذاهب الفلسفية وهي وليدةُ ماضِ سحيق؟ بعبارة أوضح ماذا تضيفُ الفلسفة الرواقية إلى الإنسان المعاصر؟ ونحن نعرفُ أنَّ أصحاب هذه المدرسة يغلبهم الميل نحو التقشف، فيما أصبحت الأرقام بوظيفتها المادية لغةً للعالم الحديث.

بدايةً لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الأسئلة الوجودية ركنُ أساسي في المنظومة الفلسفية، لذا لا ينسحبُ عليها ما قد ينطبقُ على النظريات العلمية التي ربما تفقدُ قيمتها بمجرد الإعلان عن الفتوحات الجديدة، بينما طيف الفلاسفة يلوحُ في الأفق كلما حلت الأزمة بالمجتمعات الإنسانية، لذا يرى فيلسوف الخلاص، لوك فيري، أنَّ تاريخ الفلسفة يشبه تاريخ الفن أكثر مما يشبه تاريخ العلوم، ففي الفن يمكن أن نحبَّ رؤى وأعمالا مختلفة، تماماً كما هو الحال بالنسبة للفلسفة، إذ لا تعوضُ أو تستبدل التيارات المعاصرة المدارس الكلاسيكية.

فضيلة الحرية

ما يزيدُ من أهمية الفلسفة الرواقية في هذا التوقيت هو انصراف أقطابها إلى الشؤون الحياتية، ومسعاهم الرامي لتحسين المستوى السلوكي لدى الفرد، لذلك تصنفُ الرواقية ضمن المدارس الأخلاقية، إذاً فمن الطبيعي بعد الخيبات المتراكمة جراء الانسياق وراء الوعود الخلاصية والترويج للأيديولوجيات المشحونة بالأوهام أن يتمَ البحثُ عن خيار آخر ينفعُ لإدراك التحديات الحياتية، وتفادي الوقوع في مطب الانفعالات السلبية، وهذا ما ينشدهُ المرءُ من العودة إلى العقلية الرواقية.
تبدأ مسيرة المعاناة الإنسانية برأي الرواقيين عندما يغيبُ الحاضر لدى الإنسان، ولا يكون نظره إلا على الماضي أو المستقبل، فيقولُ أحد روادها، لوكيوس سينيكا "فإننا من فرط العيش في الماضي والمستقبل تعوزنا الحياة". إنَّ الخطوة الأولى نحو طريق التعافي هي الإقامة في الحاضر. كما أنَّ الأولوية  للإنسان يجبُ أن تكونَ لتفريغ قراراته، ما يثير الأهواء الحزينة إذا أراد ألا يخسر حريته. وذلك يتطلبُ وجود الحكمة، لأنَّ الحرية وفقاً لزينون وهو مؤسس المدرسة الرواقية هي امتياز حصري للحكماء. والمرادُ من الاشتغال الفلسفي انطلاقاً من المبدأ الرواقي ليس إلا اكتساباً للطمأنينة. 

ويرى الباحث الإنجليزي أنطوني أرثر لونغ، أنَّ المهارة التي ركزَ عليها الرواقيون هي فن الحياة، لافتاً في دراسته عن كتاب "المختصر لإيبكتيتوس" إلى إمكانية فهم الفن باعتباره مرادفاً لمعرفة طريقة العيش بانسجام مع الطبيعة الإنسانية ومع البيئة الاجتماعية والمادية، ولا تتحقُ الحياة الخيرة إلا بالحفاظ على إرادة الفرد في انسجام مع الطبيعة. 

ومن المعلوم أنَّ مصطلح الطبيعة يغطي في برنامج الفيلسوف الرواقي ثلاثة مجالات، أولاً هيكل ومحتوى العالم المادي، ثانياً الطبيعة الإنسانية بما فيها الملكات العقلية والكفاءات والإمكانات، ثالثاً القيم التي قد تتفقُ أو تفشل مع التفوق الإنساني. 

ما يقعُ في الطبيعة ليس سيئاً، ولا يصحُّ الافتراض أنهُ بالإمكان أن يحدث بطريقة مختلفة، وهنا يتمثلُ ذكاء البشر في فهم الطبيعة الخارجية والتناغم معها في الأفعال والتصرفات، وهذا يذكرنا بحكمة نيتشة: "يجبُ للإنسان أن يكون جاراً صالحاً للأشياء الأقرب منه". 

وفي الحال، إذا كان الاختيار مناقضاً لهذا المسلك فلن تكون نتيجته على الأغلب سوى الإحباط، وما يمكنُ الإنسان من إدارة دفة أموره هو العقل الذي يتضمنُ "المحاكمة والدافع والاختيار". وهذا يندرجُ في صنف الأشياء العائدة إلينا، وبالتالي تتراخى سلطة الأشياء الخارجية على الرغبات والمخاوف. إلى جانب ما سبق ذكره فإنَّ الفلسفة الرواقية تهدفُ إلى التحكم في الانطباعات والتوهمات التي تغزو الرأس، مثل القلق على الصحة، والحصر النفسي تجاه حالة العالم، إذ ما هو ضروري القيام به مع هذه التجارب هو التآلف النفسي معها وإدارتها وتفسير العوامل التي تقفُ خلفها.  

ممارسة الفلسفة الرواقية

لا يمكنُ اختزال التفلسف في اقتناء المعرفة، بل من الضروري تحويل المفاهيم الفلسفية إلى ممارسة على المستوى المعيشي، إذ لا يجدي ترديد المفردات المقتبسة من معجم الفلسفة دون أن يكونَ ذلك دافعاً لفهم متعمق وتحسين الرؤية للمعطيات والظواهر التي تحيط بنا. 

يقولُ إيبكتيتوس عن النشاط الفلسفي إنهُ استعداد لمواجهة الأشياء التي تفرض نفسها علينا. وهذا النسق من التفكير هو ما يحتاجه العالم اليوم، وتستشفُّ  ظله في وصف نسيم طالب لتاريخ البشرية "إنَّ تاريخنا سلسلة من الأحداث الكبيرة التي لم يتوقعها أي شخص"، وما يكون مصدر الإزعاج بنظر المذهب الرواقي  ليس الأشياء في حد ذاتها، بل أحكامنا عنها هي ما يزعجنا، هنا يتقاطعُ سبينوزا مع حكمة رواقية عندما ينصحنا بعدم إطلاق الأحكام على ما نصادفه من الظواهر، كذلك يوافقُ صاحبُ "اللاهوت السياسي"، سلفه الرواقي "إيبكتيتوس" في زهده الفلسفي، مؤكداً أن "من يكون الأكثرُ تعلقاً  بكل ضروب الخرافة هم أولئك الذين يرغبون بكل جموح في الخيرات الخارجية". ويصبحُ الإنسانُ أكثر هدوءاً وحرية إذا لم يتبدل مزاجهُ حسب ما يطلقُ عليه الناس من الأحكام، ورد في المختصر: "إذا أُخبرتَ أن أحداً يتحدث عنك بالسوء فلا تدافع عن نفسك، بل قل من الواضح أنَّه لا يعرفُ بقية عيوبي، وإلا لتحدث عنها أيضاً".

إذاً تنظمُ الفلسفة الرواقية شكل علاقتنا بالآخر، إذ إنَّ ما يعجبنا ربما يرفضهُ المقابلُ، كما أنَّ البطولات والفضائل التي ننسبها لأنفسنا قد تثيرُ غيظ المستمع ويشعرُ بالملل، لذا يقول الفيلسوف إبيكتيتوس، الذي عاش عبداً قبل عِتقه "لا تُطِل حديثك عن أفعالك ومغامراتك أمام أصدقائك". ويقولُ صاحب التأملات "كم تعجبتُ أنَّ كل إنسان يحبُّ نفسه أكثر من أي شخص آخر، بينما يضع رأيه في نفسه موضعاً أدنى من رأي الآخرين فيه".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
كه يلان محمد
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
تحميل المزيد