الجدلية بين صندوق النقد الدولي والنيوليبرالية

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/02 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/02 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش

 "صندوق الشيطان".. هكذا أطلق عليه الشعب الأرجنتيني على صندوق النقد الدولي، بعد أن عانوا ما عانوه من فقرٍ وتدهورٍ في الوضع الاقتصادي والمعيشي بسبب شروطه القاسية، أما مهاتير محمد، الذي استطاع أن يهرب من خدعة الصندوق، فقد قال:

"إن شروط صندوق النقد الدولي تعجيزية، فإنها تشترط على الحكومة أن ترفع الدعم عن المواد الأساسية، ناهيك عن زيادة الضرائب بشكل جنوني، فهذه السياسة الضريبية تستهدف الطبقتين الوسطى والفقيرة، اللتين سوف يتم سحقهما تماماً، مما يعني ترسيخ الفجوة الطبقية بين الشرائح الاجتماعية، ثم ترشيد الإنفاق الحكومي، ثم الأهم من ذلك هو خصخصة القطاعات الحكومية والمرافق العامة، حيث تكمن الخطورة التي سوف نتطرق لها لاحقاً". ولكن قد يتساءل البعض ما هي العلاقة بين صندوق النقد الدولي والرأسمالية المتوحشة المسماة اليوم بالنيوليبرالية؟

في سنة 1929 تعرض العالم إلى انتكاسةٍ كبيرة على المستوى الاقتصادي، سُميت آنذاك بالكساد الكبير، حينها تم انتقاد اللّيبراليّة التّقليديّة التي أوصلت العالم إلى هذه النكسة ونقضها، ثم طُرحت نظريّة كينز التي تطالب بتدخّل الدّولة، وتحويلها إلى دولة تدخليّة، بعد أن كانت دولةً حارسة، قائمة على مقولة آدم سميث. 

ولكن هذه النظرية لم تُعجب الكثير من أصحاب رؤوس الأموال، وبدأ الشعور لدى الرأسماليين أن تلك القيود التي رسمها جون كينز، تعزز من قوة البيروقراطية على حساب الرأسمالية، فلقد خرج الفيلسوف الاقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك لتأسيس نظرية النيولبيرالية، وهي النموذج المتوحش لليبيرالية التقليدية، التي تم إعلان فشلها في أزمة الكساد الكبير مؤخراً. وفي الجهة الأخرى، انتهت الحرب العالمية الثانية، حيث تم تأسيس نظام عالمي جديد، فتم إنشاء عدة منظمات دولية من ضمنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. بعد انتهاء الحرب وتأسيس الأمم المتحدة التي أوكل لها مهام إرساء السلام العالمي، هل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، هي جمعية خيرية كي تساعد الدول المنكوبة أو الغارقة في الديون وتنتشلها من أزمتها؟ ما الغاية من هذه المساعدات التي يعرضها صندوق النقد الدولي؟

صراع الدول والحضارات حتمي، هو من النواميس البشرية الملاصقة مع ولادة الإنسان لا مفر منه، فالقوي يأكل الضعيف، ولكن هذا الصراع يختلف في الشكل مع الوقت ولكن المضمون يبقى هو نفسه، فهذا الصراع اليوم قد أخذ شكلاً مغايراً للسابق، بعد اجتياح العولمة العالم في شقيه الاقتصادي والسياسي، تم ترسيخ الفلسفة الجديدة التي عُرفت بالنيوليبرالية، وبهذه الطريقة الخبيثة أصبح للعالم الغربي يد متوحشة جديدة اسمها صندوق النقد، فإن دول العالم الثالث بعد خروج المستعمر، لم تكن مؤهلة لاستقبال الديمقراطية، بسبب قصور حقلها المعرفي الإنساني، فالحرية والديمقراطية تحتاج إلى سنواتٍ من الوعي وتأصيله في عقل الإنسان، ففشل العالم الثالث في إدارة الكيانات السياسية الجديدة، التي كانت مستعمراتٍ سابقة، فلجأت الدول الكبرى إلى خدعة الصندوق، كي تحول تلك الدول إلى دولٍ فاشلة، كي تسطير عليها الشركات العملاقة وأصحاب رؤوس الأموال وتحولها من كيان ذي منفعة عامة إلى كيان ذي منفعة خاصة، وتزداد ثروات الأغنياء ويزداد الفقراء فقراً.

في لبنان انكشف مدى الانهيار الذي تمر به البلاد بعد ثورة 17 أكتوبر/تشرين، فقررت الحكومة اللبنانية اللجوء إلى صندوق النقد الدولي "الجرعة القاتلة". بعد أن انتهت الحرب اللبنانية في سنة 1990، فلقد تم توقيع اتفاق الطائف الذي أرسى تغييراتٍ في المشهد السياسي، وتم تعديل الدستور، ولكن للحقيقة فلقد تم تقويض الدولة إلى حدٍّ ما، وتم استكمال مشروع النيوليبرالية الذي بدأ فعلياً في سنة بعد ضرب بنك إنترا سنة 1966.

بعد الطائف، طُرحت فكرة خصخصة المؤسسات العامة، مثل مؤسسة مياه لبنان وكهرباء لبنان وغيرهما، بمعنى آخر تحجيم الدولة وإعفاؤها من مهامها الاجتماعية والتوجيه الاقتصادي ورعاية المواطن وحماية الوطن وسيادته، وإطلاق عنان للشركات الرأسمالية الخاصة، حيث أصبحت هي الآمر الناهي في الحياة الاقتصادية والسياسية، فالنيوليبرالية هي عبارة عن تحالف بين شركاتٍ عالمية وعسكريتارية وأنظمة أمنية استخباراتية، مدعومة فكرياً من مراكز أبحاث وجامعاتٍ تروج لهذه الفلسفة. واليوم جاء فكرة صندوق النقد الدولي، الذي فعلياً سوف ينهي دور الدولة في دورها تجاه المواطن اللبناني الذي يأن من التعب والفقر والجوع عبر رفع الدعم عن المواد الأساسية ورفع الضرائب بشكل جنوني دون أن تكون ضريبة تصاعدية، إضافةً إلى سياسة التقشف.

يظن الكثير أن هذه الخلطة السحرية سوف تساهم وتعيد الحياة الاقتصادية إلى وضعها الطبيعي، إضافةً إلى أن هدفها الأساسي هو التنمية والإنماء، ولكن في الحقيقة فإن صندوق النقد ليس إلا أحد أذرع النيوليبرالية المتوحشة، التي تهدف إلى إطلاق عنان أصحاب النفوذ والأموال وسيطرتها على كل ثروات البلد وتحويل الدولة إلى شركاتٍ خاصة سوف تتعاون مع الشركات المثيلة لها في دول الخارج كي تشكل في الخفاء حكومة عالمية تُدار من أغنى أغنياء العالم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عامر زياد
كاتب مهتم بالسياسة والاقتصاد
كاتب مهتم بالسياسة والاقتصاد
تحميل المزيد